الشريط الاخباري

في حوار خاص .. تشوميسكي: دعم إسرائيل يتآكل في أمريكا

نشر بتاريخ: 18-08-2018 | سياسة , PNN حصاد
News Main Image

بيت لحم/PNN/

أجرى المقابلة: محمد فاضل العبيدلي جلف نيوز في الامارات  و كايد ميعاري لمركز شاهد فلسطين

قال المفكر الأميركي نعوم تشوميسكي ان إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا تملك أي حل يمكن ان تقدمه يمكن ان يقود الى قيام دولة فلسطينية مستقلة رغم كل الحديث عن ما يسمى “صفقة القرن” مشيراً الى أن هذه الإدارة لا تفكر سوى في ضرب ايران التي تسعى حسب تشوميسكي بكل ما أوتيت من قوة لمد نفوذها في المنطقة.

وأوضح تشوميسكي في مقابلة لمركز “شاهد” ومدونة محمد فاضل العبيدلي، ان إسرائيل لن يكون بإمكانها الإعتماد الى الأبد على الدعم الأمريكي معتبرا ان الأفعال التي تسببت فيها إسرائيل في السنوات الأخيرة تسببت في نفور الرأي العام وسط القطاعات الأكثر ليبيرالية وفئة الشباب بما فيهم اليهود الاميركيين.

وقال تشوميسكي: “يستند الدعم لإسرائيل على نحو متزايد غالباً على الكنائس الإنجيلية وحزب اليمين القومي والعنصري في الغالب (المعادي للمسلمين)، حيث تبنت المؤسسات الكبرى، ولا سيما الكنيسة المشيخية، برامج المقاطعة وسحب الاستثمارات، مع التركيز أيضاً على الشركات الأمريكية المشاركة في الاحتلال”.

وأضاف “منذ بضع سنوات، أدرك المحللون الاستراتيجيون الإسرائيليون أن إسرائيل لم تعد قادرة على الإعتماد على الدعم الذي تتلقاه من الدول التي يوجد فيها بعض الإهتمام بحقوق الإنسان ويجب عليها أن تتقارب بشكل أكبر مع المزيد من القطاعات الرجعية والاستبدادية، وهذا تغيير كبير لم تمض عليه سنوات كثيرة. الوضع في الولايات المتحدة مرن، ويمكن أن تكون هناك تغييرات إيجابية في المستقبل”.

يتعين هنا ان نشير الى أننا ارسلنا الأسئلة للسيد تشومسكي بتاريخ 18 يونيو الماضي أي قبل الجولة التي قام بها جاريد كوشنير صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في المنطقة في الفترة من 20 وحتى 24 يونيو. وعليه فان الأسئلة لم تتطرق بطبيعة الحال الى تفاصيل زيارة المبعوث الأميركي ولا إجابات تشومسكي أيضا، لكن وللمفارقة فإن نتائج هذه الجولة لم تخرج كثيرا عما قاله تشومسكي في هذه المقابلة

وفيما يلي نص المقابلة مع تشوميسكي:

– في محاضرتك السابقة مع مركز “شاهد” في العام 2016، كُنت قد أشرت بأن اتفاقية أوسلو هي بمثابة ” بيع متجدد ” للحقوق الوطنية للفلسطينيين، آخذين بعين الاعتبار بأن المرجع الذي ارتكزت عليه الاتفاقية هو قرار رقم 242 والذي لم يتم بموجبه ذكر الفلسطينيين بشكل صريح، وانما تحدث عن حل مشكلة اللاجئين. وبما أننا نشعر بالقلق إزاء المراجعة التاريخية للنضال الفلسطيني والنظر في تقييمك لهذا الوضع، كيف ترى امكانية الخروج من هذا الطريق المسدود؟

