بيت لحم /PNN/ تقرير عمر عاصي خاص بآفاق البيئة والتنمية -
في زمن العولمة والماكدونالدز و"الـتشيز برغر" أصبحنا نفتقد إلى الارتباط الوثيق بين الطعام والطقس والمناخ والطبيعة، بينما في الماضي كان للأطباق حكايا و"خراريف" وأمثال.
والأهم أنه كان للأطباق أوقاتها ومواسمها، فكثيرًا ما ارتبط الطعام بأحوال الطقس وهذا يعود لأسباب كثيرة وعميقة تستحق البحث، فطعام المونة ارتبط تاريخيًا بالكوارث الطبيعية، وتناول الحبوب والدهون ارتبط بحاجة الإنسان إلى "تدفئة طبيعية" في غياب "الطاقة الكهربائية"، وكذلك الاعتماد الكبير على الأعشاب الطبيعية كان بسبب الحاجة إلى "العلاجات الوقائية".
أما النباتات البرية فكانت أشبه بمكملاتٍ غذائية وتضفي تنوعًا مميزًا على النظام الغذائي، في حين أن الأطعمة الموسمية كانت تعبّر عن مدى انسجام أسلافنا مع الطبيعة، وحتى الحلويات الشتوية كانت أكثر قربًا للطبيعة من حلويّاتنا المُعاصرة، التي جعلت أكثرنا أسرى لأمراض السكري وضغط الدم حيث نحتل نحن العرب – ويا للأسف - مراتب متقدمة عالميًا في هذه الأمراض، وهو ما يجعلنا أكثر عرضة للجلطات القلبية والسكتات الدماغية. فنون التلقيط و "مائدة الطبيعة"
مع قدوم الشتاء، وحين تبدأ أصناف الفاكهة البديعة التي اعتدنا عليها بالانحسار شيئًا فشيئًا من الأسواق، ورغم محاولات "السوبر ماركت" بـ "قتل المواسم" بتوفير هذه الفاكهة لنا صيفًا وشتاء، مساهمة بذلك في فصلنا عن الطبيعة ودورة الفصول، ويؤسفنا أنها قد نجحت، إلا أن ثلّة منا ما زالت تنتظر الشتاء وخيراته التي أنعمها الله علينا بلا حول منّا ولا قوّة، وتزاحمنا عليها اليوم "سلطة الطبيعة الإسرائيلية" بمحاولات حرماننا من قطفها، فالزعتر والميرمية والعكوب هي مما تجود به أرض فلسطين في الشتاء وقد اعتمد أجدادنا على هذه النباتات البرية مُنذ القِدم، إلا أن السلطات الإسرائيلية باتت تمنع قطفها ولو لاستخدامات شخصية، ومع ذلك ما يزال بعضٌ يُصر على قطفها ولو كان في ذلك مخاطرة كبيرة.
هذا الارتباط بالأرض يتجلى اليوم بشكل عجيب في حُب الفلسطيني للهليون (حَليون) الذي يُحضر منه طعام الإفطار بعد فرمه مع البيض، وكذلك الخُبيزة يمكن أن تكون إفطارًا شتويًا ممتازًا إذا ما جُعلت "غماس"، أما الزعمطوط (زقوقا) واللسينية فقد حولها أجدادنا إلى وجبات غذاء فاخرة تشبه طبق ورق العنب (الدوالي) وتنافسه في لذته، ويتجلى الإصرار في استحضار الطبيعة على موائدهم بتحضير "اللوف" وكيفية التخلص مما فيه من "سموم" لتُحضّر منه وجبات مفيدة، ولا ننسى "الفقع" أو "الفطاريش" التي يخرج الفلسطينيون للبحث عنها في الأيام التي تلي العواصف الرعدية كما يُخبرنا الباحث سمير ابو الهيجاء من قرية عين حوض، مشيرا إلى أن الناس غالبًا ما تبحث عنها تحت الصنوبر، وفي الأراضي المسمدة التي يكون فيها "روث بقر".
