الشريط الاخباري

القدرة الاستيعابية لكوكب الأرض غير ثابتة

نشر بتاريخ: 07-07-2018 | منوعات
News Main Image

استنتج فريقٌ بحثيٌ نشر أطروحته مؤخرًا في دورية علمية تحت اسم "استدامة الطبيعة" (بالترجمة الحرفية)، أن كوكب الأرض يستطيع الحفاظ على 7 مليارات إنسان يعيشون بدرجات استهلاك متفاوتة على سطحه كحد أقصى، مع العلم أن عددنا قد وصل إلى ما يزيد عن 7.6 مليارات بحسب إحصاء أجري في حزيران/يونيو الماضي. علاوة على ذلك، فإن تحقيق "حياة رغيدة" للجميع، من شأنه أن يُخل بالتوازن بالبيوفيزيائي للأرض، ما سيؤدي إلى انهيار بيئي.

وبرغم الشكل العلمي الدقيق الذي تُظهره الدراسة، إلّا أن هذا الادعاء ليس جديدًا، فهو تأكيد "علمي" آخر على أن تعدادنا السكاني واستهلاكنا المتزايد، قد يتجاوزا قريبًا "القدرة الاستيعابية الثابتة" للأرض.

وترجع أصول الفكر إلى نظرية "قدرة الاستيعاب"، التي طُبقت على الحمولة الصافية لسفن الشحن البخارية في القرن التاسع عشر، والتي بموجبها يتم فحص العدد الأقصى من أفراد النوع الواحد الذي تستطيع بيئة معيّنة (كسفينة الشحن) استيعابه عبر مدّه بضروريات البقاء التي يحتاجها لكي يستمرَ بالعيش.

ونواجه مشكلة حقيقية عند تطبيق هذه النظرية على علم الأحياء، فبخلافنا، لا تتكاثر البضائع من تلقاء نفسها، ولا يمكن تحديد سعة نظام بيئي ما عن طريق الاستناد على رسومات هندسية للحجم والطول والعرض. وعلى الرغم من ذلك، طبّق علماء البيئة هذا المفهوم على المجتمعات البشرية لعشرات السنين، مع العلم أن ادّعاءهم بأن عملياتهم الحسابية دقيقة، يتناقض مع الطبيعة الضبابية للنظرية.

وكان التطبيق الأول للنظرية على الحياة البشرية في أربعينيات القرن الماضي، أسس له العالم البيئي، ويليام فوغط، الذي تنبأ بأن الاستخدام المفرط للأراضي الزراعية، سيؤدي إلى استنزاف التربة، وبالتّالي، سيُحدث كارثة إنسانية. وفي أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، تخصص الباحث، باول إرليخ، بالإنتاج الغذائي فيما تمعنت منظمة "نادي روما" البيئية بالموارد المادية، في حين ينصبّ عمل العلماء والناشطين البيئيين المعاصرين، على الآثار التي سيخلفها التلوث وتدمير البيئة الطبيعية على "النظم الأرضية"، التي تعتمد عليها الرفاهية الإنسانية.

أفكار هؤلاء، بالأساس، على النظرية "المالوتسية" في رؤية الخصوبة والاستهلاك البشري. وينبع هذا المُعتقد من فلسفة الباحث الاقتصادي الإنجليزي، توماس مالتوس، التي ادعى أن الضغط السكاني هو المسبب الأساسي لانتشار الجوع والفقر في العالم. وبهذا المعنى، فإن أتباع هذه العقيدة من المنظّرين بعلم الأحياء وعلوم البيئة، يعتقدون بأن الوفرة في المصادر الأساسية للحياة ستدفع البشر إلى إنجاب عدد أكبر من الأطفال، وبالتالي، سيزداد الاستهلاك العالمي، بحيث أننا سنستمر بالتكاثر والاستهلاك، إلى أن تُستنفذ الموارد التي تمكّننا من النمو.

إلّا أن الخصوبة البشرية المصحوبة بالاستهلاك تعملُ بصورة مخالفة تمامًا عن ذلك. فإن السيرورة الحداثية بموازاة الرفاهية، ستؤديان إلى انخفاض معدلات الخصوبة، لأن التحسن في أوضاعنا المادية سيقلّص من عدد الأطفال الذين ننجبهم. فلم ينبع الانفجار السكاني الذي بدأ منذ 200 عام، من ارتفاع معدلات الخصوبة، بل من انخفاض معدّلات الوفيات الذي تكمن أسبابه الأساسية، بالتحسين الذي طرأ على الصحة العامة والتغذية والبيئة التحتية و"السلامة العامة".

