الشريط الاخباري

فاقد الشيء يعطيه... بقلم: أحمد هيثم طه

نشر بتاريخ: 21-11-2021 | أفكار
News Main Image

لا تميل شراع السفن في البحار دائما للفرح، احياناً تطال من الهمام مآسي، هنالك وقائع تكون خارج التصور والمخيلات.

كان أسامة في الرابعة عشر من العمر، في المرحلة الإعدادية لعائلة كبيرة نوعاً ما، تتكون من والدين وثلاث اشقاء وشقيقتين، بالإضافة الى الجدة المجاورة لهم بالسكن. كان أسامة شاباً طموحاً خلوقاً، خلفاً لأشقائه من جهة الفكر والنقد، عشق الدراسة والقراءة، وتمنى ان يتم صفوفه الإعدادية، وينتقل إلى مرحلة التوجيهي للفرع العلمي، ليتمكن من دراسة الطب، فقد كان يراوده حلم ان يكون طبيبا في مركز القرية، خلفا لطبيب القرية الدكتور صلاح، والذي كان قدوته ومثاله الأعلى، فقد عزز من معنوياته، وأشار الى امكانياته، وساعده في انعزال الذات والانخراط بجيلٍ واعي. تعاونا بالدراسة حتى الصباح، ثم ذهب أسامة كعادته للمدرسة، ليمر بعد ذلك على مستوصف القرية، إلى طبيبه ومعلمه لياخد منه ما تمكن من وقت لمساحه التدريس وتقويه الذات، إلى ان اثمر مجهودهما واستطاع اسامة رغم صعاب بيئته واراء ابويه بعدم امكانيته بالتعلم من الحصول على مقعد في الفرع العلمي، واجتهد رغم المشقة والصعاب والتدريس المتدني بالقرية، الى ان اجتاز بنجاح مكلل كل الهمام والصعاب بامتحانات التوجيهي، وعلى الرغم من التوتر الحاد، والاحباط المجتمعي الداخلي من الاهل، الا انه رغم ذلك ظل متمسكا بهدفه.

مرت الأيام، واحتد النقاش والصراع بين الاب والابن تارة، وبين الطبيب والاهل تارة أخرى، على حتمية تدريس أسامة في جامعة خاصة، لأن التخصصات والمستوى الأكاديمي في الجامعات الحكومية لا يمكنه من الحصول على أي مكانة مهمة فب المجتمع، الا ان الاهل كانوا دائما يرفضون هذا بحجة الظروف ومستوى المعيشة المتدني والدخل الهابط، وان كل هذا سيكون على حساب اشقاءه في المستقبل، لأننا نعرف مدى غلاء الجامعات الخاصة.

كان الاختيار صعبا، وخصوصا بعد اجتهاد والده لتسجيله في لجنة الزراعة في القرية، مع انه يعرف بأن هذا بعيد كل البعد عن طموحاته. بالإضافة الى إصرار أمه على تزويجه والعيش بغرفة منفصلة في المنزل، على اعتبار بأنه بلغ ورشد، ولكنه حاول إدراك الموقف والتفكير بحلٍ لينجو وينقذ حلمه، وكالعادة لجأ الى مرشده الدكتور صلاح، فهو الوحيد الذي كان يدخل الى قلبه البهجة والثقة بالنفس، وفعلاً أعطاه جرعة امل قوية اعادته الى الطريق الصحيح.

في احدى الليالي الماطرة، ذات الطقس البارد جدا، أسامة اسيرا في غرفته يحشد فكره ويرسم حلمه، في غرفه ضيقه يكاد يمسها ضوء خافت كعنق زجاجة في الظلام، بسبب انقطاع الكهرباء المتكرر عن القرية، واذ بصراخ مرتفع يعلو من المنزل ليصل اذن اسامه من والده يعاتب فيه والدته، ويقول:" كيف بدي اكمل الشهر في كل هالمصاريف، أكل واغراض الدار وفوق هيك الأدوية لامي، ولسا لازم أجيب حبوب للزراعة عشان الحق الموسم، يا ربي أنا كيف بدي أدبر حالي بهالوضع" فعادت الأفكار المحبطة لتجوب عقله...

نام ليلتها في صراع داخلي حاد، أو بالأحرى كابوس يراوده بين الحين والأخر (أكون أو لا أكون)، حتى استيقظ المنزل على خبر صادم، أسامة في منتصف المنزل في غرفة المعيشة مستلقيا على الأرض، جسده ساخنا ومليء بالعرق.

حمله الاب واخده الى المستوصف، وهرع اليهم الطبيب عند رؤيتهم ليسعفه بأسرع وقت، فأجرى له الفحوصات اللازمة، فإذ به يكتشف بان حالته سببها ليس جسدي وإنما نفسي، فيطلب من اسامه مرافقته غدا للدوام.

عاد أسامة الى المنزل ليرتاح حسب أوامر الطبيب، ولحسن الحظ بأن اليوم كان متعبا، ليتمكن من النوم دون أن يفكر باي شيء...

نهض باكرا وذهب للمستوصف ليقابل الطبيب، وطال حديثهما معا عن سبب وصوله الى هذه الحالة، فأخبره بما جرى والاحداث القائمة بالمنزل، طمنه الطبيب قليلا ووعده بمساعدته، فقام بمكالمة هاتفية مع احد أصدقاءه في دائرة التعليم، وصدم من الرد، لم يتوقع أبدا ان ينجح في إقناعه بإعطاء منحة دراسية لأسامة، ولكن يبدو أن الحظ أفاده هذه المرة، وانقلبت حياته بمكالمة هاتفية نقلته لعالمه الجميل، وجعلته يحقق حلمه بدراسة الطب، وفي روسيا أيضا، عبر منحه من الحزب الشيوعي، مع ان الحزب الشيوعي لم يكن منتشرا في ذلك الوقت في القرية، ولكنه لم يرى أي شيء وقتها سوى حلمه، ووافق في لحظتها دون تردد. بدأ الطبيب بالذهاب الى البريد وتقديم طلب البلد والتوصيات، وبعد مرور شهر، وصلت لهم موافقه التنظيم للمنحة مع تأشيرة دخول للأراضي الروسية ومقعد جلوس في جامعتها.

ذهب أسامة مسرعا لترتيب الامور من جواز السفر، وتحضير الملابس، وهنا كانت الصدمة، أخذ صفعة جديدة من الحياة، وهي رفض والديه للمنحة، وبعد تفكير طويل، قرر الذهاب رغم رفضهم، فلا يملك خيار آخر، وفي اللحظات الاخيرة قبل اقلاع الطائرة ورغم توتر العزم لدى أسامة، يتفاجأ بقدوم والديه لتوديعيه وقيامهم بالترضي والتبارك لله عليه، فتعود الحياة الى نفسه.

تقلع الطائرة الى روسيا وتصل المطار فيبدأ أسامة اولى رحلاته بالتجوال والتعرف للمكان. وتمر سبع سنوات ويتمم الترخيص والتعليم بنجاح باهر، ويعود الى البلاد فيتفاجأ بوفاة استاذه الطبيب صلاح بوعكة صحية بالقلب، وهو مجال تخصص أسامة. فكم من حلم نرسمه بالبال ويشاء القدر ان يكون نهاية اخرى....

شارك هذا الخبر!