وفي سياق هذا "الارتباط بالأرض" يُذكرنا الحكواتي والباحث في التراث الفلسطيني حمزة العقرباوي بنكتة من وحي "الخبيزة وأخواتها"، مفادها أن رجلًا أعدّت له زوجته وعلى أيام متتالية طبخات من الخضروات، خبيزة، سلق، لوف، ثم بعد ذلك سألته: "شو أطبخلك اليوم؟"، فأجاب، "ريحّي حالك اليوم برعى لحالي". أمراض الشتاء.. و"صيدلية الطبيعة"
مما يميز أطعمتنا التراثية، كالخبيزة أنها كانت تؤكل للوقاية من نزلات البرد ويُتخذ منها علاجًا، وهو ما يُلاحظ في أحاديث أجدادنا، حيث نجد أن اهتمامهم بما تجود به الطبيعة من أطعمة، كان أشبه بالبحث عن الشفاء والدواء في الطبيعة، وهي علاجات وقائية غالبًا، وإذا بحثنا عن أكثر ما كان يشربه أجدادنا في الشتاء فسنجدهم يكثرون من الشاي مع الميرمية، وليس النعناع الذي يكون صيفًا، وإذا ما ذُكرت الميرمية فغالبًا ما يُذكر معها قوّتها "العجيبة" في معالجة الاضطرابات الهضمية والمغص والإسهال.
وإلى جانبها فإن أكثر النباتات تألقًا في شتاء فلسطين لقّبها أهل الجليل "شاي الوعر" وهي نفسها نبتة "زعتر عدس" أو "زعتر بلاط" أو حتى "قرنية" و"زوفا" و"زعيتمان" ولها أسماء كثيرة تختلف من بلد لآخر، وكُل ما سبق يؤكد مدى الاحتفاء بهذه النبتة التي لا يحلو لها إلا النمو بين الصخور، وقد اشتهرت أكثر بفضل خاصيّتها في علاج السعال وإزالة البلغم.
ومن المشروبات الطبيعية التي يكثر طلبها في الشتاء طلبًا للدفء هي "الزنجبيل" أو "الجنزبيل"، وفي ذلك يقول الباحث جمعة خياط الباحث الصحي والاجتماعي إن "الزنجبيل يؤدي إلى تفاعلات بجسم الإنسان، ويرفع درجة حرارته، ويشعر شاربه بنشاط كبير، مؤكدًا أن فوائد الزنجبيل متعددة ولا تقف عند تدفئة الجسم، بل يساهم في الوقاية من العديد من الأمراض، وأثبت الطب قدرته على شفاء القولون والتهابات المعدة والمفاصل والصداع النصفي والدوخة وغيرها، كما يحتوي على العديد من الفيتامينات والمعادن الضرورية لصحة الإنسان، منها فيتامين B وC والحديد والكالسيوم والفوسفور".
ولا ننسى دبس الخروب، والذي يُحضّر من ثمار الخروب التي تنتشر في الجبال، كجبل الكرمل في فلسطين، ويستخدم غالبًا في تحضير حلوى "الخبيصة" ولكنه أيضاً يُعد من أفضل العلاجات للأمراض الشتوية وتحديدًا التهابات الحلق، بالأخص إذا ما خُلط مع الطحينة، ومن شدّة إعجاب وإيمان الفلاح بقدرات الخروب والطحينة صارت مضربًا للأمثال، حتى استخدمت للتشبيه بمن يذهب إلى المدينة ولا يتبدل حاله: "نزل الفلاح ع المدينة ما استحلى غير الخروب بالطحينة".
طاقة الحبوب والدهون.. و"التدفئة الطبيعية"
تمامًا كارتباط الزنجبيل والسحلب بالدفء، فإن الكثير من أكلات الشتاء الشعبية ارتبطت بفكرة الدفء، ولعل أكثرها شُهرة هو العدس، فقد ارتبط بالدفء بكل أشكاله، سواء كُنا نتحدث عن "الرشتاية" أو "الرقاق" أو حتى "المسلوعة" و"المجدرة" فيما تتقدمهم "شوربة العدس" البسيطة جدًا والمتاحة لكل عائلة، بما في ذلك أفقر العائلات وقد بالغوا في مدحه حتى قالوا "العدس لحمة الفقير" كونه غنيًا بالحديد والبروتينات.
