بقلم: د. رأفت حمدونة
السبت 15 مارس 2008 ، تاريخ لا ولم ولن ينسى من الذاكرة، أربعة عشر عاما مضت لم تنسينا حسن ، الحسن فى أخلاقه، والأحسن فى عطاءه، والتميز فى ابداعه، وعلاقاته وترك أجمل الذكريات فى حياته، بل ومع كل ذكرى نشعر كم نحن بحاجة لمثله في أيام لربما قلت من واقعنا أنفاس أمثاله من سيرة الشهداء العطرة، ونمط حياتهم، ومستوى تفكيرهم، ومبدأ التطوع لديهم في قضايا مصيرية بحجم الأسرى والمسرى والوطن بكامله، وجوهر حساباتهم الدنيوية والدينية.
أربعة عشر عاما مضت على رحيل نصير الأسرى، ومبرمج موقع مركز الأسرى للدراسات الشهيد حسن شقورة، تلك الذكرى التى تجدد لدينا الانتماء لمساندة ودعم الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية، الشهيد حسن الذى وهب علمه وقدرته ومكانته وكفائته ووقته ليبرمج موقعاً خاصاً قد يكون الأهم فى قضية الأسرى مزوداً الصحفيين والحقوقيين والمنظمات الإنسانية ووسائل الإعلام المشاهدة والمقروءة والمسموعة والخبراء والمعنيين والباحثين والأكاديميين بالأخبار والتقارير عن الأسرى والأسيرات وذويهم.
وعام بعد عاما يزيد الشوق لذكراه، وعطاءه، وابداعه، وانسانيته، وأخلاقه، وتتعزز في أعماقنا مع ذكراه سيرة الطاهرين والمضحين والمنتمين والمخلصين لفلسطين وقضاياه الوطنية والأخلاقية والسياسية والدينية.
وهنا أذكر فى الأيام الأولى بعد تحررى بعد خمسة عشر عاماً من الاعتقال تحديداً في العام 2005 ، التقيت "بالشهيد حسن شقورة " المصمم والمبرمج والمبدع ، وكنا نفكر معا وسوياً بأشكال مساندة الأسرى، وكيفية البقاء على عهدهم كأصدقاء وأخوة وزملاء، وكانت النتيجة انشاء موقع مركز الأسرى للدراسات لتدويل ملفهم، والتعريف بقضاياهم وذلك ضمن القناعة والرؤية لدى الشهيد حسن بعدم اختزال قضية الأسرى بذوى الشأن المحسومين بتعاطفهم مع الأسرى من الفلسطينيين، والانتقال للضغط على الاحتلال من خلال الأحرار والشرفاء، وذلك بتدويل قضية الأسرى اعلامياً، ومواجهة الصورة السلبية النمطية التى تسوقها اسرائيل "باطلة" بتصويرهم عصابات ارهابية ومجموعات من القتلة والمخربين، والعمل على ابراز قضية الأسرى بشكل مختلف وغير تقليدى، حيث أن العادة جرت فى التعاطى مع قضيتهم بالكثير من البكائيات وإبراز جانب الانتهاكات والعذابات التى تحولت فى ذهن المتابع والمتضامن الفلسطينى والعربى والدولى إلى شىء مألوف وغير جذاب وغير منصف فى آن واحد، تلك الصورة النمطية التى غيَّبت مئات الإضاءات والإشراقات والإبداعات والانتصارات التى تألقوا بها.
وحينما بدأ " حسن " ببرمجة وتصميم الموقع " الأسرى للدراسات " للقيام بالمهمتين، عمل من بيته مجاناً، ومن على جهازه الخاص بعد عودته من عمله، لم يثنه التعب طوال النهار من التواصل وكنا نجلس الساعات طوال الليل، كان يبهرنى تمكنه للتكنلوجيا في وقت عز فيه التخصص، وكان دائم السؤال خلال العمل عن الأسرى والأسيرات، وكأنه يشحذ الهمة ومع كل معاناة يسمعها عن الأسر وحياة المعتقلين كانت تظهر على الموقع بصمات ابداعه " ويواصل السؤال ويتعمق أكثر، كم عدد الأسرى ؟ كم عدد السجون ؟ كيف يحقق الأسرى انجازاتهم ؟ ما هي مؤسساتهم وطرق نضالهم ؟ ما معنى إضراب مفتوح عن الطعام ؟ وإدارى، وعزل انفرادى، وقمع، كيف يأكلون ؟ كيف يقضون الساعات والأيام والسنين؟ ما هى أدوات الصبر لديهم ؟ ما هى أقسى انتهاكات دولة الاحتلال بحقهم، وكلما عرف أكثر أبدع أكثر وأصر على العمل وتواصل ليساند الأسرى بطريقته أكثر.
