الشريط الاخباري

امرأة الساعة السادسة والثلاثين

نشر بتاريخ: 24-10-2017 | أفكار
News Main Image

بقلم/ عيسى قراقع رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين

في الساعة السادسة والثلاثين التقيتها في ساحة الجامعة، هذه المرأة تغيرت ، كبرت، وجهها متوتر وعبوس، عيونها شاردة وحادة، ومنذ أن استقبلتها امام سجن الرملة للنساء وهي صامتة، تتلفت يسارا ويمينا، في فمها كلام ثقيل ، لكنها لم تتكلم. انه موعد انتظره منذ زمن طويل، عادت اخيرا، خرجت من بين الف جدار وباب مغلق ، تنفست هواء الساعة السادسة والثلاثين، كان كف يدها باردا، وفي جيبي كل رسائلها المهربة لي، فيا ترى هل تحمل رسائلي ايضا؟ هل تحبني كما كانت، وتجري في ساحة الجامعة كعادتها ، تملأ حقيبتي بالحجارة وقناني المولوتوف؟ هل تتفقدني في المظاهرة؟ تسأل عني، تراقبني ، تخشى ان اصاب بالرصاص ، وكثيرا ما اعطتني البصل لاتقي الغاز المسيل للدموع. في الساعة السادسة والثلاثين، اعتقلوها، جرت كالغزال هاربة من الجنود والرصاص، اصابوها وضربوها وعذبوها، أخذوا كل شيء منها الا ما تخبئه في قلبها، الشمس مالت قليلا في تلك الساعة ، الشمس دلتني على خطواتها وظلالها وهي تنسحب في الغياب وبين الظلمات، كأن الفراق بلاد تتجدد سجونها وقيودها. لم اعد استطع ان ادخل المخيم دون ان أراها، لم اعد قادرا ان اكمل تعليمي دون حضورها درس اللغة العربية معي، لازال البحث الذي ساعدتها به حول اشعار الشاعر راشد حسين موجودا معي، ها هو راشد حسين ينتظر ايضا بقربي وانا أردد أشعاره: ألا تبصرين عروق جبيني تحاول لثم شفاهك أنا في انتظارك أصبح شعري ترابا وصار حقولا و أصبح قمحا و أضحى شجر أنا كل ما ظل من أرضنا انا كل ما ظل مما عشقت فجودي .. و جودي وجودى مطر في سجن المسكوبية شبحوها وضربوها، جميع المشبوحين والمحشورين في الزنازين سمعوا صراخها، وعراكها مع السجانين ، كانت مزعجة في ليل المسكوبية يقول المحققون، عنيدة ، دارت عقارب التحقيق كثيرا طويلا، اجلسوها على كرسي محني الظهر مقيدة ومعصوبة الأعين، حشروها في غرفة باردة كالثلاجة، هددوها شتموها، بصقوا عليها، ركلوها، تعبوا جدا، وكانت الساعة السادسة والثلاثين بتوقيت المسكوبية. لا وقت في سجن المسكوبية ، لا ليل ولا نهار، يولد المساء من الأصوات والصراخ، ويولد الصباح من النعاس الثقيل بين الروح والارض المرهقة، سألت المحقق: ما الساعة الآن؟ أجاب بعصبية: الساسة والثلاثين. السجن أخذها طويلا، وهناك قرأت كتاب تحت اعواد المشانق لفوتشيك، ومعذبوا الارض لفرانس فانون، وشرق المتوسط لعبد الرحمن منيف، وقرأت حنيني البعيد البعيد لها، وهي ترسم برموش عينيها حياة اخرى قادمة ، ظهرها يؤلمها بسبب التعذيب ، هناك اوجاع في الرأس، وهناك موعد بعد سنوات الساعة السادسة والثلاثين في ساحة الجامعة، وقد أحضرت لها قصيدة ناظم حكمت وهو يقول: إن قضاء السنوات العشر بالسجن او الخمس عشرة أو ما هو أكثر ليس بالامر المستحيل إنها تنقضي شريطة ألا تسوّد الجوهرة التي تحت ثديك الايسر في المحكمة العسكرية رأيتها، وكم تكره هؤلاء القضاة الذين استنفروا من وجود امراة في قاعة المحكمة ، تفحصوا قوانينهم، وعادوا الى ثقافتهم العنصرية، تحسسوا مسدساتهم ورتبهم وكانوا مدهوشين خائفين، فاصدروا حكما قاسيا سريعا كأنهم مستعجلون للخروج من القاعة، أغلقوا الملفات والابواب وخبأوا المفاتيح وأطفأوا الضوء، اوقفوا عقارب الساعة. ها قد عادت، هل