لقد فشلت مفاوضات مؤتمر مدريد (1991) السابقة بسبب إصرار الوفد الفلسطيني برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي – تماماً وبشكل صحيح – على ضرورة انهاء سياسة اسرائيل المتمثلة بتوسيع المستوطنات غير الشرعية، الأمر الذي لم توافق عليه الولايات المتحدة الامريكية ولا إسرائيل. في حين ان الرئيس الراحل ياسر عرفات (الذي اضعف الوفد الفلسطيني من خلال قناة النرويج) لم يصر على ذلك، بل في الواقع أصر على عدم وجود شيء تقريباً باستثناء الإعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية (لا شيء عن إعلان الاستقلال الفلسطيني، أو أي شيء آخر متعلق بالحقوق الوطنية الفلسطينية). بعد عقد اتفاق اوسلو، بدأ رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحاق رابين برامج استيطانية جديدة. وسرعان ما نقضت الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل هذه الاتفاقيات صراحة بالانتقال إلى فصل قطاع غزة الضفة الغربية. لم تكن هناك خطوات حقيقية نحو الاستقلال الفلسطيني اثناء إستلام رئيس الوزراء رابين أو خليفته شمعون بيريس زمام الامور، الذي أوضح عند تركه منصبه في عام 1996، أنه لا يمكن أن تكون هناك دولة فلسطينية. وكانت أول حكومة إسرائيلية تعترف بإمكانية قيام دولة فلسطينية هي حكومة بنيامين نتنياهو التي خلفت حكومة بيريز. رداً على استفسار أحد الصحافيين، قال ديفيد بار ايلان مدير الاتصالات وتخطيط السياسات في مكتب رئيس الوزراء نتنياهو أن الفلسطينيين “يمكن أن يطلقوا على كل ما قررت إسرائيل أن تتركه لهم [“دولة”] إن أحبوا ذلك، أو يمكن أن يطلقوا عليه دجاج مقلي”. لقد انهارت المفاوضات اللاحقة بطرق لا يمكن أن أتطرق إليها، على الرغم من أن مفاوضات طابا في يناير/ كانون الثاني في العام 2001، التي ألغيت من قبل رئيس الوزراء إيهود باراك قد حققت بعض التقدم على ما يبدو ووفقاً للمشاركين فيها. الطريق للخروج من هذا المأزق هو لإسرائيل وداعمها الأمريكي هو الانضمام إلى جميع دول العالم تقريبا في الموافقة على صيغة مقبولة لحل الدولتين على أساس الحدود المعترف بها دولياً (الخط الأخضر)، مع مقايضة الاراضي بشكل عادل ومحدود.

(الأمل الأفضل للفلسطينيين)

– لقد أوضحت في نفس المحاضرة بأن حل الدولتين أو وجود دولة واحدة ثنائية القومية هي حلول غير مقبولة من قبل اسرائيل. اضافة الى ذلك، تحدثت عن “عدم وجود سبب للتمسك او [“عبادة”] الحدود التي تم رسمها من قبل القوة الامبريالية” وقد ربطت ذلك بالحديث عن دولة ثنائية القومية والتي اعتبرتها بمثابة تحقيق حلم للمشروع الصهيوني في دولة اسرائيل العظمى. باعتقادك ماذا يتوجب على الفلسطينيين فعله ازاء هذا الموقف وهل يوجد خيار اخر؟