" حسن " من خلال رسالة الموقع وبآلاف المقالات والتقارير والأخبار المحدثة على مدار الساعة - والذي بقى صدقة جارية على روحه الطاهرة - استطاع أن يوصل الرسالتين والهدفين، فبيَّن من خلال الموقع صراع العقول بين الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة وإدارة مصلحة السجون الاسرائيلية على مستوى إدارة الوقت وبناء الذات فى شتى المجالات، بالتفكير والتخطيط ووضع البدائل والوسائل والأهداف وتحقيق الحقوق، وسيفسر الباحث العلاقة الجدلية بين السياسات والمخططات الصهيوينة التى استخدمها السجان لتحقيق مآربه المتمثلة بتقويض الروح النضالية والثقافية والوطنية لدى المعتقلين، وبين ابداعات الأسرى التى تسلحت بالإرادة الصلبة، والعزيمة المستندة إلى الوعى، والقدرة الفائقة فى ترسيخ أسس المواجهة النضالية الإستراتيجية والتكتيكية، السلمية والعنيفة الواعية.
وأوضح "حسن" أن الأسرى أبدعوا بصبرهم على سنوات الاعتقال، وتكيفهم لأكثر من اربعين عاماً على أذى السجان، والعراقيل والعقبات الذى وضعها لتحطيم معنوياتهم وللحيلولة دون تطوير امكانياتهم وقدراتهم، وأبدعوا في إيجاد المؤسسات الديمقراطية للتنظيمات الفلسطينية في السجون، وبين السجون، وفي السجن الواحد، وفي التنظيم الواحد، وأبدعوا في تجربة الإضرابات المفتوحة عن الطعام والتي وصلت لمئات الأيام، وأبدعوا حينما أوجدوا معادلة توازن بينهم وبين إدارة مصلحة السجون، رغم الإمكانيات الأخيرة مقابل افتقار الأولي من الإمكانيات المادية، وأبدعوا في أشكال التواصل والاتصال بين السجون وخارجها، وفي تجارب التعليم وحصولهم على الدراسات العليا من جامعاتٍ إسرائيلية وعربية ودولية ، وأبدعوا في البناء الثقافي، والتأثير السياسي.
كما أن "حسن" من خلال رسالة الموقع قدم تفسيراً حول إنجازات الأسرى التي أثرت ايجاباً على مجمل حياة الحركة الأسيرة الفلسطينية، بل على مجمل الحياة النضالية الفلسطينية تأثرًا بتجاربهم، لأن السجون والمعتقلات كانت ولا زالت مدرسةً وطنيةً وتربويةً ودائرة من دوائر العمل النضالي الإبداعي فصاغت وبلورت طلائع الأسرى والمعتقلين، اللذين كان لهم عظيم التأثير في بلورة الوعي النضالي والديمقراطي في المجتمع الفلسطيني، وكان لآلافٍ الأسرى المحررين دورهم في هذا الاتجاه، بعد أن تخرجوا من أكاديمية السجون وتصدروا المواقع والمراكز المتنوعة، وتبوؤوا مواقع سياسية وأماكن مهمة في المؤسسات المجتمعية المختلفة ولعبوا ولا زالوا دوراً مؤثراً في الحياة السياسية، والفكرية، والاجتماعية، والإعلامية، كقادة سياسيين وعسكريين، ووزراء ونواب وأمناء عامون وأعضاء مكاتب سياسية لفصائل وحركات ثورية، وأعضاء فى المجلسين " الوطنى والتشريعى"، ومدراء لمؤسسات رسمية وأهلية، وخبراء ومفكرين، ونخب أكاديمية وإدارية.
كما أدرك "حسن" من خلال كثرة السؤال والمعرفة أن الواجب الملقى على عاتق كل متنفذ وقادر وكل انسان باتجاه هذه الشريحة كبير ، هذه الشريحة التى ضحت ليسعد الآخرين ، وباعت زهرة شبابها فى سبيل الله ونصرة وطنها وشعبها ومقدساتها، وكان يعتقد بأنه يعمل وبلا مقابل يذكر ليرد الجميل لهم ويقول هم يستحقون أكثر ، وأعترف أن ما قدمه حسن للأسرى بانجاز موقع مركز الأسرى للدراسات المتخصص فى قضية الأسرى فاق المؤسسات الضخمة ذات الميزانيات اللامحدودة وبعشرات الموظفين، وأن لحسن في رقاب محبي الأسرى دين لن يجازيه بحجمه إلا الله عز وجل.
فلك منا يا "حسن " في ذكرى استشهادك الرابعة عشر كل التحية، وعلى روحك الطاهرة كل السلام ، وفى ذكرى رحيلك يا " حسن " نعترف كأسرى، وأسرى محررين، وعائلات أسرى ومتضامنين معهم بفضلك، ونعترف بحبنا لك وتقصيرنا فى حقك، فأنت كنت وستبقى النجمة على جبيننا والتاج فوق رؤوسنا ولن ننساك وفضلك ما حيينا.