ومما يُقال في ضرورة الإكثار من العدس في الشتاء: "في شهر الميلاد رد العدس للأولاد"، كما أن شوربة العدس غالبًا ما ترتبط بالأيام الماطرة في فلسطين حتى يومنا هذا.
وفي الحديث عن العدس تنصحنا المُختصة في التغذية المستدامة عرين شبلي بالبقوليات عمومًا كونها "صديقة للبيئة"، وهذه العلاقة الودية مع البيئة لأن كيلو غرام واحد منها يتسبب في إطلاق 1-2 كغم من غازات الدفيئة، على عكس اللحوم (التي ينتج عنها كميات أكبر بكثير) وإلى جانب الفوائد البيئية، فإن "شبلي" تنصح بالإكثار من تناول الشوربة لأنها تمنح الجسم الدفء وتملأ المعدة وبها تقاوم الشعور بالجوع.
ومن المثير، أن العائلة الفلسطينية مع اشتداد المطر وهي الأيام التي تُسمى "الأيام الحوابس" كانت تغتنم الفرصة لتحضير "المفتول" لما يحتاجه من وقت في التحضير ولما فيه من فوائد على رأسها الشعور بالدفء، إلى درجة أن الفلاحين كانوا يطلقون على الأيام الماطرة أو حتى أيام الثلج بـ "اليوم يوم مفتول" لأنه كما يقولون "بدّفي القلب وبِرُم العظم".
وما دُمنا نتحدث عن القمح ومنتجاته، فإن شوربة الفريكة تُعد من الأكلات الشتوية المميزة، وأكثر ما يميز هذا الطبق هي كثرة الألياف فيه التي تعطي الجسم شعورًا بالشبع لفترة أطول، وهي تصل إلى أربعة أضعاف الألياف الموجودة في الأرز البني.
ومن الأطعمة التي تعتمد على حبوب الشعير في صناعتها وتعطي شعورًا بالدفء هي "التلبينة" التي نجدها تنتشر عند العطارين في فلسطين.
وقد ذُكرت في السيرة النبوية، حيث يقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في مدحها "التلبينة مجمة- أي مريحة - لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن" وهي عبارة عن خليط الشعير مع الحليب والعسل ويراها بعض "مثالية لفصل الشتاء".
إلى جانب الحبوب، فإن اللحوم حاضرة كذلك عندما يُسأل عن الطعام والدفء في الشتاء.
والقاورما مثلًا، هي من أبرز مكونات المونة الشتوية عند أهل الجبال كالدروز الذين يعتبرونها "ملكة المؤونة الجبلية" والقاورما تُحضّر في أواخر فصل الصيف من لحم الماعز أو الغنم، وتعتمد بشكل كبير على الدهن من ذيول الأغنام وهذه الدهون الحيوانية أفضل صحيّا من الزيتون المهدرجة التي تنتشر اليوم، وما يزيدها استدامة أنها تستخرج من ذيل الأغنام المحلية التي تنتمي إلى صنف العواسي أهم عناصر القاورما كما يذكر رامي زريق قائلاً "الخراف التي سوف تصبح قاورما تُختار في فصل الربيع، وتُعلف حتى الصيف ويقوم الرعاة بالحدّ من حركتها لكي تسمن ويتراكم دهنها".
وغالبًا ما تكون "جرّة القاورما" هي المصدر الأساسي للحم الأحمر للعائلات الريفية المتواضعة والتي تستهلك جرّة القاورما خلال سنة كاملة.
