الشريط الاخباري

علاج السمنة عن طريق "جراحة في المخ"

نشر بتاريخ: 30-03-2018 | منوعات
News Main Image
لجأ الأطباء إلى زرع أقطاب كهربائية في دماغ مريضة تعاني من الاكتئاب، بعد أن استنفدوا جميع سبل العلاج، لكنهم لاحظوا بعض المزايا الأخرى المدهشة لعملية تحفيز الدماغ. أمضت آنَا (ليس اسمها الحقيقي) أغلب سنوات شبابها في صراع مع الاكتئاب، وجربت طرق علاج كثيرة لمساعدتها في الشفاء منه، بداية من مضادات الاكتئاب، ومرورا بالعلاج النفسي، وحتى العلاج بالصدمة الكهربائية، من خلال تمرير تيار كهربائي عبر الدماغ بأكمله. لكن تأثير هذه العلاجات لا يدوم إلا لفترات قصيرة، وسرعان ما يعاودها الاكتئاب مرة أخرى. إلا أن آنَا كانت تعاني أيضا من السمنة المرضية المفرطة، إذ كانت تزن 183 كيلوغراما، وبلغ مؤشر كتلة الجسم (أي العلاقة بين وزن جسمها وطولها) 63 درجة، وهذا جعلها قليلة الحركة، وبالتالي تفاقمت أعراض الاكتئاب. وكلما زاد وزنها، اشتدت أعراض الاكتئاب والعكس. وساعدت جراحة تحويل مسار المعدة في إنقاص وزنها إلى حد ما، لكن ليس كما كانت تتوقع، كما كان تأثيرها محدودا على الاكتئاب. وأخيرا قرر الأطباء النفسيون، بعد استنفاد جميع سبل العلاج، إجراء عملية زرع جهاز كهربائي في دماغها، وتعرف هذه العملية باسم "التحفيز العميق للدماغ". ولم تساعد هذه العملية في علاجها من الاكتئاب فحسب، بل أيضا ساهمت في إنقاص وزنها أكثر من طرق إنقاص الوزن الأخرى. إذ كانت تفقد نحو 2.8 كليوغرام شهريا، أي أكثر بنسبة 50 في المئة من الكيلوغرامات التي كانت تفقدها بعد جراحة تحويل مسار المعدة. ويقول توماس مونتي، طبيب الأعصاب بجامعة ليوبيك بألمانيا، الذي تولى علاج آنّا، إن الهدف الرئيسي من هذه العملية كان علاج الاكتئاب، لكن إنقاص الوزن كان هدفا ثانويا. إلا أن الوزن والاكتئاب كانا مرتبطين معا في حالة آنّا. وقد يثير نجاح هذه العملية نقاشا جديدا حول كيفية معالجة السمنة التي توصف بأنها وباء العصر، كما يفتح المجال أمام إمكانية إعادة برمجة الدماغ، في حالات نادرة، للامتناع عن السلوكيات التي تؤثر سلبيا على الصحة، مثل الإدمان. ربما تظل عملية التحفيز العميق للدماغ مثار جدل، لكنها ليست جديدة، إذ يعود اكتشافها إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حين كان جراحو الأعصاب أقل حذرا بمراحل من جراحي الأعصاب في الوقت الحالي. وقد طور جراح الأعصاب، وايلدر بينفيلد، أسلوبا جريئا لعلاج الصرع، من خلال تحفيز أجزاء مختلفة من الدماغ بمسبار كهربائي، مع بقاء المريض مستيقظا طوال العملية، حتى يقيّم آثارها. وكانت فكرته تدور حول تحديد البؤر المسببة للمشكلة من الدماغ وتدميرها. ويقول مونتي: "هذا يشبه كيّ أجزاء من الدماغ" لتعطيلها، وهذ الطريقة كانت تساعد في القضاء على اضطرابات الحركة مثل، خلل التوتر (أو ديستونيا) الذي يسبب تشنجات لا إرادية متكررة أو ارتجافات. وسُميت هذه العملية "الجراحة بالتصويب المجسم"، واشتُهرت هذه الفترة "بالعمليات التجريبية منقطعة النظير التي كانت تُجرى على البشر". وفي الوقت نفسه، أجرى طبيب الأعصاب، أنتونيو إيغاز مونيز، محاولات لإزالة أجزاء