على المدى القصير، هناك خياران: الأول، الإجماع الدولي على وجود دولتين. الثاني، برنامج اسرائيلي لإنشاء دولة اسرائيل الكبرى التي تتكامل مع اسرائيل في أي شيء تريده في الضفة الغربية، تاركاً الفلسطينيين في عشرات الكانتونات التي لا تُحتمل وتحت مضايقة مستمرة أو ما هو أسوأ من ذلك. هناك صفقة جيدة عند الحديث عن “تسوية الدولة الواحدة” لكن هذا الأمر غير واقعي للغاية في ظل الظروف الراهنة. على خلاف الخيار الأول، الذي لم يلق دعماً دولياً فعلياً وحيث ان اسرائيل تعارضه بشدة، لأنها ستخلق فزعاً حول المشكلة الديموغرافية (وجود اعداد كبيرة من الفلسطينيين العرب داخل الدولة اليهودية). لن تظهر هذه المشكلة عند تبني الخيار الثاني، حيث سيتم تنفيذه من خلال نقل وعزل التجمعات السكانية الفلسطينية وطرد الفلسطينيين من الأراضي التي تنوي اسرائيل الإحتفاظ بها. حيث يمكن للمرء ان يتخيل عملية تبدأ بالخيار الأول، يتبعها تآكل تدريجي للحدود الفلسطينية – الاسرائيلية (تجارياُ و ثقافياُ وإتصالات أخرى) مما يؤدي إلى شكل من أشكال الاتحاد وربما إلى ثنائية القومية الحقيقية والتي لا تعتبر تحقيقاً للأحلام الصهيونية للغالبية العظمى من صهاينة ما قبل قيام الدولة، بل هو موقف حظي بدعم الكثير من حركة “الكيبوتز” الإسرائيلية (هاشومير هاتزايير)، ومجموعات صغيرة من المثقفين (بريت شالوم)، وبعض آخرين أبعد ما يكونوا لليساريين (رابطة كالفاريسكي للتقارب العربي اليهودي). على طول الطريق، ينبغي التشكيك في شرعية الحدود التي فرضت – في نهاية الامر- من قبل بريطانيا وفرنسا لمصالحهم الخاصة دون الإكتراث للسكان الأصليين. وفي الوقت الحالي هم يتذمرون من الأسلحة، لكن ذلك لم يكن دائمًا كذلك. في الواقع، في مطلع الخمسينيات، وعندما كنت اتنزه في شمال اسرائيل عبرت حدوداً لا تحتوي على أية علامات عن طريق الصدفة. من وجهة نظري، يمكن أن يكون تآكل الحدود الوطنية مفيداً، كما هو الحال في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. الأمل الأفضل للفلسطينيين الآن هو خلق ضغوط باتجاه وجود تسوية دبلوماسية/سياسية تتعاون مع الإسرائيليين ذوي التفكير المماثل والداعمين في الخارج، وهذا ما تم إعتباره دائماً أولوية لحركات التحرر الوطني الناجحة. المسألة الأهم الان هي سياسة الولايات المتحدة الامريكية، وأعتقد أن هناك فرصاً كبيرة لإحداث تغييرات مهمة في سياسات الولايات المتحدة.

– أخذا بعين الإعتبار فوارق المقارنة، هل ترى بأن النضال الفلسطيني من أجل انتزاع الحقوق الوطنية قد تحول لصراع أشبه بصراع السكان في جنوب افريقيا ضد نظام “الآبارتهايد” العنصري؟

هناك بعض الأمور المتشابهة لكن مع فروقات مهمة، معتبرين ان التناظر غير مثالي. هناك تمييز شديد داخل اسرائيل، ولكنه ليس تمييزاً عنصرياً. الوضع في الأراضي المحتلة أسوأ بكثير من الفصل العنصري. تريد اسرائيل بشكل أساسي ان يختفي الفلسطينيين وهذا العرف السائد للمجتمعات الإستيطانية الاستعمارية (الولايات المتحدة الامريكية، على سبيل المثال). من ناحية أخرى، تحتاج جنوب افريقيا الى سكانها الزنوج لأنهم كانوا القوى العاملة. حيث كانت البانتوستانات فظيعة، لكن جنوب أفريقيا بذلت جهودًا لدعمها والحصول على اعتراف دولي بها، وذلك لأن الموقف الدولي مختلف كثيراً. لقد تمت معارضة نظام الآبارتهايد بشدة على الصعيد الدولي من خلال حظر الأسلحة وفرض العقوبات والمقاطعة وسحب الاستثمارات. قبل ثلاثين عاماً من سقوط نظام الآبارتهايد، كان وزير خارجية جنوب إفريقيا يدرك أن النظام أصبح منبوذاً عالمياً. وقد أبلغ السفير الأمريكي أنهم يعتمدون على واشنطن في واقع الأمر في الدفاع عنهم ضد الإهمال الدولي. وبالفعل كان رونالد ريغان آخر زعيم عالمي يدعم دولة نظام الابارتهايد. وعلى أية حال كان الرأي الأمريكي والأعمال التجارية الأمريكية الهامة في ذلك الوقت قد فضلت التغلب على سياسة الفصل العنصري، وبدأت سياسة الحكومة في التحول. لقد كان هناك فرق آخر حاسم وهو كوبا التي لعبت دوراً رئيسياً في تحرير الجنوب الأفريقي، وتغلبت على غزو جنوب أفريقيا لأنغولا، وحطمت أسطورة تفوق العرق الأبيض داخل جنوب أفريقيا وفي المناطق المحيطة بها. اليوم، الوضع ما بين اسرائيل وفلسطين مختلف.

