الشريط الاخباري

ركوة حرف 14 خمسون ليلة وليلى ليسري الغول

نشر بتاريخ: 12-11-2016 | ثقافة وفنون
News Main Image

رام الله/PNN- خمسون ليلة وليلى هو الإصدار الأدبي الرابع، للكاتب الفلسطيني يسري الغول . ( يقع الإصدار في 136 صفحة، الناشر: دار فضاءات للنشر والتوزيع 2016 ـ تصميم الغلاف: دار فضاءات للنشر والتوزيع). في المجموعة الصادرة، تفوح روائح قاتمة من قلم يكتب بالوجع، يضع أصبعه على مكامن الحقيقة العارية، دون تملق، يتنقل بين خفايا وطنه المتخم بالجراح، يحاول أن يعلو حرف الإبداع بهويته الخاصة، التي لا تشبه أحدًا، وفيها يمتزج الواقع بالحلم، تمثل هذه المجموعة، صوتًا فلسطينيًا، بنكهة إنسانية متميزة، لا تقل في محتواها عن الرمز الإنساني العالمي. ((سأكتب رسالة إلى فانيا، لا بد من ذلك.))

في رسالة اتسمت بالتمني، بدأ القاص الفلسطيني يسري الغول، مجموعته القصصية ( خمسون ليلة وليلى)، معنونًا قصته الأولى ( عزيزتي فانيا). وقد استخدم القاص حرف السين، الملازم للأفعال المضارعة التالية : ( اكتب ـ أضحك ـ تجادلني ـ أقول ـ أخبرها ـ أبعث ). فكان سبق تلك الأفعال المضارعة بحرف السين، تحولاً تفاعليًا من الأفعال الحاضرة إلى الأفعال المستقبلية الفعل، المتمنية الحدوث، بركنها لخانة التمني والطموح. بدأ كاتبنا القصة ببداية الفعل الأساسي للممارسة الكتابية له، بقوله ( سأكتب)، ولنر كيف استخدم مفردة ( رسالة) دون أل التعريف، وهو بذلك يعطي دلالة على أن رسالة واحدة لا تكفي للبوح بمكنون حاله، ولتعدد الأحوال التي مرَ بها، فقد ترك الباب مشرعًا للكتابة كلما سنح الوقت والظرف بذلك. وقد استقر البدء في القصة بسطر واحد مقرر للفعل الحقيقي، وهذا ناتج عن حالة التحدي والاصطدام مع الجو الغير صحي والحالة النفسية غير المستقرة، فقد أوصل الكاتب الرسالة الأولى بسطره الأول هو أنني يجب أن أكتب. ((سأقول لها إنني ما زلت أتنفس، وإن من حولي ما زالوا كذلك أيضاً؛ فلعلها اعتقدت أنني قضيت مع صاروخ غادرٍ صفع المخيم أو الحي الذي نقطنه، وبأننا الآن تحت الركام. ))

في المشهد الأول من رسالته يبحث عن اختصار للحالة التي يعيشها، ويقرر فيها البوح بأنه على قيد الحياة، وقد رمز لذلك بقوله ( ما زلت أتنفس)، ولعل هذه الجملة تختصر الحياة، بأنها (حالة تنفس)، ولكي يدخل محيطه في خضم الحالة الشعورية، فإنه لا يقف عند حاله فقط، بل يشرك من حوله، لأن حدوث الضرر بمن حوله، يعطي احتمالين، الاحتمال الأول أن حالة السلامة هي حالة متكاملة، لا تنفصل بين الكاتب ومحيطه، فالمتسبب بأي حدث هجومي هي طائرات من نوع F16 الهجومية، والتي تكون نتيجة تأثير صواريخها متدحرجة بشكل عكسي بتداعيات تطال البيت المستهدف أولاً بشكل عميق وتطال البيوت المجاورة له وبمحيطه، لذا كان الإعلام من قبل المرسل للمرسل له بالطمأنة الشخصية والعائلية. أما الاحتمال الثاني، فهو أن حالة التنفس تختزل الحياة اليومية، بالمعنى المتعارف عليه من خلال ممارسة الحياة الطبيعية بشكل ما، رغم ما يدور من أحداث، قد يتفاوت بين وقت وآخر، وأنه بمأمن. ((سأضحك، وسأقول لها إن أجسادنا تكلست وأصابها مناعة غريبة من الموت. من ماتوا هم الصغار فقط. الصغار وحدهم الذين لا يعرفون معنى الموت، ولم يخطر لهم على بال أن تسقط القذائف كسيمفونيات على أرواحهم لتأخذهم إلى رحاب السماء. ))