ويقف معدّل الإنجاب في يومنا هذا، في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وأجزاء كبيرة من أميركا اللاتينية وحتى بعض أجزاء الهند، عند أقل من طفلين للمرأة الواحدة. ويُرجح أن تصل بقية دول العالم إلى معدلات مماثلة خلال العقود القليلة القادمة. وكنتيجة لذلك، تنبأت معظم الدراسات السكانية، بأن عدد البشر في العالم سيزداد إلى أن يبلغ الذروة، ومن ثم يبدأ بالانخفاض بشكل تدريجي قبل نهاية القرن الحالي.

ولهذا السبب تحديدًا، ترتكز معظم التحذيرات المتعلقة بالانهيار البيئي الوشيك، على خطر الاستهلاك المتصاعد عوضًا عن التضخم البشري. لكن علم الأحياء الاجتماعي للإنسان لا يستند إلى تصرفات الكائنات الأولية -أي أنه يستمر بالتكاثر واستهلاك الموارد حتى يستنفذها- إنّما تتصرّف الرأسمالية على هذا النحو بالضبط، ما يعني أنّها ستندثر دون الاستهلاك اللانهائي للموارد.

إن الادعاء بأننا سنواصل استهلاكًا حتى تندثر مصادر الحياة التي نعتمد عليها، لا يستند إلى أسس راسخة، بل إن الأدلّة تثبت عكس لك. إذ إن النهج الذي يتبعه اقتصاد السوق الحرة للمدى البعيد، يتجه نحو نمو أبطأ واستهلاك أقل كثافة للموارد. عندما ينتقل الناس من الاقتصادات الزراعية الريفية إلى الصناعية الحديثة، يزداد الاستهلاك الفردي بشكل هائل ومن ثم ينخفض. وتكافح أوروبا والولايات المتحدة في زمننا، للحفاظ على نسبة نمو اقتصادي سنوي لا يتعدى الـ2%.

وتُشير الأبحاث إلى أن التركيبة الاقتصادية للدول الثرية قد تغيرت بشكل كبير أيضًا، حيث أن نسبة التصنيع كانت تستحوذ قبل عقود قليلة، على 20% من الناتج المحلي والعمالة، في معظم الاقتصادات المتقدمة. أما اليوم، تصل هذه النسبة لـ10% في بعض البلدان، فيما يُشكل قطاعا المعرفة والخدمات معظم الناتج الاقتصادي لهذه الدول، مع استهلاك المواد والطاقة بنسب أقل بكثير.

وأثبتت العقود المتعاقبة، أنه كلما ازداد النمو الاقتصادي في الدول المتطورة، انخفض استهلاك الطاقة والموارد من أجل تحقيق ذلك. ويحدث هذا الأمر لأن الطلب على السلع المادية والخدمات المختلفة وصل حد "الإشباع". فعلى سبيل المثال، إن سكان هذه الدول الذين يُريدون أو يحتاجون إلى استهلاك أكثر من 3000 سعرة حرارية يوميًا أو العيش في منازل تتجاوز مساحتها الثلاث آلاف متر مربّع، يُشكلون نسبة صغيرة جدًا من مجمل السكان. وبهذا المعنى، فإن لدى الإنسان شهيّة "مخيفة" لاستهلاك السلع المادية المختلفة، لكنها محدودة أيضًا.

وبالرغم من ذلك، فإن هذا لا يعني أننا لن نتجاوز القدرة الاستيعابية للأرض. ويرى بعض العلماء البيئيين أننا قد تجاوزناها بالفعل، لكن بافتراض أن القدرة الاستيعابية ثابتة، يتغاضى هذا الادعاء عن السيرورة التاريخية للإنسان، فإنه بالاستناد على وحدة القياس الاقتصادية/البيئية، "الاعتماد البشري على صافي الإنتاج الأولي"، استنتج علماء آخرون مناقضون للتوجه السابق، أن الطاقة البشرية تستطيع زيادة القدرة الإنتاجية للنظم البيئية الأرضية بالاستعانة بالتقدم التكنولوجي، أي أنه بمقدور الإنسان تسخير مساحات أقل لإنتاج كميات أكبر من الطاقة والغذاء الذي يضمن الاستمرارية البشرية دون أن يتعدّى القدرة الاستيعابية للكوكب.