إلى جانب القاورما التي تُعد تاريخيًا طريقة مميزة لحفظ اللحوم، فإن أجدادنا كانوا أكثر استدامة وانسجامًا مع الطبيعة كما أنهم كانوا أقل هدرًا للطعام وأكثر حرصًا على استغلال كل ما في الذبيحة بما في ذلك الأحشاء كما تخبرنا "نجلاء عبداللطيف"، فيحضرون منها طبق "الكرشات" أو "الفوارغ" أو "أم الضراير" أو "القبوات" و"المقادم" كما تعرف في سوريا و"الباجة" كما تعرف في سوريا والعراق "والكوارع كما تُعرف في مصر فلكل بلد تسميته، فلهذه الوجبة "رهبة خاصة" وهي ليست وجبة الفقراء في الأصل، بل كانت من الأطباق الرئيسية للسلاطين أيام الدولة العثمانية ومن هناك انتقلت إلينا كما تشير بعض المصادر، وبغض النظر عن المسميات والأصل، فإن القاسم المشترك أن الناس يقبلون عليها بشكل كبير في الشتاء، حتى أن سعرها يتضاعف فيه ، كما جاء في حلقة "ما في شيء للكب" من بودكاست مهضوم، ويعود السبب في ذلك للاعتقاد الشعبي بأن كميّة الدهن الكبيرة الموجودة في "الكرشات" تساعد على تدفئة الجسم، وهو ما يؤكده بعض الخبراء بأن وجبة "الكرشات" تحتوي على كمية كبيرة من السعرات الحرارية التي تجعلها مثالية للحصول على الدفء في الشتاء.
وإذا ذُكر الشتاء والدهن واللحوم، فلا بد أن نذكر المسخن "الفلسطيني" الذي يستفتح به فصل الشتاء، فطبق المسخن يرتبط بشكل أساسي بموسم الزيتون الذي يبدأ قبل الشتاء، إذ يعتمد بشكل أساسي على كميّة كبيرة من زيت الزيتون الجديد "زيت السنة" ولهذا يحضّر في هذه الفترة كما يرتبط عادة بـ "لمّات" العائلة في الشتاء. وللمسخن مناطق يشتهر بها أكثر من غيره مثل منطقة طولكرم، ومن الجدير بالذكر أن أهالي كفر قاسم يحضّرون هذا الطبق بشكل خاص في ذكرى مجزرة كفر قاسم الذي يصادف موسم الزيتون 29/10.
ولكون الحديث عن اللحوم والاستدامة شائك، تؤكد المختصة في قضايا الاستدامة نجلاء عبد اللطيف، أن استهلاك اللحوم بشكل مستدام يعتمد على إنتاج محلي يُحبذ أن يكون مصدره من راعي غنم قريب، يُعرف أنه يرعى الغنم في السهول والبراري وذلك على عكس اللحوم التي تُنتج من مزارع البقر الكبيرة والتي تتسبب بآثار سلبية على البيئة والمناخ.
الطعام الموسمي.. و"دورة الطبيعة"
طعام البر
كما أن لموسم الزيتون هيبته، فإن أجدادنا كانوا يقدّرون المواسم كُلها في عصر "ما قبل السوبر ماركت"، فتبدأ السنة بموسم الزيتون ثم موسم الحمضيات والبرتقال ثم موسم البقول من خبيزة ولوف و"فقع" أو "فطاريش" وعكوب.. ثم موسم اللوز، وموسم المشمش، وموسم البطيخ، ثم موسم التين ثم موسم العنب ثم موسم الرمان، وهذا كُله كان يجعل غذاءهم مرتبطًا بالطبيعة وأكثر تناغمًا معها وبالتالي أكثر استدامة.
مثلًا، إذا أخذنا طبق المقلوبة الذي يشتهر في فلسطين، نجد من يفرّق بين مقلوبة الشتاء ومقلوبة الصيف، فمقلوبة الشتاء اعتمدت على الزهرة بشكل أساسي ومقلوبة الصيف اعتمدت على الباذنجان.
أما في مجال المحاشي، فنجد أن ما تألَّق منها في الشتاء هو محشي اللفت الذي يزرع في بداية الخريف ليؤكل في الشتاء البارد محشيًا في بعض المناطق مثل منطقة الخليل وبيت لحم ويحضّر بواسطة اللبن الجميد أو بالتمر الهندي ويجعل طعمه مميزًا بالطريقتين.
وهناك مناطق في فلسطين تحضّر محشي الجزر ومحشي الملفوف وهي من الخضار الجذرية التي تمنح الجسم شيئًا من دفء الأرض كما يعتقد.
أما المعجنات والفطائر، فإذا ما ذُكر الشتاء لا بُد وأن تذكر معجنات "الزعتر" الذي تشتهر وتتميز به أرض فلسطين، لا سيما أنها "أرض الزعتر والزيتون" و"قراص الزعتر" هي مناسبة شتوية سعيدة تجتمع فيها العائلة الفلسطينية، و"المطبّق" و"المسفّن" هي كذلك من المعجنات التي تجتمع عليها العائلات.