ربما نتفاجىء بأن المشهد الثاني من القصة يبدأ بحالة غريبة لا تتناسب مع البداية، ففي حين بدأ الكاتب بــ ( سأكتب ـ سأقول )، لكنه تحول بقفزة حياتية تتسم بالحيوية والصفاء الذهني وهي ( سأضحك )، وهذا فعل غير قابل للقفز المفاجىء من شعور لشعور آخر، إلا في حالة واحدة وهي ( الجنون). فهل كان يقصد بها حالة العبثية الداخلية التي لوثت تركيزه، فلم يعد قادرًا على الترتيب المنطقي لمشاعره ! ويبرز في رسالته الحقيقة المدمية للقلب وهي أن الأبرياء هم ضحايا الحروب الحقيقيون، فالمطلوبون دومًا مختبئون عن الأعين سواءً فوقها أو في باطنها كما في حالة غزة. ..

وهنا تبرز لمحة خاطفة لوصف الكاتب ( من ماتوا هم الصغار فقط)، هل عني صغار السن من الأطفال، أم من هم صغار الأهمية، لكن ما لبث أن قدَّم ماهيتهم بقوله ( الذين لا يعرفون معنى الموت )، بَيد أن فرضية صغار الأهمية أو الجنود المتوارين تبقى قائمة بشكل موارب. ((ربما ستجادلني فانيا وتقول: إنني لا أؤمن بالجنة والخلود. وستبدأ بخطبتها وإيماءات جسدها التي توحي بأنها علمانية تناظر الكنيسة فتعطي درس الحياة. بينما تبتسم أوداجي رغماً عني وينطلق لساني بهويتي الإسلامية التي أعتز بها وأبدأ بدوري الحديث عن الأخطاء والخطايا، والحياة والموت والجنة والخلود. ))

وفي هذا المشهد يُقحم الكاتب المرسل لها ( فانيا) بأسلوبه هو، كما يعرفها بأن منهجها علماني، ولعل الكاتب وقع في خطأ فكري، فالعلمانيون يؤمنون بالجنة والنار والخلود، إلا أنهم يفصلون بين الدين وبين مفاصل الحياة الأخرى، أما أولئك الذين لا يعترفون بذلك فهم الملحدون. ((سأقول لها إنني في زمن الحرب صرت ماءً أتقي مصارع الجدران والأثاث الخشبي والمعدني. فقد خلعت أعضائي عضواً عضواً، وتحللت مني حتى لم أعد عالقاً بين الركام كما حدث مع زوجتي وأبنائي الذين لم يتعلموا كيفية التحول إلى أشياء أخرى. سأخبرها كيف تسربت بين الجدران حتى صار صوتي خريراً لم أعرفه أو أسمعه قبلاً، وكم من معطف وقميص وبنطال تشبثت بي، وأنا في طريقي نحو أطفالي الذين يبكون بحرقة. كنت أتسرب إليهم بهدوء حتى لا أحدث ضجيجاً يزيد من عمق جروحهم، وأنا الذي لا حول لي ولا قوة أمام الجنون الذي يقصفنا من أعلى فيجعلنا أرضاً محروقة)) في مشهد آخر يبدو للوهلة الأولى من النوع السوريالي برسم لوحة تجعل من كينونة الكاتب ماءً لا يتأثر بشيء مما حوله من الأهوال، بل ويتجاوز ذلك إلى نوع من السكينة الحذرة، ويلمح إلى أن الماء ضد النار، إذن فالحالة غير مرئية، بتحول متقن من شيء مادي محاصَر إلى شيء يتحول بتحول الحالة دون عناء ! لكن ورغم ذلك فإن حالة التحول لم تنفِ عن الحالة كينونتها الإنسانية، ونرى ذلك من خلال بعض النماذج الإيحائية ( يكون بحرقة ـ حتى لا أحدث ضجيجًا ـ لا حول لي ولا قوة ). في نقلة جديدة من القصة يبرز الطابع التجريدي للكاتب يسري الغول، وبطابع تفاعلي ساخر وموجع، فإنبات يده اليسرى، وولوجه كماء في أفواه أسرته، والرائحة المزكمة. .. كل هذا أتقنه الكاتب في جو لملم خيوط المشهد وجعلنا نشعر بهول الكارثة. ((عندما تقرأ فانيا رسالتي، ستنهار وتسألني عن السبب؛ فأجيبها بهدوء أن موت طفلي الصغير الذي ظللته بغمامتي هو ذلك السبب الذي غير مسام جسدي دون أن يجعلني سامقاً عظيماً كنخلة من الفولاذ. فقد غادر ذلك المشاكس بهدوء دون أن يصدر أي صوت. كان يشخر ثم ينطفئ فتنطفئ كل حواسي بعده. ))

