الشريط الاخباري

قرار إستراتيجي بإنشاء الهيئة الوطنية للتعليم والتدريب المهني والتقني بقلم م.نضال عايش

نشر بتاريخ: 05-11-2020 | أفكار
News Main Image

بقلم م.نضال عايش مدير عام التدريب المهني/وزارة العمل

هناك إجماع عالمي حول دور وأهمية التعليم والتدريب المهني والتقني (TVET) في زيادة مستوى الإنتاجية وتحسين القدرة التنافسية، مما يساهم في زيادة الدخل القومي وتحسين مستوى المعيشة.

وتزداد أهمية التعليم والتدريب المهني والتقني في ظل المتغيرات الدولية والتطورات التقنية والتكنولوجية السريعة التي يمر بها العالم، وما ينتج عنها من تغيرات سريعة في المهن ووسائل وأساليب العمل، بالإضافة الى التغييرات الديموغرافية؛ الأمر الذي يتطلب اتخاذ الإجراءات المناسبة لتطوير هذه المنظومة باستمرار، وفقا للمستجدات والتطورات العلمية والعملية من أجل توفير العمالة المدربة القادرة على التعامل مع التكنولوجيات الحديثة، والحفاظ على التوازن بين مخرجات التعليم والتدريب والاحتياجات الفعلية لسوق العمل وأجندة السياسات الوطنية ذات العلاقة.

يبدو ان اهتمام الحكومة الفلسطينية الحالية الواضح في التعليم والتدريب المهني، وقرار مجلس الوزراء بإنشاء الهيئة الوطنية، نابع من هذا الفهم العميق لهذا الدور كمنطلق عام، ومن خصوصية الواقع الفلسطيني الاقتصادي والاجتماعي المرتبط بالواقع السياسي والذي يتلخص بتفاقم مشكلة البطالة بين الشباب وخاصة الخريجين الجامعين منهم، وما لذلك من تداعيات اجتماعية واقتصادية وربما أمنية وببعد استراتيجي يتعلق بتعزيز تثبيت المواطنين والانفكاك الاقتصادي.

ومن هنا، فإن أمام الهيئة الوليدة مهام معقدة لا تقتصر على بعد مستقل واحد، ولكنها ذات ابعاد مركبة منها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فنظرة المجتمع لهذا النوع من التعليم بحاجة الى معالجة وبناء توجهات جديدة، بالإضافة الى تقاطعها مع باقي مكونات منظومة بناء الموارد البشرية من جهة، ومع سوق العمل، والخطط القطاعية والتنموية متوسطة وبعيدة المدى من جهة أخرى، كل ذلك مع الاخذ بعين الاعتبار الواقع الفلسطيني وخصوصيته وكثرة متغيراته وعثراته الناتجة في اغلب الأحيان عن عوامل خارجية رأس حربتها الاحتلال وتبعاته، وفي أحيان أخرى مسبباتها داخلية ناتجة عن قصور، اما في جانب العرض او جانب الطلب، او في شكل وديناميكية العلاقة بين الطرفين. وبالتالي، لا بد للهيئة من وضع خطة شاملة متكاملة مرنة تستجيب للتغييرات بكافة أشكالها وتتعامل مع الظروف غير المستقرة، تؤدي الى معالجة جذرية لأسباب تعثر المنظومة؛ لا تقف عند حد التدخلات الشكلية التجميلية، او الاجراءات المجتزأة التي تقتصر على حلول مؤقتة. بل نحن بحاجة الى قرارات حاسمة وتدخلات إستراتيجية تعالج وتصلح المنظومة، تترك الأثر المأمول، مبنية على شراكة حقيقية وتكامل الادوار لكافة أطياف المجتمع ومؤسساته في إطار رؤية وطنية لتنمية الموارد البشرية، وفق معايير إدارة الجودة الشاملة، بما يحقق تأهيل رفيع المستوى للقوى العاملة، يتماشى مع المعايير العالمية، ويلبي احتياجات سوق العمل المحلية، ولم لا الإقليمية وربما العالمية.

بناء منظومة قادرة على تكوين قوى عاملة كفؤة، ذات دافعية عالية، قابلة للتكييف وقادرة على دفع عجلة النمو الاقتصادي، وبالتالي النهوض بعملية التنمية من خلال نظام يمتاز بالمرونة والفعالية والكفاءة والاستدامة وسهولة الوصول إليه، موجه نحو احتياجات السوق، من خلال تقديم تعليم وتدريب عالي الجودة، من خلال عملية تدريب شاملة ومستمرة للمعلمين والمدربين وتطوير للمناهج التدريبية، ويمتاز بالاستقلالية وبتوفر الموارد المالية اللازمة، لكون قادرا بالمحصلة على بناء كفايات الافراد الفنية والمنهجية والشخصية والاجتماعية في آن معا، ويشكل مسارا جاذبا موازيا ومكافئا للتعليم الاكاديمي.

ولضمان فاعلية المنظومة، من المهم ان تعمل بتوافق كامل مع التصنيف العربي المعياري للمهن والمقر فلسطينيا، مع ضرورة بناء إطار وطني للمؤهلات يشمل كل من المسار الأكاديمي والمهني لكافة المستويات التعليمية والتدريبية، يعترف بالمؤهلات والكفاءات والخبرات المكتسبة، يؤطرها ضمن مستوياته ويمنحها الشهادات وفق معايير مهنية واضحة ومحددة متفق عليها بين كافة الشركاء والأطراف ذات العلاقة، ليكون مرجعا لنظام شامل للاختبارات المهنية، ونظام منح التراخيص للأفراد وأماكن ممارسة العمل، لتصبح جميعها جزأ لا يتجزأ من نظام التعليم والتدريب المهني والتقني. يعمل هذا النظام على توفير قنوات رأسية وافقية بين اثنين من انظمة التعليم والتدريب المهني والتقني الرسمي وغير الرسمي، بحيث يشكل منظومة متكاملة تسمح للمتعلمين الانتقال من نظام إلى أخر وفقا لمعايير محددة، مع العمل على تمكين عملية التعلم مدى الحياة.