طعام البحر
وإذا كان الزعتر والزيّتون ميّزا سُكان الجبل، فإن طعام أهل الساحل اعتمد على الأسماك والبحر بدرجة كبيرة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن خبراء الصحة ينصحون اليوم بتناول وجبات الأسماك في الشتاء وذلك لانخفاض مستويات فيتامين د في الجسم بسبب عدم التعرض الجسم لأشعة الشمس بشكل كاف؛ وهو ما يُمكن لتناول وجبات الأسماك أن تعوّضه باعتبارها من أكثر الأطعمة التي تحتوي على هذا الفيتامين.
والشتاء هو أفضل المواسم من حيث الصيد، ففي حديث مع سامي علي، المتحدث باسم منظمة الصيد البحري في جسر الزرقاء يقول إن المياه حين تبرد في شهر أكتوبر (تشرين أول)، وتنخفض درجة حرارتها تكثر الأسماك حتى شهر مارس (آذار) كونها تخرج للشاطئ أكثر وتبحث عن مياه وبيئة مناسبة، بينما في الصيف وكون المياه ساخنة بالقرب من الشاطئ تبدأ الاسماك تنتقل لمناطق باردة وللعمق.
ويضيف علي أنه وبالرغم من وجود انحسار في المحصول السمكي في كانون أول "المربعانية"، إلا أن الصيادين يحظون بصيد كميات كبيرة من السمك بعد كل "نوة"، أي بعد المنخفضات الجوية والأمواج العاتية وتحديدًا بعدها بيومين أو ثلاث.
بحسب ما يرد في الرُزنامة الزراعيّة التي تصدرها وزارة الزراعة الفلسطينية فإن شهر أكتوبر هو موعد صيد سمك الطرخون والموسم الثاني لصيد سمك السردين، أما شهر تشرين الثاني فهو موعد حصاد سمك البلطي وموسم صيد كلب البحر واللوقس والكنعن (الكنعد) والغزلان.
وفي ديسمبر "كانون الأول" يكون موسم صيد أسماك الكنعن (الكنعد) وفيه يبدأ تفريخ أسماك الدنيس، أما في يناير "كانون الثاني" فهو موعد ظهور زريعة اسماك البوري على الشاطئ.
مع انتهاء المربعانية والدخول في "السعودات" في شهر شباط يبدأ موسم صيد سمك العصفور الأزرق وفيه كذلك يكون تفريخ سمك القاروص ثم من آذار حتى آخر نيسان يحل موسم صيد سمك الوطواط.
ويؤكد سامي علي بأن التغيرات المناخية الحاصلة في العقود الأخيرة، والعوامل الملوثة والأسماك الغازية تؤثر على أنواع الأسماك الشعبية الرائجة في شواطئ فلسطين.
كما أوضح بأن محصول الصيد يتأثر بحالة الطقس والعواصف والرياح الشرقية وأبرز "أسماك الشتاء" التي تظهر في فترة "المربعانية" حيث يقل المحصول بشكل نسبي هي القاروص، بوري شيلان، التونا الحمراء، البلميدا، الغزلان، اللبراك، المسقار والحداد وقليل من المليطا، ثم ينضم الصرغوص في شباط لتظهر أصناف المرمور (الحنبل) والذهبان والبوري في آذار أما اللقز "الهامور" فيظهر بأنواعه الاربعة الدارجة، فريده والانتياس.