ما يميز أسلوب الكاتب أنه قصصي يقترب من النمط النثري بل ويحاكي الشعر الحر في مفرداته واستحداث لغة معاصرة. ونلحظ ذلك في مقاطع متعددة ويتجلى ذلك في الإقرار القادم بحقيقة موت طفله الصغير، وقد دل ذلك على أسلوبه النثري بـ تراكيب كـ ( ظللته بغمامتي ـ غير مسام جسدي ـ كنخلة من فولاذ ). .. ((سأقول لفانيا إنني عدت لولدي البِكر وزوجتي. تسربت إليهم بحذر وسقيتهم من يدي شربة لن يظمؤوا بعدها، ثم حملتهم. خرجت مهرولاً لأكتشف أنهم بلا سيقان/ أننا بلا سيقان. أعلم إنها ستقول لي: هل تذكر ذلك الرجل الذي كان يقوم بأعمال بهلوانية في شوارع مانهتن بنيويورك دون أن تظهر سيقانه أمام العامة؟ أم لعلك لا تذكر؟ وستقول أيضاً: إنها في حينه أرادت مداعبة ذلك المسكين فقرصته من إحدى ردفيه ليصرخ: (آآو) كما في أفلام هوليود. تضحك فيضحك من يتحلقون حوله. يلقون بدولاراتهم بينما يبكي ذلك العجوز لإهانته. تخرج قدمه الخشبية أمامنا فتدمي قلوبنا. تعتذر فانيا لذلك المسكين، تطبع قبلة على خده وتلقي بعشرة دولارات داخل قبعته ثم تمضي. ))

ونتيجة لهذا الفقد تبدأ عملية الربط بين الذكرى القريبة وتلك الذكرى التي لم تئدها الأهوال التي لحقت به وعائلته. وكان عامل الربط هو البتر ( فقدان السيقان)، ويكمن التوظيف الحقيقي هنا في هذا المشهد بانزياح المعاناة المحصورة في غزة جراء الحروب إلى الانفتاح على المعاناة الإنسانية العالمية المتمثلة في أعباء الحياة، وهنا تكمن العقدة في نظرة المجتمع الغربي لغزة بالمفهوم الجمعي وهو ما يبرزه الكاتب بتوازٍ، مع اختلاف النظرة الغربية وخاصة الأمريكية على أنها منطقة توتر وتجمع التطرف، وما نتج عن هذا الانحياز للجلاد ( إسرائيل )، باعتباره مدافعًا عن حدوده، وبين الضحية (غزة) المتحرشة دومًا بـ ( إسرائيل). وهنا يبرز الرمز في التوظيف البنيوي. وبالمقابل حالة الرجل البهلوان في نيويورك الذي لا سيقان له، وقد يكون أصيب في حادثة حياتية أو ما شاكل ذلك. .. وفي سطر قادم يلخص الكاتب هذه النظرة بقوله ( يلقون بدولاراتهم بينما يبكي ذلك العجوز لإهانته. تخرج قدمه الخشبية فتدمي قلوبنا ). في مشهد القصة الأخير تتوقف الأفعال الحاضرة المستقبلية للكاتب، يأسرها بتملك القرار فعل وحيد بقوله ( سأبعث رسالتي حالما أتعافى وأصير بجناحين كبيرين) ! وهنا تبرز حالة الخلاص العامة من غياهب الحروب الطاحنة، وتوق الجمع للحرية، لكن التمني الذي يكون وقوده الخيال فقط لا مكان له إلا في عالم الأحلام والأحلام فقط. مزيج من أسلوب التداعي بطريقة ذكية. .. في خانة البوح الأخير في الرسالة المزمعة يفض الكاتب يسري الغول بكارة الألغاز وأسلوب التورية فتنفجر دماء الواقع في إعلانه الصريح بالواقع المرير ( آه يا فانيا لو كان لنا مطار، لو كان لنا ميناء، لو كانت لدينا نصف حياة. ..إلى قوله سأبعث برسالتي حالما تفتح بوابة معبر رفح السوداء. . ) ويقرر في آخر سطر من القصة أنه يعترف بحقيقة واحدة بعيدة عن كل الأماني المستقبلية بأنه لن يغادر غزة وسيظل إلى أن يموت وهذا يظهر بقوله ( إنني قررت أن أظل في هذا العراء مسجونًا حتى تأذن لي جدتي بصعود السماء ).

تمت

شارك هذا الخبر!