– لقد أعلنت الادارة الامريكية الحالية وجود ما يعرف بـــ “صفقة القرن” واعلن الرئيس الامريكي دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل قيل ان هذه الخطوة جزء من هذه الصفقة. لا يبدو هذا امراً جديداً نظراً لأن العديد من الادارات الامريكية السابقة كانت قد قطعت وعوداً مشابهة خلال العقود الماضية. ما هي توقعاتك حول نوع الحل او الحلول التي يفكر بها ترامب وإدارته؟

لم يقدموا أية مؤشرات، لكن سجلهم يشير انه إذا كانت هناك خطة على الاطلاق – وهذا أمر غير مؤكد – فربما سيكون الأمر غريباً. حيث أن الهدف الاستراتيجي للحكومة الامريكية، بقدر ما يمكن للمرء استخلاصه من حالة الفوضى، هو ترسيخ ائتلاف بين اسرائيل والدول العربية، والانضمام لمواجهة عدوهم المشترك ايران، التي تشكل تهديداً على الهيمنة الامريكية في المنطقة وحرية اسرائيل في اللجوء الى العنف.

– أعقب اعلان ترامب إنسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران وارتفاع حدة التوتر في المنطقة وتصريحات للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي باستئناف ايران لأنشطتها في تخصيب اليورانيوم، وقيام إسرائيل بشن ضربات متتالية على مواقع سورية. كيف ترى تأثير هذا التوتر الإقليمي خاصة أن إيران لا يمكن إعفاؤها من المساءلة في خلق هذا التوتر، من خلال تدخلها المستمر في الدول المجاورة، مما يؤدي إلى اهتمام أقل بالقضية الفلسطينية؟

لا شك بأن ايران تسعى الى مد نفوذها في المنطقة بكل ما أوتيت من قوة، علماً بان العدوان الامريكي قد خلق فرصاً جديدة لايران في كل من العراق وافغانستان، حيث تقوم ايران بدعم كلاً من نظام بشار الاسد في سوريا وحزب الله في لبنان. ومن الطبيعي الا تلقى هذه التطورات ترحيباً من قبل تحالف الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل، ودول الخليج وهو يهدد هيمنة واشنطن الإقليمية. حتى الاستخبارات الأمريكية توافق على أن إيران كانت عاكفة على الاتفاق النووي على الرغم من الانتهاكات الأمريكية المنتظمة. وإن انسحاب ترامب من الاتفاقية يزيد من حدة التوتر بشكل كبير في المنطقة. وحيث انه من غير الواضح ما إذا كانت إيران سترد بالعودة إلى تخصيب اليورانيوم، على الرغم من أنه يحق لها ذلك. إذا كان الأمر كذلك، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل قد يقدمان ذلك كذريعة للهجوم العسكري، بالإضافة إلى هجومهم الإلكتروني – والذي يعتبر فعل حرب حسب عقيدة الولايات المتحدة- واغتيال العلماء. وبالنتيجة، العواقب يمكن أن تكون قاتمة.

(خروج حاد عن التاريخ)

– عودة لمحاضرتك تلك، ذكرت بأنه ينبغي علينا ان نرى إمكانية التغيير في السياسة الامريكية. في هذا السياق، أشرت الى أن الدعم الشعبي لاسرائيل في الولايات الامريكية كان ينجرف باتجاه حزب اليمين. وقد ذكرت أيضاً أن يوماً ما قد يأتي قريباً لن تكون فيه إسرائيل قادرة على الاعتماد على الدعم الذي كانت تتوقعه وتتلقاه قبل نصف قرن. تشير الحقائق الحالية إلى هيمنة المنطق الشعبوي اليميني الذي يمثله ترامب، وهجوم عام محتمل على القيم التحررية ليس فقط في الولايات المتحدة بل في أوروبا أيضًا. ما هي العوامل التي يمكن أن تسهم في التغيير المتوقع في المجتمع الأمريكي وفي المشرعين الأمريكيين؟