صغيرة من أدمغة المرضى بقصد القضاء على الاضطرابات النفسية، ومنها الاكتئاب، حتى لو كانت هذه الأجزاء الفص الجبهي، المسؤول عن التخطيط المسبق وتحديد السمات الشخصية. وفي حالات عديدة، عُدّ العلاج ناجحا، أما التبعات والتغيرات التي طرأت على شخصية المرضى، فقد وصفت بأنها آثار جانبية لا مفر منها. والمدهش أن هذا العلاج أهّله للحصول على جائزة نوبل في عام 1949. إلا أن هذه العمليات التجريبية مهدت الطريق لدراسة كيفية تحفيز الدماغ وتطبيق ذلك عمليا، وأتاحت الفرصة لأطباء الأعصاب للتعرف على مناطق الدماغ التي قد تستفيد من التحفيز بالأقطاب الكهربائية. ومع انتشار الأدوية المضادة للذهان والاكتئاب، استغنى الأطباء تدريجيا عن هذه الأساليب العلاجية التي تترك أثرا دائما في الدماغ. لكن المعلومات التي جمعوها عن مناطق الدماغ التي أُجريت عليها هذه العمليات، كانت الأساس لتطوير عملية التحفيز العميق للدماغ كما نعرفها اليوم. وفي عام 2002، استُخدمت عملية التحفيز العميق للدماغ رسميا لعلاج داء باركنسون، وحققت نجاحا بكل المقاييس، إذ عالجت ما يزيد على 40 ألف مريض بالشلل الرعاش. وبالرغم من أن هذه العملية كانت تُستخدم في الغالب لعلاج اضطرابات ذلك المرض، إلا أن نجاحها شجع الأطباء على إجرائها لعلاج حالات أخرى، مثل الاكتئاب الحاد. ولتنفيذ عملية التحفيز العميق للدماغ، يحفر الأطباء ثقبا صغيرا في جمجمة المريض، ثم يُدخلون من خلاله الأقطاب الكهربائية إلى الدماغ، ويظل المريض مستيقظا في الغالب، حتى يتمكن الباحثون من معرفة البؤرة المسببة للاضطرابات أثناء تحفيز الدماغ. وفي حالة آنّا، كانت المنطقة المستهدفة من الدماغ هي منطقة "النواة المتكئة"، المسؤولة عن المكافأة، ولها أهمية في عملية الربط ما بين المثير والشعور بالمتعة. ويقول مونتي، لموقع "بي بي سي فيوتشر" عن مريضته، التي فضلت عدم الإفصاح عن اسمها الحقيقي: "عندما تحفز هذه المنطقة من الدماغ كهربائيا، يمكنك أن تلاحظ على الفور استجابة انفعالية من المريض". يقول مونتي إن السمنة قد يكون مردها لدى بعض الأفراد تغيرات في نظام المكافأة في الدماغ. وفي إحدى الدراسات، كانت استجابة أدمغة المصابين بالسمنة تجاه صور الطعام الشهي مختلفة عن استجابة أدمغة من يعانون من النحافة تجاه نفس الصور. ومؤدى هذه النظرية أن منطقة "النواة المتكئة" من الدماغ هي المسؤولة عن جذب المدمنين إلى الأشياء التي يشتهونها، سواء كانت طعام أو كحول أو مخدرات. وتكبح عادة المنطقة، التي تساعدنا على التصرف بعقلانية في الدماغ، جماح هذا الجزء التواق للمكافئة الفورية. لكن بيوتر زيلنسكي، طبيب الأعصاب بجامعة التربية البدنية والرياضة بمدينة غدانسك ببولندا، يقول: "قد يطغى نظام المكافآة بالدماغ أحيانا على التفكير العقلاني". وقد ازدهر مجال الأنظمة الغذائية بفضل التعرف الجيد على منطقة "النواة المتكئة"، على حد وصفه. إلا أن تأثير عملية تحفيز الدماغ لا يزال غير واضح تماما، ولهذا لا تزال هذه العملية مثارا للجدل. وربما نكتشف لها آثارا إيجابية أخرى على البدانة والاكتئاب، مع ظهور حالات جديدة شبيهة بحالة آنّا. وقد عالج الأطباء الشراهة