تمشي معي ككل مرة في ساحة الميلاد، نتفقد المصاطب والادراج القديمة ، نشتري الفلافل ونشعل شمعة في مذود العذراء، نضحك ونبتسم ونمر عن سيارات الجنود الاسرائيليين دون مبالاة، نتفقد صوتنا وقبلاتنا الاولى، نزور المكان الذي سقطت فيه تغريد البطمة ومحمد ابو عكر واسحق ابو سرور، نرتدي هدوء المدينة وسلامها وايمانها، نقطف من زيتونها ونأكل من خبزها ونرى اكثر مما يراه المحتلون المتأهبون في الشوارع والساحات. الساعة السادسة والثلاثون، شعرت ان هذه المرأة تجف، ذابلة وجهها اصفر كأنها مريضة، اين حقولها وخضرتها وفراشاتها الملونة؟ اين مرحها وشقاوتها وصوتها الجميل واصرارها العنيد على المشاركة والمساواة واثبات الوجود؟ احسست ان السجن اكل منها الكثير، مصدومة هذه المرأة ، ربما انا الذي تغيرت، ربما هذه الجغرافيا انسحبت من عقلنا، ربما الذي كان لم يكن ، ذهب الكثيرون الكثيرون، هنا لغة مختلفة، هنا اغتراب واسع، هنا حزن قديم ونار تحت الاصابع، توسلت قائلة : خذ يدي، لكي أتخلص من اللغة الماكرة ، خذني وأخرجني من هذه الدائرة. الساعة السادسة والثلاثون جلسنا صامتين، ننتظر ان تنفجر الارض من تحت اقدامنا، ان يخرج نبع او دم شهيد او حجر صوان نقدحه نارا أوشظى، ان يمر أصدقاء يطرحون السلام والاسئلة، ان نسافر كما كنا في خيالنا الانساني دون مدى، لم يات أحد، بقينا صامتين، وكنت اشعر ان اصواتا في داخلها : المعذبون المقهورون الذين بحثوا عن آفاق لما بعد معاناتهم ، أن يكون للتضحية معنى، ان تثمر الشجرة، ان يجري النهر، ان نكون اسيادا على عشقنا وحياتنا وما هو لنا ولنا فقط، بقينا صامتين. الساعة السادسة والثلاثون، تصالحنا بعد انقطاع طويل، رممنا جروحنا وذكرياتنا وقرأنا على بعضنا ما خبأناه من قصائد واشتياقات، وكان لا بد ان نسافر الى زيتونة البدوي الكنعانية لنشرب تحتها الماء والشاي والزيت، نجلس تحت أغصان تاريخها، لكن الحاجز العسكري اعادنا بعد ان صادر منا كل شيء، تنهدت على صدري كالحقول وهي تشهق: الحياة الحياة. الساعة السادسة والثلاثون اكتشفنا اننا تغيرنا، ننظر في اتجاهات متعاكسة، المرايا لا تدل علينا، الناس تغيروا ، كل شيء جرى له ازاحة، الشجرة، الغيمة، السنسلة، الثقافة والتطلعات، هي خائفة مني وأنا خائف منها، الافضل لنا ان ندخل الى الظل، لم يعد ما نقوله لهذه الارض، لا لغزلانها ولا لأبوابها وعتباتها، لا لأسوارها وأقفالها ونوافذها ، قلت لها: ادخلي الآن ظلي، ما تبقى مني في هذ البلاد. الساعة السادسة والثلاثون اتفقنا ان الموت يعسكر بين شفتينا، هذه السنة الرصاص يلبس مراييل البنات وجبات الاولاد الذاهبين الى المدارس، البنات والاولاد يعدمون، يمسكون الموت بلباسهم الاخضر، اسمع العشب حولي يئن، الدفاتر والاقلام والهواء، لا طريق وما من نداء ، غير اني في حضرتها شممت رائحة دمي في هذا المساء. الساعة السادسة والثلاثون اخذوها، وكان علي أن افهم سرّ الغموض في هذه المدينة كي اصل الى بيت الوضوح في قلبها، لم استطع ، فمن يدلني عليها الآن؟ من يأخذني اليها؟ ويقول لها: أين كنا وكيف افترقنا؟ ولماذا لا يلمس صدري غير يد قاتل ؟ من يخبرها اني مازلت انتظر الساعة السادسة والثلاثين. أيها الغائب الحبيب المضيء زرعت الوعد لكني اضعت الطريق لا تمت، لا تمت قبل ان تتقبل ناري ايها الغائب الذي لا يجيء

المقالة تعكس وجهة نظر الكاتب وليس بالضرورة أن تعكس وجهة نظر شبكة فلسطين الاخبارية PNN

شارك هذا الخبر!