دخل الأسير الفلسطيني ابن قرية عارة في الاراضي الفلسطينية المحتلة 1948 كريم يونس يوم 6/1 عامه ال 40 في سجون الاحتلال الإسرائيلي ،وهو أقدم اسير يقضي اطول فترة زمنية خلف القضبان، وخلال هذا الوقت الطويل تغيرت الاحوال والاتجاهات والسياسات، جاء قادة وذهب آخرون، تغيرت الأمكنة والاسماء واللغات والعقول، لكن السجن لم يتغير كعلاقة بشعة على بقاء اطول احتلال في التاريخ المعاصر، البرش هوالبرش، الاصفاد هي الاصفاد، القضبان وصراخ التعذيب، الاسلاك والنوافذ الموصدة، رائحة الهواء الرطب، السماء البعيدة والذكريات البعيدة.
أربعون عاما في سجون الاحتلال الإسرائيلي ، وحسب توقيت فلسطين المحتلة وأعياد ميلادها المجيدة ووفق زخات الأمطار في هذا الشتاء لا زال الأسير كريم يونس حيا في تلك المقبرة التي تسمى سجن ، توقفت الساعة الصهيونية ، صدئت حساباتها ومعادلاتها الزمنية ، لم يمت كريم يونس ، لم يتحول الى جثة أو شبح على جدار، يروه واقفا يعانق السماء في سجن "هداريم" ، قامته أعلى من السياج ، روحه تتحرك حاملة جمرات هذه السنوات الطويلة خلف القضبان . ذاكرة كريم يونس احتشدت بالشهداء الأسرى، بالداخلين الى السجن وبالخارجين، السجان هو السجان، الوجع اليومي والحنين، الصور الاولى، الطيور وقطرة الحليب وبئر الماء، المدن والقرى والبساتين والظلال، والدته العجوز المقعدة وصوت حبات المسبحة بين اصابعها وهي تعد الايام والسنين وتزفر طويلاً طويلاً بالدعاء. أربعون عاماً مرت، صدئ الحديد وتعفن الجدار ويئس الجلاد، جربت حكومة اسرائيل كل قوانين البطش والخنق والقمع ووسائل شطب الهوية النضالية للإنسان الاسير، في كل مرة يظهر وجه كريم يونس العنيد، يحمل عتاده الانساني وذخيرته النضالية والأخلاقية، يحمل آلامه وارادته ليهزم الليل والغياب، يرى ما لا يرون، يرى شمساً في السجن وخلف الظلمات. أربعون عاماً مرت على جسد مخلوق من كبرياء وشموخ، وبرغم مرور أكثر من مئة عام على وعد بلفور المشؤوم، وأكثر من 74 عاما على النكبة ،وأكثر من 55 عاماً على النكسة ، وبرغم التضخم العسكري والاستيطاني الإسرائيلي وبناء السجون، فأن دولة اسرائيل لاتزال تسمع من يدق على الجدران وابواب الحديد، ولاتزال مشغولة بالحراسات والتشديدات الامنية الى درجة الجنون، لم تتوقف الدقات والانفاس، هناك من يمر من الف باب وباب، هناك من يشعل الجوع في الاضراب، هناك من يحرر السجن من داخله، ويبقى السجان مقيداً في الزمان والمكان. كم حرباً تحتاج دولة اسرائيل لتنتصر على كريم يونس؟ كم شهيداً ستقتل؟ كم اسيراً ستعتقل؟ كم بيتاً ستهدم؟ كم جريحاً ومبعداُ وسجناً ومستوطنة؟ لم يختف كريم يونس من الوقت، اكثر من 15 فرداً من ابناء اخواته واخوته ولدوا خلال 40 عاماً، وكبرت العائلة، فاختنق الاسرائيليون في الديموغرافيا واسرار النطف المهربة. حكم على كريم يونس وزميله ماهر يونس عام 1983 بالإعدام شنقاً وبمصادقة وزير الدفاع الاسرائيلي موشي ارنس ،ورئيس هيئة الأركان رفائيل ايتان، ألبسوهما بدلة الاعدام الحمراء لمدة 275 يوماً، حبل المشنقة يتدلى في سجن نيسان بالرملة حيث كانا يقبعان، الحبل يشد على الرقبة، الحبل يتحرك ببطء مع عقارب الساعة، الموت يرقص في تلك الزنزانة الخاصة المعزولة التي حشرا فيها، الموت يذهب ويجيء، يسهر الموت فوق الكتفين وقدام الباب وعلى العتبة. 275 يوماً في بدلة الاعدام، كريم يونس مربوط بالجنازير من يديه وقدميه، على مدخل الزنزانة تواجد 12 شرطياً وضابطاَ ينتظرون قدوم الموت ليحتفلوا ويستمتعوا بالجريمة، حالة طوارئ واستنفار غير مسبوقة في تل ابيب، الحراسة مشددة، لن يهرب الموت او يخطئ، الموت جاهز ومستيقظ ولا ينام، الموت واقف كالظل لا يفارق كريم، الموت هو الزائر الوحيد القادم، سيأتي الساعة الخامسة، سيأتي الساعة السابعة ،سيأتي ربما الآن، ربما ظهراً ،ربما في منتصف الليل، الموت يأتي بسرعة لا صوت له سوى الغرغرة، الحراس ماتوا كثيراً وهم ينتظرون قدوم الموت، يتساءلون لماذا تأخر الموت؟ الرجل الذي سيموت يبتسم في وجوهنا كأنه يرى ما بعد الموت حياة. 275 يوماً في بدلة الاعدام، دولة اسرائيل متأهبة لتنفيذ الجريمة، ولكن ما هذا الرجل الذي يفك عن رقبته حبل المشنقة، القدس انتفضت بين يديه، صنوبر الكرمل تحرك بين عينيه، والدته هبت عن كرسيها المتحرك واقفة، فاض البحر المتوسط، أمواجه عالية، دولة اسرائيل بعد 40 عاماً قلقة ومسيجة وخائفة. صارع الأسير كريم يونس على مدار 40 عاما السجن والسجان ، وسياسة القمع وتجريد الانسان من انسانيته ، تفوق على الهدر الإنساني والعنصرية الإسرائيلية وتسامى بشجاعته على مخططات إبادة الروح والجسد والوجدان ، هي أسطورة فلسطينية لم يكتب عنها المؤرخون وعلماء الميثولوجيا وفلاسفة الحرب والقانون وأصحاب الملاحم الشعرية الكبرى ، ليس بيننا هوميروس ولا دانتي ليكتشفا العلاقة بين قدرة الانسان على الحياة في جهنم الصهيونية وبين جنة الأرض الفلسطينية ، الانتصار على السجن في عالم الموت الإسرائيلي والتحول الى قمر يضيئ الدنيا ويهتدي ببشائر الآخرة . ربما سمع الجلادون في تلك الليالي صوت كريم يونس وهواجسه وهو يردد ما جاء في رواية ثورة المشنوقين للكاتب ترافن: اذا كانت حياتي لا تساوي شيئاً، واذا كنت اعيش في السجن اسوأ من حيوان، فلم افقد شيئاً ان تمردت وثرت على ذاك الذي شنقني. 275يوماً في بدلة الاعدام، الانتظار كان هو الموت، من ينتظر اكثر يعيش اكثر، الاسرائيليون لم يستطيعوا الانتظار، بدأوا بتنفيذ الاعدامات الميدانية دون محاكمة في الشوارع وعلى الحواجز والارصفة، وصار الاعدام قانوناً مشرعاً في الكنيست الاسرائيلي، تتدلى حبال المشانق من أروقته في تقديس للموت والقتل والكراهية المقيتة، كلهم يهتفون: الموت للعرب، الموت للأسرى، يحترقون في عنصريتهم ويدعون إنهم ضحايا المحرقة. 275يوماً في بدلة الاعدام، وقد اصبح الاعدام مفتوحاً على النسيان والمجهول بإصدار احكام المؤبدات الجائرة على المئات من الاسرى والاسيرات، وانقضت حكومة الاحتلال على حقوق الاسرى بسن تشريعات عدائية وعنصرية وبشكل غير مسبوق، وشكلت الكثير من اللجان لتضييق الخناق على الاسرى وتشديد الاجراءات عليهم، وسلبهم لكافة حقوقهم الانسانية والمعيشية، يعتقد الاسرائيليون ان الإعدام يبدأ بإعدام الكرامة، وتجريد الاسرى من آدميتهم وانسانيتهم، ويعتقدون انهم قادرون على اخماد نشيد الحرية في السجون: نعم قد نموت ولكننا سنقتلع الموت من ارضنا. 40 عاما في سجون الاحتلال ،صار حبل المشنقة غصن شجرة، ارتداها كريم يونس في عيد الميلاد، خلع البدلة، قفز عن السور، 6 أسرى حفروا نفقا وعانقوا فضاء الحرية ، الحرية لا تعطى وإنما تنتزع إنتزاعا ، بدأ عام آخر، ها هو يقرع الاجراس في الساحة، إضرابات ملحمية عن الطعام ، لن نستسلم فأما النصر او الشهادة. 40 عاما في سجون الاحتلال ، كانوا يرونه قنبلة، وكان يراهم دولة عسكرتارية استبدادية تمارس الجريمة والخطايا المنظمة، كانوا يرونه تهديداً وجودياً على اسطورة ارض الميعاد، وكان يراهم عابرين غزاة فوق دبابة ومذبحة. 40 عاما في سجون الاحتلال ، الحبل ينفلت عن رقبة كريم ويشتد على رقبة دولة اسرائيل، دولة "الابرتهايد" في المنطقة، دولة يقودها التطرف القومي والديني، دولة لم يعد فيها أي مظهر لمجتمع مدني وديمقراطي، دولة تنحدر الى الفاشية والبربرية. 40 عاما في سجون الاحتلال ،وبتوقيت فلسطين والقدس، دخل كريم يونس عامه الجديد حياً حراً سيداً، في يده اليمنى عكازة أمه العجوز، وفي يده اليسرى عكازة حياته المقبلة.