وفي الواقع، نحن نقوم بتطوير وهندسة بيئاتنا المختلفة لتسخيرها من أجل توفير الحاجات الإنسانية منذ آلاف السنين. فقد استبدلنا الغابات بالمراعي والأراضي الزراعية واخترنا النباتات والحيوانات الأكثر تغذية لنا وهجنّاها ودفعناها للتكاثر بكثافة عالية. وتطلّب إطعام شخص واحد قبل 9 آلاف سنة، ستة أضعاف ما يتطلّبه الفرد في يومنا هذا، مع العلم أن أنظمتنا الغذائية اليوم أكثر ثراء.

يملك الإنسان قدرة عالية على تطوير القدرة الاستيعابية للكوكب، وليس هناك سببًا منطقيًا لعدم استمراره بذلك. وتستطيع الطاقتان النووية والشمسية، توفير كميّات هائلة من الطاقة لعدد كبير من البشر دون أن تخلّف وراءها انبعاثات كربونية ضخمة، كما أن الأنظمة الزراعية الحديثة والمكثفة، قادرة على تلبية احتياجات كميات كبيرة من البشر. قد لا يكون الكوكب الذي يرتكز إلى مليارات الدجاجات والأطنان الهائلة من الذرة والطاقة النووية هو الشيء المثالي الذي تطمح إليه البشرية، لكنه من الواضح أنه يستطيع توفير المواد الاستهلاكية لعدد أكبر بكثير من التعداد السكاني الحالي للأرض، ولفترات طويلة جدًا.

إن مستقبلًا كهذا، هو لعنة لأنصار "قيود الصمود" للكوكب، الذين يرون بذلك غطرسة بشرية فظّة. لكن ما يُمكن أن يعزيّنا في حال حدوث أمر مماثل، هو أن هذا التوجه ولد من رحم الإيجابية التي ترى أن تكافل الحكمة والبراعة البشرية ستؤدي إلى ازدهار المجتمعات الإنسانية، وأنّ المطالبة بتقييد المجتمعات البشرية بحدود الكوكب التي يدعي علماء البيئة والدعاة أنهم يعرفونها مسبقًا، تشير إلى مستقبل أكثر ظلمة.

ويُخاطر هؤلاء عندما يشبّهون سيرورة البشر البيولوجية الاجتماعية بتلك التي تمر بها الكائنات الحية ذات الخلية الواحدة أو الحشرات، لأن ذلك قد يقودنا إلى التعامل مع أنفسنا بذات الطريقة. وبذات المعنى، فإن مالتوس نظّر ضد القوانين التي تحمي الفقراء انطلاقًا من أنها ستحثّهم على التكاثر. واعترض إرليخ على منح المساعدات الغذائية للدول الفقيرة بنفس منطق مالتوس، بل وساهم في تطوير "تدابير" قاسية للسيطرة على السكان. ويستند المقتنعون بنظرية محدودية كوكب الأرض التي يتم صياغتها في عصرنا الحالي في خطاب إعادة توزيع الموارد و"المساواة"، على حجّة تُفيد بأن هذا سيجنّب البشرية إدانة المليارات للفقر الزراعي العميق. لكنهم لا يتحدثون كثيرًا عن كيفية فرض الهندسة الاجتماعية لمثل هذا النطاق "الاستثنائي" بطريقة ديمقراطية أو عادلة.

لكن في نهاية الأمر، فإن عزو الدعوة إلى فرض حدود علمية زائفة على المجتمعات البشرية، للاعتقاد بأن البشر سيكونون أفضل حالًا بتحديد استهلاكهم، غير حقيقي. ولا حاجة إلى افتراض انهيار المجتمعات البشرية للقلق من أن يتسبب الاستهلاك البشري المتنامي بعواقب وخيمة على الكائنات الحية المختلفة.

وإن المزاعم التي تتنبأ بالانهيار المجتمعي وتدعي أن القدرة الاستيعابية لكوكب الأرض ثابتة ومحدودة وتطالب بفرض قيود على البشر، غير علمية وغير عادلة. نحن لسنا مبرمجين كالذباب للتكاثر والاستهلاك حتى استنفاد آخر مورد طبيعي، كما أننا لسنا كالمواشي التي يجب تحديد أعدادها. ولفهم التجربة البشرية في العيش على هذا الكوكب، فإنه يتوجب علينا استيعاب أننا قُمنا بتسخيره مرارًا وتكرارًا بهدف أن يستمر بخدمة احتياجاتنا وآمالنا المستقبلية. وتعتمد طموحات مليارات البشر على استمرارنا بفعل ذلك

شارك هذا الخبر!