للوهلة الأولى، يبدو الأمر وكأن دعم الولايات المتحدة للمواقف الإسرائيلية المتطرفة ثابت، لكن هذه الصورة مضللة. لقد تسببت الأفعال التي ترتكبها اسرائيل في السنوات الأخيرة إلى نفور الرأي العام وسط القطاعات الأكثر ليبرالية وفئة الشباب (بما في ذلك العديد من الأميركيين اليهود). الديمقراطيون الذين يعرفون أنفسهم هم الآن أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين من الإسرائيليين. يستند الدعم لإسرائيل على نحو متزايد غالباً على الكنائس الإنجيلية وحزب اليمين القومي والعنصري في الغالب (المعادي للمسلمين). حيث تبنت المؤسسات الكبرى، ولا سيما الكنيسة المشيخية، برامج المقاطعة وسحب الاستثمارات، مع التركيز أيضاً على الشركات الأمريكية المشاركة في الاحتلال. وقد دعت منظمات حقوق الإنسان البارزة إلى فرض حظر على الأسلحة ضد إسرائيل. وواقعياً وبموجب قانون الولايات المتحدة (قانون ليهي)، يمكن تقديم قضية قوية لذلك، حيث أن هذا الأمر يعتبر صحيحاً في جميع أنحاء العالم. منذ بضع سنوات، أدرك المحللون الاستراتيجيون الإسرائيليون أن إسرائيل لم تعد قادرة على الإعتماد على الدعم الذي تتلقاه من الدول التي يوجد فيها بعض الإهتمام بحقوق الإنسان ويجب عليها أن تتقارب بشكل أكبر مع المزيد من القطاعات الرجعية والاستبدادية، وهذا تغيير كبير لم تمض عليه سنوات كثيرة. الوضع في الولايات المتحدة مرن، ويمكن أن تكون هناك تغييرات إيجابية في المستقبل.

– بالحديث عن المرونة، لقد أظهر التاريخ الأمريكي قدرته على تصحيح اختلال التوازن كما حدث على سبيل المثال في العشرينات عند اضطهاد المهاجرين الإيطاليين (كان ذروته قضية ساكو وفانزيتي)، أو الخروج من التأثيرات التي أحدثها عصر المكارثية التي استمرت لعقدين من الزمن. هل ترى أن المجتمع الأمريكي لا يزال يمتلك هذه القدرة؟ خصوصا أننا نشهد أن موجة الشعبوية اليمينية قد اصبحت تياراً متنامياً على جانبي الأطلسي يزيدها دعماً كل من الهجرة، والاسلامفوبيا، والخوف من روسيا والصين؟

هناك الكثير لتقوله عن التاريخ، ولكن مع وضع ذلك جانباً، وفي حين أن مثل هذه الاتجاهات واضحة فمن المهم أن ندرك أن هناك اتجاهات مضادة أيضا. يعتبر بيرني ساندرز، الشخصية السياسية الأكثر شعبية في الولايات المتحدة وفقاً لاستطلاعات الرأي حيث كان النجاح الذي أحرزه في الانتخابات عام 2016 بمثابة خروج حاد عن التاريخ السياسي الامريكي في الانتخابات التي تم تحديدها بشكل كبير بواسطة التمويل الضخم. لم يتلق ساندرز أي دعم من المصادر المعتاد عليها مثل الشركات والثروات الكبيرة والتي تم تجاهلها أو تشويه سمعتها من قبل وسائل الإعلام، بل واستخدمت حتى كلمة مفزعة لوصفها “الاشتراكية” (أي الديمقراطية الاجتماعية). ربما كان سيفوز بترشيح الحزب الديموقراطي لولا مكائد مديري حزب أوباما وكلينتون، والحركات الشعبية التي أنتجتها حملته إلى جانب غيرها، والتي حققت نجاحاً كبيراً. يوجد هناك تطورات مماثلة في أوروبا مثل حزب العمال البريطاني المعارض (حزب جيرمي كوربين)، و حزب بوديموس الاسباني، و حركة الديموقراطية في اوروبا ( DIEM25)، وغيرها من الاحزاب.