ويضيف بأن أشهر وجبات السمك "الشتوية هي الصياديّة (الحاريمه) والتي تعتمد على سمك الغزلان واللقز في تحضيرها وكذلك المدفونة التي يُدفن فيها السمك مع الرز بأسفل الطنجرة، إضافة إلى ذلك تكثر وجبات الأسماك المدخنة والمجففة وهي الأسماك التي تحفظ لفترات طويلة، وتعد من أبرز أطعمة "المونة" عند أهل البحر. سر المونة و"الكوارث الطبيعية"
بالرغم من أهمية المواسم والطعام الموسمي، إلا أنها غالبًا ما ترتبط بموجات صقيع أو هجمة جراد أو جفاف يُمكن أن تفسد ما زرع أجدادنا، بالأخص وأن أكثر زراعتهم كانت تعتمد على مياه الأمطار (الزراعة البعلية) وبالتالي فإنه لم يكن هناك بد من البحث عن وسائل لحفظ ما لديهم من طعام لأطول فترة ممكن، تضمن استمراريتها وعدم موتهم جوعًا، فمن السجلات التاريخية، تحديدًا من الفترة المملوكية "الثانية" والتي تمتد من عام 1385 إلى عام 1511م، سُجلت بحسب الباحث فوزي الطواهية في بلاد الشام 28 موجة جفاف أدت إلى إتلاف محاصيل كثيرة أهمها الحبوب و 29 موجة صقيع أدت إلى إتلاف معظم الفاكهة والمحاصيل الزراعية، هذا غير السيول والفيضانات التي كانت تجرف التربة وتدمر المنشآت المائية الضرورية للزراعة.
ولا شك في أن هذه الكوارث الطبيعية كانت سببًا في تطور "طعام المونة" الذي حفظ لنا فاكهة الصيف على شكل مُربيّات ودبس ومجففات، فصنعت كُل منطقة المربيّات بحسب فائض المحاصيل الذي لديها، فهناك مربى التين والصبر، كما هناك مربى المشمش ومربى العنب.
إلى جانب المربيات كان يُحضّر الدبس مثل "دبس الخروب" و"دبس الرمان" و"دبس التمر" و"دبس العنب" وحتى "دبس الزعرور"، وأما المجففات فهناك الزبيب والقطّين على رأس القائمة، والقُطّين (التين المُجفف) إذا ما غُمّس مع زيت الزيتون وطحين الذرة يُعين على برد "المربعانية" القارس ويسمى هذا الطبق "البسِيسِة" وبعض البلاد يُضيفون إليها دبس الخروب!
أما خضار الصيف فقد حُفظت غالبًا بالتجفيف والتخليل، فنجد البامية المجففة والملوخية المجففة التي تحضّر منها وجبة البصارة "الشتوية" ومنها ما حُضّرت منه المخللات ولعل أبرزها مخلل الزيتون والباذنجان المعروف بمخلل المكدوس.
أما أعجب المخللات التي تكشف مدى إصرار أجدادنا على استغلال كل شيء، فهو مخلل قشر البطيخ. في حين تجلّت فنون المخللات في تخليل حصرم العنب واللوز والكرز الأخضر وغير ذلك من فاكهة يندر توافرها في الشتاء، وتحفظ تخليلًا طيلة العام.
وبما أن هناك اختلاف لا ينتهي حول البندورة، إن كانت من الفاكهة أو الخضار فإن أجدادنا يحضّرون في آخر موسم البندورة رُب بندورة الذي يعد من أفضل منتجات المونة وأكثرها طلبًا مع أنها ليست رخيصة الثمن، إلى جانب "دقّة الزعتر" و"المكدوس" فهي من أكثر منتجات المونة انتشارًا حتى اليوم.
أما بالنسبة للحليب، فقد كان أجدادنا يُخزنونه كشكًا أو على شكل جبنة أو "لبنة مدحبرة" تحفظ في الزيت، فموسم الحليب كما تقول الباحثة نادية البطمة يبدأ في الريف والبادية الفلسطينية في أوائل الربيع، مع مطلع شهر آذار بعد أن تكون الصغار قد فطمت وبدأت الأرض تجود بعشب الربيع المشبع، والسبب في ذلك كما تقول الباحثة البطمة بأن "أصحاب الأغنام يقدرون أهمية رضاع صغار الحيوانات من أمهاتها حتى يكتمل نموها. وكانوا يطلقون على الصغير الذي لم يشبع من حليب أمه أوصاف وأسماء خاصة توحي بالضعف فيسمونه " قرقور" ويصفونه بأنه "مكرعش" و"مقذوع" و"مكعوش"."