ولضمان اصلاح منظومة التعليم والتدريب المهني بالشكل المطلوب، وتوفير عناصر الدفع الذاتي والتحسين المستمر، لا بد للهيئة ان تمثل نظام حوكمة قوي ومستقل متخصص يشرف على النظام ويديره من خلال استراتيجية وطنية واضحة، يرسم السياسات ويضمن تنفيذها بتناغم وتكامل بين كافة مستوياتها ومختلف مكوناتها، يحكمه قانون خاص يسد الثغرات الحالية ويضمن توفير الموارد المالية والبشرية و توحيد الجهود الوطنية؛ يعمل على متابعة كافة المؤسسات الحكومية والأهلية والخاصة التي تستوعب عشرات الآلاف من الملتحقين بهذا المسار والذي سيضمن التوازن ما بين مخرجات الجامعات الاكاديمية والمعاهد المهنية والتقنية. ولتأكيد جودة النظام وفاعليته، وبالتالي ضمان كفاءته الداخلية والخارجية ومواكبته لمتغيرات القرن الواحد والعشرين؛ لا بد من توفر مجموعة من الادوات الأساسية من بينها تفعيل نظام معلومات سوق العمل (LMIS)، ليعمل على توفير البيانات اللازمة لنظام التعليم والتدريب المهني والتقني، ويكون مرجعا مبررا لاقتراح مناهج وبرامج جديدة، ومراجعة البرامج القائمة على فترات منتظمة، وذلك بمشاركة أصحاب العمل، الاتحادات المهنية والنقابات العمالية.

بالإضافة الى الرصد والمتابعة لاحتياجات السوق وتوجهات القطاعات الاقتصادية المختلفة، حيث يمكن استخدامه من قبل المخططين، صانعي السياسات، متخذي القرارات، الباحثين عن عمل وأصحاب العمل. ينبغي أن يستخدم نظام (LMIS) لتطوير واعادة توجيه برامج التعليم والتدريب المهني والتقني نحو احتياجات السوق المحلية والاتجاهات الاقتصادية المستقبلية. كما ينبغي لهذا النظام أيضا أن يعمل على قياس رضا أصحاب العمل كمؤشر لنوعية مخرجات برامج التعليم والتدريب المهني والتقني.

كون القطاع الخاص المستفيد الاول من مخرجات التدريب المهني؛ ينبغي ان يكون شريكا حقيقيا في صنع السياسة، التمويل، التنفيذ، والمشاركة في التدريب القائم على العمل (Work Based Learning) ما بين مؤسسة التدريب ومؤسسات سوق العمل، وفي تطوير البرامج والمناهج، واختبارات التقييم، والرصد والمتابعة. بالإضافة الى اهمية مشاركة الاتحادات والنقابات بشكل فعال في صنع السياسات وتنفيذ النظام. ولا بد من تشجيع القطاع الخاص للاستثمار في هذا القطاع.

لضمان تنفيذ السياسات المقرة والإصلاحات المرجوة، وحيث ان كلفة التدريب المهني عالية لا بد للهيئة من إنشاء الصندوق الوطني للتدريب لجمع الأموال اللازمة لاستخدام نظام التعليم والتدريب المهني والتقني، شريطة ربط سياسات التمويل بمعايير الأداء ومعايير الكفاءة، وعلى وجه الخصوص نسب التشغيل.

أن مؤسسات التدريب والتعليم المهني بشكلها الحالي هيكليا واداريا وماليا؛ لا يمكنها الذهاب بعيدا والاستجابة لرؤى التغيير وابعاده الاستراتيجية، وعلية من الضرورة بمكان تطويرها وتحويلها الى معاهد للتمييز، تتفوق في تخصصات معينة. كما ينبغي لهذه المراكز ان تكون متعددة الأغراض قادرة على تقديم خدمات للاقتصاد وخدمات إنتاجية واستشارية، وتدريب المدربين، وغيرها من الخدمات، وانشاء مجالس إدارة لها او مجالس استشارية، تضم مؤسسات القطاع الخاص ذات الاختصاص ومؤسسات المجتمع المحلي والنقابات المهنية.

إن تحقيق الاصلاح المتكامل للمنظومة، لا يمكن ان يتم في ظل تشتت النظام وتبعيته لوزارات مختلفة، وعدم وجود نظام حوكمة قوي ومستقل يشرف على النظام ويديره ويضع السياسات العليا لتطويره باستمرار، ومن هنا تأتي ضرورة انشاء الهيئة كجسم مستقل تتوحد الموارد البشرية والمادية تحت مظلتها، تمتلك الأدوات الفاعلة لتحقيق أهدافها وصناعة التغيير الجوهري على مستوى النظام ككل، من خلال إعادة بناء مكوناته المشتتة كمجموعة من الجزر، وبناء شراكة حقيقية استراتيجية مع القطاع الخاص تضمن دعمه والتزامه للانخراط والمشاركة في عملية النهوض بهذا القطاع الحيوي، وانجاز ما اخفقنا في تحقيقه على مدار السنوات الكثيرة الماضية، رغم النجاحات التي أنجزت هنا وهناك بدعم كان وما زال من جهات صديقة وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي والجمهورية الألمانية والمملكة البلجيكية وغيرها.

شارك هذا الخبر!