الشريط الاخباري

كابوس كوفيد 19 والليبرالية الأوروبية

نشر بتاريخ: 13-04-2020 | أفكار
News Main Image

بقلم/ حسن محاريق

ألقى فايروس كورونا المستجد بكل ثقله على القارة الأوروبية محدثاً صدمة عنيفة أربكت قرارات المستوى السياسي في الدول الأوروبية، كنتيجة للضغط الهائل على المرافق الصحية التي ازدحمت بأعداد كبيرة من المصابين بعدوى هذا الفايروس، الذي ما زالت المعلومات الطبية والبيولوجية متضاربة بشأنه. وكإجراء احترازي اتخذت الدول الأوروبية توجهات مختلفة في فرض اجراءاتها للحد من انتشار هذا الفايروس، ولكن منها من استغل هذه الأزمة لصالح تكريس قوته السياسية، حيث قام رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مباشرة بتشريع حزمة من القرارات التي تضيق الخناق على القضاة والأكاديميين والمؤسسات المدنية بالإضافة إلى استصدار مرسوم يفوضه باتخاذ الاجراءات اللازمة دون أي مرجعية في سبيل وقف انتشار فايروس كورونا، مما اعتبره الاتحاد الأوروبي انتهاكاً صارخاً للقيم التي نشأ على أساسها الاتحاد الأوروبي.

ومن المتوقع أن تتبع حكومات أوروبية أخرى نفس النهج الذي اتخذته حكومة المجر، نتيجة لعجز مؤسسات الاتحاد الأوروبي تفعيل قيمة التضامن بشكل عملي بين الدول الأعضاء لمواجهة هذا الوباء، حيث تُركت كل من ايطاليا العضو المؤسس للاتحاد وحيدة تواجه مصيرها وتبعتها اسبانيا ورغم مناشدة حكومات هذه الدول للتدخل بشكل عاجل، إلا أن الاتحاد أخفق في تنسيق جهود الدول الأعضاء لمواجهة هذه الازمة مما خلق انطباع لدى المواطن الأوروبي أن القيم التي قام عليها الاتحاد كانت مجرد شعارات ووهم باعته النخب الأوربية لشعوبها على مدى أكثر من نصف قرن.

وتأتي هذه الأزمة مكملة للأزمات التي تعرض لها الاتحاد مروراً بالأزمة المالية عام 2008 وأزمة المهاجرين 2015، وآخرها خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، رافق هذه الازمات عدداً من التحولات نتج عنها صعود اليمين المحافظ والاحزاب الشعبوية في عدد كبير من دول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مما يعني أن التحولات والتبعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستكون أكثر عمقاً كنتيجة للصدمة التي سببها انتشار فايروس كورونا، وهذا ما يجعل القيم الليبرالية على المحك أو على الأقل سيطفئ بريقها لدى المجتمعات الأوروبية، وانطلاقاً من فرضية أن السياسة لا تحتمل الفراغ فمن المحتمل أن التحولات القادمة ستكون لصالح قيم الانظمة الشمولية التي غالباً ما تترسخ في فترات الصدمة والأزمات الاقتصادية.

كثير من الاجراءات التي اتخذتها الدول حالياً أدت إلى تقويض الحريات والغاء الحقوق التي نصت عليها الدساتير الوطنية بهدف مواجهة انتشار فايروس كورونا المستجد، وسيتم لاحقاً ترجمتها لمكاسب سياسية ومن الصعب التراجع عنها حال انتهاء حالة الطوارئ، مما يعني مزيداً من الانحراف نحو تبني قيم الأنظمة الشمولية، فوفقاً لأدبيات علم الاجتماع التي تفترض أن هناك ارتباطاً واضحاً بين الصدمات التي تخلفها الأوبئة وزيادة توجهات الأفراد لتبني وتأييد الرؤى الشمولية والقومية، وهذا ما يفسر مطالبة الشعوب لحكوماتها بالمزيد من التشدد في الاجراءات والحزم في قمع المخالفين. تفرض هذه التحولات مزيداً من التحديات أمام المؤيدين لاستمرار الاتحاد الأوروبي كسوق مشتركة للدول الأعضاء ومنظومة قيمية مدافعة عن الحريات والتضامن والقيم الديمقراطية، في ظل ما ستخلفه هذه الازمة من كساد اقتصادي وازدياد في معدلات البطالة والفقر مما يجعل العبء أكبر من أن تحتمله قدرات الدول الغنية في الاتحاد كألمانيا وفرنسا في سبيل الحفاظ على مؤسسات الاتحاد الأوروبي.

وللتاريخ الأوروبي تجربة في هذا الصدد ففي عام 1919 انتشر وباء الإنفلونزا الاسبانية الذي راح ضحيته بحسب تقديرات المصادر التاريخية زهاء 50 مليون انسان، وكان من تبعاته تردي الوضع الاقتصادي بشكل كبير للدول الأوروبية وانتشار الفقر وعدم الاستقرار على طول القارة، مما جعل الدول الأوربية تبحث عن مخرج من هذه الازمة تُرجمت من خلال تحول الدول الأوروبية إلى الأنظمة القومية والشمولية وصعود الأنظمة النازية كالذي حدث في ألمانيا والفاشية في ايطاليا والثورة الشيوعية في أرض القيصر الروسية، وتربع المحافظين على سياسة المملكة المتحدة، وانعزال الولايات المتحدة التي أخذت حينها بفرض تعرفة جمركية عالية على البضائع التي تدخل أراضيها.

ومما لا شك فيه أن الارتدادات السياسية لهذه الأزمة لن تتوقف عند حدود دولة بعينها من الدول الأعضاء، مما يعني أننا مقبلون على تحولات كبيرة في القارة الأوروبية قد تهدد بتفكك الاتحاد، حيث لا يمكن للاتحاد بالاستمرار في ظل عدم تجانس أنظمة الدول الأعضاء، كما وستظهر خريطة جديدة من التحالفات للقوى الدولية وسنشهد مزيداً من التمكين للأنظمة الشمولية والتحولات نحو القومية الضيقة إثر الانطباع المتزايد أن الانظمة الشمولية كانت الأكثر كفاءة في وقف جماح انتشار فايروس كورونا، ويتمثل ذلك في نجاح النظام الصيني في مكافحة الوباء. إن انحسار قيم التعددية والحرية والانفتاح كقيم انسانية ترعرعت في بيئة الغرب الأوروبي، سيكون لها الأثر الأعظم في احداث تحولات تاريخية متسارعة قد تضعنا أمام حروب ونزاعات ضمن تحالفات دولية جديدة، أو بالحد الأدنى سنشهد فترة التسعينات حين انهار الاتحاد السوفيتي وتبعه سقوط الأنظمة القائمة على القيم الشيوعية آنذاك.

شارك هذا الخبر!