فاكهة الشتاء و"الحلويات الطبيعية"
العسل يشبه الحليب، من حيث "نقصه" في الشتاء، فالنحل يكون في مرحلة سبات شتوي وينبغي أن يترك للنحل مخزونًا من العسل كي يستطيع مقاومة البرد، وبالتالي فإن معظم العسل للاستهلاك البشري مُخزّنا في "المونة" من فترة الصيف والربيع، وقديمًا قيل في "عسل الشتاء" بأنه رديء أما أجوده فهو الربيعي والصيفي. وأهمية العسل في الشتاء، يعود إلى أنه غني بمضادات الأكسدة وبالتالي قدرته على تقوية الجهاز المناعي.
كما أن زيادة استهلاك العسل، يعني المزيد من الاهتمام بهذا الكائن الذي بات عرضة لمخاطر المبيدات الحشرية والتغييرات المناخية.
ومن الحلوى المنتشرة في فصل الشتاء، "طبق البربارة" التي غالبًا ما ترتبط بعيد البربارة في شهر كانون الأول، وهي مشابهة إلى حد كبير بسليقة القمح وحلوى السنونية، وما يميز هذه الحلوى أنها تعتمد بشكل كبير على مكونات طبيعية وهي القمح والفاكهة المجففة.
أما السحلب، والذي لا يُمكن أن يُذكر الشتاء والدفء في فلسطين دُون أن يذكر، فهو كذلك من المشروبات الساخنة المفضلة في فصل الشتاء والليالي الباردة، وهناك العديد من الوصفات "الصحية" لهذا المشروب دون سكر، بل يُمكن تحضيره بالاعتماد على العسل الطبيعي.
وعمومًا فإن أكثر الحلويات الشتوية، تعتمد على السكر بشكل كبير وكميات لا يمكن أن ينصح بها خبراء التغذية، الذين ينصحون بعدم الإكثار من السكريّات التي تمنح شعورًا مؤقتًا بالدفء ولتجنب أعراض السكري غالبًا ما يُنصح بالشعيرية المصنوعة من الحبوب الكاملة، للحصول على ألياف غذائية أكثر، وتقليل كمية الكربوهيدرات المتناولة.
وبما أن الفاكهة، تتألق في الصيف، فإن أجدادنا لم يجدوا شيئًا بوصفه "فاكهة الشتاء" إلا النار، فالمثل يقول "النار فاكهة الشتاء" ومعها يُقال "الدفا عفا" وفي حضرة النار، غالبًا ما يستمتع في الشتاء بالكستناء والبطاطا الحلوة بعد شويها، وللكستناء مسميات كثيرة مثل الشَّاهِبَلُّوط ولكن هناك تسميات تذكرنا بالشتاء مثل "أبو فروة" ويُمكن اعتبارها بحسب "تحلاية" صحيّة نسبيًا ومُستدامة فهي بحسب أخصائية التغذية عرين شبلي تتميّز باحتوائها على ڤيتامينات B التي تعمل على تحسّين المزاج والتخفيف من أعراض كآبة الشتاء التي تكون بسبب قلة ساعات الضوء.
وفوق "نار الشتاء" تشوى كذلك "البطاطا الحلوة" وهي على بساطتها و"حلاوتها" لها فوائد صحيّة كثيرة لاحتوائها على مادة البيتا كاروتين وهو من مضادات الأكسدة القوية ولها فوائد جمّة على المناعة في فصل الشتاء، وفوق ذلك يمكن اعتبارها "قُنبلة فيتامينات ومعادن" بحسب "شبلي" وذلك لاحتوائها على البوتاسيوم (حتى أكثر من الموز)، والكالسيوم, والمغنيسيوم، والحديد، والفوسفور، والصوديوم، و B6 المُفيد جدًا للدماغ، وفيتامين C، وكولين Choline الذي يساهم في تحسين المزاج وحمض الفوليك صاحب دور مهم بإصلاح الــ DNA .
ختامًا، إن العودة ولو جزئيًا لأنماط غذائية منسجمة مع الطبيعة والبيئة المحلية لا تعود علينا بفوائد صحيّة فقط، ولكنها تساهم في عمارة بلادنا وتحسين الكثير من النواحي البيئية كما أوضحت ذلك بإسهاب في مقالة سابقة بعنوان "من الفريكة والزعتر.. إلى البوظة والعسل - كيف نعمّر بلادنا بدعم المنتجات الشعبية؟".