الشريط الاخباري

الأخضرُ يليقُ بك.. وصوت ملحم‎ بقلم: محمد مسالمة

نشر بتاريخ: 08-06-2021 | أفكار
News Main Image

الجمالُ وليس سواه، فالمكان هنا يعشق اللون الأخضر، إن أردتم أن تكونوا في حضرة الباذان يوماً، أنصحكم بأن تصغوا للطبيعة جيداً ولأحجاره كذلك، صدقوني إنها تنطق ولا أبالغ، صوتها يجعل الروح تسعد، والعين تحدّق وتدقق في كل التفاصيل، الربيع دائمٌ، وعيون المياه لا تنضب أبداً، لا تمل من العطاء، كل هذا الجمال وأكثر.

أروي لكم تجربة المشي على مسار قرية الباذان التي يسكنها قرابة 4 آلاف فلسطيني شمال شرق مدينة نابلس، ولعلّ هذه التجربة زادتني ارتباطاً بالأرض، بعذوبة كل ما رأيته، ولا شيء يجعلك تحبس أنفاسك أكثر أنها نابلس، الذي يرتبط اسمها بشيء ما من القرب والود في نفوس غالبية الفلسطينيين، ومن جاءها من أنحاء الكون.

أما أحمد ملحم؛ فهو حكاية أخرى.. زاد الجمال جمالاً، سأروي لكم لاحقاً ماذا يقول الفنان بصوته المخملي على لسان مغترب اكتوى بنار الشوق للوطن.

منذ الصباح، وجدت نفسي على متن حافلة، اعتادت أن تنطلق من وسط المدينة، وتغيّر وجهتها في كل جمعة إلى حيث رقعة أخرى من الوطن الجريح، تستقلها "العائلة الفلسطينية"، مجموعة من عشّاق المسير في أحضان الطبيعة، خصصوا لنفسهم يوماً يريحون فيه العقل والروح، ويعرفون فيه أسرار وحكايا وقصص وروايات كتبها الزمان على هذا الارض، حين صعدت إلى الحافلة بدأت منسقة المسار ليانا تعرّفني على افراد تلك العائلة، وهي تضيف بعد كل مرّة: "محمد من الخليل".

وما تحركنا حتى بدأت اسمع تمتمة الراكبين يتحدثون عن أخبارهم وحياتهم ويسلمون على بعضهم بابتسامة عريضة، وأطراف حديث تدعوني للفرح وتثير في نفسي الشغف للمكان الذي نتوجه إليه، تساؤلات عن منطقة مسار اليوم، تاريخها ولونها وأهلها وأكلها وشربها وسهولها وجبالها حيث تشهق الروح بمرتفعاتها، ورغم وعورتها وانحدارها الشديدين، إلّا أن الأشجار تغطي أكبر قدر منها، وتمد الساكنين بهواء نقي عذب.

بدأنا السير من منطقة جبلية تفصل الباذان عن "طلوزة" سنهبط منها إلى الوادي- وقبلها كنا قد أخذنا بعضاً من خبز الطابون ومعجنات الجبنة ومناقيش الزعتر البلدي الذي يفوح برائحته الجبلية، من مخبز على الطريق، يعج بالزائرين- وما أن ارتفعنا قليلاً بين الأشجار الحرجية، حتى مال بنا الدرب إلى الوادي، منطقة بريّة غنيّة، يعود تاريخها للعصر الآشوري، وفي العهد العثماني كان الوادي طريقاً يربط نابلس ببيسان والمناطق الأخرى، ولكثرة المياه فيه تم إنشاء 15 طاحونة للمياه، لا زالت آثارها شاهدة على زمن بعيد.

وعلى حين غفلة، سمعت صوت غناءٍ شدّ مسامعي، قلت إن الطبيعة فتنت ملحم للغناء، بدأ يغنّي للوطن وللحنين والحب والحياة، التقطت بعد الصور ومشاهد فيديو، والكل يسمع ويطرب على عذوبة صوته، تعرّفت عليه وزادني شرفاً، فنان صاعد حالم مبدع صوته يلامس القلب، فكره راقي، تخرّج من كلية الهندسة في جامعة النجاح، وأحب الفن وهندس الكلمات. لم يكد يغيب عنا صوته طيلة الوقت، وكلما صمت طلبنا المزيد.

أطلعني أحمد على مسيرة فنّه، وقال إنه غنّى للقدس وللنصر، وللحرية، وللشوق والحنين، أخبرني أنه على موعد مع إطلاق أغنية جديدة، لم يبخل عليّ وأسمعني إياها رغم أنها في طور التحديث ولم تنشر بعد، كان هذا شرفاً لي، يقول إنّها من كلمات مغترب كواه الحنين لفلسطين، لا أريد أن اتحدث أكثر عن تفاصيلها.. بالتأكيد ستتابعون وتسمعونها بعدما ينتهي ملحم من إنتاجها.

على طريق المسار، زرنا بازاراً للمنتجات الزراعية، والمصنوعات اليدوية التراثية، ترى فيه سلّات القصب، وأساور التراث ونقوشه، والمخللات على تنوعها مما جادت به الأرض من خيرها، ومنتجات العنب والعسل كذلك.

الطبيعة هنا تدعوك للتمعن بها أكثر وأكثر كلما سرت بين جنبات الوادي، ونحن على الرغم من أننا في مسار للمشي، إلّا أن في كل موقع نأخذ وقتاً للبقاء قد يطول عن اللازم.

ليست هي المرة الأولى التي أزور فيها الباذان، لكنّها الأولى التي اعرف فيها عن الباذان، هذه المعرفة تزيد من ارتباطك بهذه الأرض، وهنا تتجلى فلسفة المسارات، في أن نعرف أكثر عن وطننا وتاريخنا وعن بداية البدايات لكل شيء خلق هنا.

انتهى يومنا في المحطة الأخيرة، في جلسة لم نمل فيها الحديث والغناء والحكايا والقصص، حتى مالت الشمس إلى الغروب، ثم عدنا نحمل من الباذان وعداً بأن نبقى قريبين إليه ما استطعنا.

شارك هذا الخبر!