بقلم/ معتصم حمادة
عضو المكتب السياسي
للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
كانت الإدارة الأميركية شديدة الوضوح في حديثها إلى القيادة السياسية في السلطة الفلسطينية، إذ أكدت لها أن تبنيها لحل الدولتين لا يعني الذهاب مباشرة إلى المفاوضات، فلا الأوضاع الأميركية تفسح في الوقت لإدارة بايدن للتفرغ للقضية الفلسطينية ولا الأوضاع الإسرائيلية هي الأخرى مؤهلة للشروع في المفاوضات، في ظل تركيبة حكومية – أحد مصادر مدها بأكسير الحياة هو اتباع سياسة مزايدة على سياسات نتنياهو، وفي أدنى الأحوال، لا تقل عنها تطرقاً. لذلك رفع بينيت شعاره برفض اللقاء مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وكذلك فعل شريكه في الحكم مائير لابيد، وزميلته شاكيد.
البديل الأميركي، والذي لم يرفضه بينيت هو الحفاظ على النظام في المنطقة، وإبعادها عن الحروب وكل أشكال التوتر وقد ترجمت هذه السياسة بعنوانين، الأول «تقليص الصراع»، والثاني «بناء إجراءات الثقة». وهما عنوانان وجدا لدى بينيت قبولاً وترحيباً، فمن شأن «تقليص الصراع»، أن يلزم السلطة الفلسطينية (من جانب واحد) بتركيز أكثر على تعميق التنسيق الأمني، مع سلطات الأحتلال، بكل ما يعنيه ذلك من خطوات استخباراتية وأمنية لإحباط أي نشاط صدامي مع قوات الاحتلال قبل وقوعه، وتوفير المعلومات الضرورية عنه وعن منفذيه بعد وقوعه باعتراف صريح من وزير الشؤون المدنية حسين الشيخ، حين دافع عن سلطته بأنها لا تشارك قوات الاحتلال في مطاردة المطلوبين لها، لكنها تقدم لها المعلومات المتوفرة عنهم.
هذه السياسة قادت عمليات إلى إجراءات لبناء الثقة فكلما تطور التعاون الأمني، كلما تعمقت الثقة بين الجانبين الأمنيين الفلسطيني والإسرائيلي. والتعاون الأمني، وبناء الثقة، هما أهم أعمدة اتفاق أوسلو الذي مازال، رغم كل الإدعاءات والأكاذيب، يعيش حالة مزدهرة، يعبر عنها في التعاون الوثيق بين السلطة الفلسطينية، وسلطات الاحتلال.
ومع أن بينيت رفض (وكذلك لابيد) لقاء محمود عباس، إلا أن الروح البراغماتية بل والإنتهازية، والعملية أيضاً، التي تبدت في سلوكاته وتحركاته السياسية، هي التي أفسحت لتوزيع الأدور بينه وبين وزير حربه غانتس. الذي فتح خطاً للتفاعل مع القيادة السياسية الفلسطينية، تارة في اجتماع في مقر المقاطعة في رام الله،، ومرة في منزله، دوماً لبحث الإجراءات التي من شأنها أن «تقلص الصراع» وأن تساهم في «بناء إجراءات الثقة». وتعزيز التعاون الأمني، وتنشيط اتفاق أوسلو، وتعزيز العلاقة بين السلطة والإحتلال، بديلاً للإنفكاك عنه، في سياسة إنقلابية أطاحت بقرارات المؤسسات الشرعية الفلسطينية، وإبرازها قرارات المجلس الوطني الفلسطيني (2018) التي أقرت إنهاء العمل بالمرحلة الإنتقالية من اتفاق أوسلو، وتعليق الإعتراف بدولة الاحتلال، ووقف التنسيق معها، والإنفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي، والتحرك دبلوماسياً للدعوة لمؤتمر دولي تحت إشراف الأمم المتحدة، وبرعاية الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن [وليس الرباعية الدولية] لحل القضية وفقاً لقرارات الشرعية الدولية أي رسم المدى الزمني لإنسحاب قوات الاحتلال، عن أراضي الدولة الفلسطينية المعترف بها، وبحدودها(4 حزيران 67) وبعاصمتها القدس.