بشكل عام، تنهار المؤسسات السياسية الوسطية في جو من الغضب والخوف والازدراء للمؤسسات، والذي نتج إلى حد كبير عن التأثير التراجعي على سكان برامج الليبرالية “الجديدة/التقشفية” للجيل الماضي. مثل هذه الظروف غالباً ما تعزز المواقف غير الإجتماعية الكامنة والمخاوف المبالغ فيها. على سبيل المثال، تعد التقديرات الشائعة لعدد المهاجرين أعلى بكثير من الأرقام الفعلية، خاصة في الولايات المتحدة (ينطبق الأمر نفسه كثيرًا على التقديرات الخاصة بالمساعدات الخارجية وعلى المستفيدين من الإمتيازات الحكومية). إن الظروف العامة تذكرنا بما قاله الفيلسوف الايطالي انطونيو غرامشي في زنزانات سجن موسوليني: “إن الأزمة تنشأ بالضبط من حقيقة أن القديم يموت وأن الجديد لا يمكن أن يولد”.

– لقد طور الفلسطينيون طريقة جديدة للنضال منذ العام 2005، وهي حملات المقاطعة الثقافية والاقتصادية التي تقودها حركة مقاطعة اسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها المعروفة دولياً بــ(BDS). كيف ترى حركة المقاطعة الفلسطينية التي حققت نجاحات ملحوظة ومثّلت مصدر قلق كبير لوجود إسرائيل ودفعتها إلى إطلاق تهديدات للقضاء على القادة الفلسطينيين؟

للأسباب التي ذكرتها وعلى خلاف الحالة في جنوب افريقيا، لا تنشأ مسألة فرض العقوبات، على الأقل؛ ستظهر إذا ما تطورت الامور بشكل ناجح. ولذلك فإن القضايا الحقيقية هي المقاطعة وسحب الاستثمارات والتي من الممكن ان تكون أداوت قوية. وكما هو الحال دائمًا بالنسبة للحركات الجادة التي يقودها الناشطون، من الضروري التفكير بعناية في تأثير الخيارات التكتيكية. للمرة الأولى على حد علمي، أطلقت حركة مقاطعة اسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) من قبل أحد مؤسسي جوش ايمونين الناشط اليساري الاسرائيلي يوري أفنيري منذ 20 عاماً. لقد أصبحت “حركة المقاطعة” حملة دولية كبرى في إطار المبادرة الفلسطينية منذ عام 2005، وقد حققت الكثير من النجاح والوعود. حسب اعتقادي، أظهرت التجربة أن التركيز على الاحتلال هو التكتيك الأكثر فاعلية، وهو التكتيك الذي يهم حقاً القادة الإسرائيليين والذي يمكن أن يستحث الدعم الشعبي الكبير، كما في الحالات التي ذكرتها سابقاً. القضايا واضحة ولا لبس فيها، والمبادئ قائمة بالكامل. وهذه الأعمال ليست قابلة – كما يحدث في كثير من الأحيان- للانحراف عن محنة الفلسطينيين إلى القضايا الجانبية (الحرية الأكاديمية، المعايير المزدوجة.. إلخ)، فهي لا تثير رد فعل عنيف يكتسح في بعض الأحيان الإجراءات المتخذة بل من الممكن أن تؤدي إلى تغييرات في السياسة، سواء في إسرائيل أو في الخارج، لأنها تكتسب بالقوة والنطاق. من المؤكد أن اختيار التكتيكات أمر يمكن مناقشته، لكن من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار أنه يتوجب علينا مناقشتها. دائماً، يجب التفكير في اختيار التكتيكات بعناية من حيث العواقب على الضحايا وتكاليف الفرص – الاتجاه الذي لم ينجز وما قد يكون قد تحقق. هذه ليست اعتبارات تافهة ولا يوجد مجال للدوغماتية أو العقيدة غير المرنة. هذا على الأقل يجب أن يكون طبيعة ثانية للناشطين.

– انتهت – تنشر هذه المقابلة أيضا في مدونة محمد فاضل العبيدلي بالإضافة الى صحيفة ” جلف نيوز” في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة

شارك هذا الخبر!