في تناول الطعام في بعض الحالات كسلوك قهري، إذ كانت بدانة إحدى المريضات سببها ورم في الدماغ أصابها في مرحلة الطفولة، وأتلف الجزء المسؤول عن تنظيم الجوع والإحساس بالشبع من الدماغ. وكانت المريضة لا تفكر في شيء سوى الطعام. ويقول زيلنيسكي: "في هذه الحالات، رأينا أن جراحات السمنة لن تجدي نفعا"، وبالرغم من أن هذه المريضة لم تفقد وزنا هائلا، إلا أن أثر عملية تحفيز الدماغ بدّل حياتها تماما، إذ استطاعت أن تعتمد على نفسها، وتدرس وتفكر في أشياء أخرى غير الطعام. لكن مونتي يشدد على أن عملية تحفيز الدماغ لا يلجأ إليها الأطباء لعلاج السمنة إلا بعد استنفاد جميع سبل العلاج الأخرى، لأنها باهظة وتتطلب تدخلا جراحيا، ولا تناسب أغلبية المصابين بالسمنة. لكنها تناسب تماما المصابين بالسمنة الذين يُظهرون سلوكيات إدمانية تجاه الطعام. وتدرس سونيا ياكوم، طبيبة أعصاب متخصصة في السمنة بمعهد أبحاث أوريغون، هذه الميول الإدمانية لدى البعض. وأوضحت أن الطعام قد ينشّط نفس المراكز من الدماغ التي تنشط في حالة الإدمان، وهذا يعني أن صورة الطعام قد تثير نفس الاستجابة العصبية التي تثيرها صور الكحول والمخدرات لدى مدمنيها. وكشف أحد أبحاث يوكوم، على سبيل المثال، أن المراهقين الذين ينتبهون إلى الطعام أكثر من غيرهم كانوا أكثر عرضة للسمنة المفرطة. وتقول يوكوم: "هذا يعني أن بعض الناس يحدث لديهم نشاط زائد في منطقة المكافأة من الدماغ عند رؤية الطعام، مقارنة بغيرهم (قد يكون لأسباب وراثية) وهذا يجعلهم يشتهون الطعام بمجرد النظر إليه، مما يدفعهم إلى تناول كميات أكبر من الأطعمة الغنية بالسعرات الحرارية، مما يؤدي إلى زيادة وزنهم". كانت آنّا حالة مثالية لتجربة تأثير التحفيز العميق للدماغ على الاكتئاب والسمنة، لأنها تمثل عينة من المصابين بالسمنة الذين لديهم أعراض إدمان تجاه الطعام، ويواجه هؤلاء صعوبة شديدة عادة في الامتناع عن الأكل إذا عُرض عليهم الطعام، تماما كمدمن الكحول الذي لا يمكنه المرور بجانب الحانة دون الدخول إليها. وتطور ياكوم وفريقها تدريبات جديدة بغرض مساعدة المصابين بالسمنة على إعادة برمجة الدماغ للاستجابة بطريقة مختلفة للطعام. إذ يعرضون على المرضى صورا رقمية لطعام صحي ثم يطلبون منهم أن يضغطوا على زر "الإعجاب"، وأن يفعلوا العكس مع الأطعمة غير الصحية. وهذه التدريبات أقل كلفة وأكثر أمانا من التدخلات الجراحية، وقد تسهم في التصدي لوباء السمنة. إذ تشير التقديرات إلى أن 650 مليون شخص بالغ و340 مليون طفل ومراهق في العالم يعدون من أصحاب الوزن الزائد، وتتسبب السمنة في وفاة 2.8 مليون شخص سنويا في العالم. قد لا تكون عملية التحفيز العميق للدماغ هي العلاج الأمثل لأغلب المصابين بالسمنة، لكن نتائجها الإيجابية تكشف عن أهمية العلاجات التجريبية التي قد تغير حياة المرضى الذين عجز الأطباء عن علاجهم. وتسلط حالة آنّا الضوء على أن النهم في الطعام لدى المصابين بالسمنة قد يكون محصلة عوامل عديدة، ولهذا لا تصلح طريقة واحدة لعلاج جميع الحالات. ولعل عملية تحفيز الدماغ تمثل خطوة مهمة لمساعدة مرضى في أمسّ الحاجة لإنقاص الوزن

شارك هذا الخبر!