إذن العلاقة بين السلطة الفلسطينية وبين دولة الاحتلال تعيش شهر عسل برعاية مباشرة من الإدارة الأميركية التي نجحت في إقناع قيادة السلطة ( في اللقاء مع مستشار الأمن القومي جيك سوليفان) بالتوقف عن الدعوة إلى مفاوضات بإشراف الرباعية، والإتجاه الجدي نحو ترجمة «صادقة» لخطط «تقليص الصراع» و«بناء إجراءات الثقة».
مقابل هذا نالت السلطة مكافآت هزيلة حاولت أن تروج لها أمام الرأي العام بإعتبارها إنجازات كبرى. كأن يمنح المواطنون بطاقات الهوية [تصدرها الإدارة المدنية الإسرائيلية الممسكة بسجل السكان وليس من صلاحيات السلطة الفلسطينية التي لا تكف عن الصراخ بأنها على أبواب التحول إلى دولة!) أو جمع شمل عائلات فلسطينية موزعة هنا وهناك (ترجمة لقرارات وقوانين الكنيست الإسرائيلي التي لولاها لما حصل جمع الشمل) أو فتح المزيد من الرخص للتجار الفلسطينيين للتعامل مع إسرائيل [أي ما يعزز الإندماج الاقتصادي الفلسطيني في الاقتصاد الإسرائيلي ويعزز المناطق المحتلة بإعتبارها مستعمرات إقتصادية إسرائيلية) أو منح المزيد من بطاقات «VIP» ما يعزز امتيازات المسؤولين الوافدين على نعمة المسؤولية في السلطة الفلسطينية وجنتها الموعودة.
إجراءات وخطوات ليس من شأنها سوى أن تعزز ارتباط السلطة الفلسطينية ومصالح المواطنين بدوائر دولة الاحتلال واقتصادها في مسار معاكس تماماً لمسار التحرر من الاحتلال وقيوده والتبعية له.
■ ■ ■
على الجانب الآخر من المشهد الفلسطيني ماذا نلاحظ؟
• الإستيطان بكل أشكاله، من توسيع البناء إلى مصادرة الأرض، إلى منح العطاءات إلى رسم الخطط والمخططات، بما في ذلك تهجير المزارعين والرعاة، وهدم منشآتهم الزراعية، ومصادرة قطعان مواشيهم، وسرقة آلاتهم الزراعية من جرارات وشاحنات وطمر آبار المياه، وصولاً إلى تدمير القطاع الزراعي الفلسطيني خطوة خطوة، للفصل بين الفلسطيني وأرضه، والقضاء على منتوجه الزراعي (بما في ذلك تدمير بساتين الزيتون بالإقتلاع أو إشعال الحرائق) يتم هذا دون تدخل من السلطة، دون تدخل أميركي سوى عتاب لفظي حميم، وأحياناً، معاقبة «الطفل المدلل» بينيت، بعدم استقبال الرئيس بايدن مكالماته الهاتفية. هنا لا محل لتقليص الصراع، بل الصراع مازال في أوجه.
• الغزو الليلي للمدن والبلدات والقرى الفلسطينية وشن حملات الإعتقال الجماعي للشبان الناشطين سياسياً وفق جداول أسماء معروفة المصدر.
• هدم المنازل الفلسطينية بذريعة أنها غير مرخصة، مع تغريم أصحابها بدل هدمها على يد قوات الاحتلال، أو الطلب إليهم هدمها بأيديهم مقابل إعفائهم من الغرامة. وكم بات مشهد هدم المنازل مألوفاً في أنحاء الضفة الفلسطينية.
• مواصلة تهويد القدس، وإقتحام الأقصى، وتدنيسه بالصلوات التوراتية وشن حرب تطهير عرقي ضد سكان الشيخ جراح وسلوان، والعيسوية والعيزرية وغيرها من البلدات الفلسطينية المحيطة بالقدس.
• القتل العمد في الشوارع، على الشبهة أو في مواجهة التظاهرات السلمية في بؤر الإحتجاج على التوسع الإستيطاني، وحجز جثامين الشهداء والمساومة عليهم.
• وأخيراً وليس آخراً، شن حرب يومية ضد الأسرى المناضلين في السجون ولإصرار على نعتهم بالإرهاب، والإستفراد بهم خلف القضبان.
في هذا كله، لا وجود لتقليص الصراع، ولا وجود لإجراءات بناء الثقة.
بات المشهد واضحاً: تقليص الصراع مع السلطة، وتصعيده مع المواطنين.