بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لم ننس بعدُ الشهيد الأستاذ يعقوب موسى أبو القيعان، المدرس المربي الذي استشهد في 18 يناير من العام 2017، خلال أحداث بلدة أم الحيران السبعاوية، التي انتفض أهلها وثاروا ضد الممارسات العسكرية الإسرائيلية، وخرجوا يدافعون عنها ويقفون في وجه الجرافات والآليات العسكرية، يمنعون تقدمها، ويعطلون مهمتها، ويصدون عناصر الجيش والشرطة الذين اجتمعوا لتنفيذ أوامر الهدم والجرف، إلا أنهم أطلقوا النار على جموع المحتشدين، وتعمدوا إصابتهم وقتل بعضهم، ومضوا قدماً في هدم البيوت وتجريف التجمعات السكنية، ولم يوقفهم عن جريمتهم استشهاد يعقوب أبو القيعان برصاصهم الغادر، وتجريف بيته وحجز جثمانه.
ظن الإسرائيليون أن دم يعقوب أبو القيعان، الذي كان يدافع عن أرضه، ويذود عن وطنه، ويضحي في سبيل بيته وأهله، سينسى وسيهمل، وأن أهله سيسكتون على جريمة قتله، وسيسلمون بالأمر الواقع، وسيقبلون بنتيجة التحقيق ومبررات الشرطة، وسيقبلون اعتذار نتنياهو وأسفه، ولن تثأر له عشيرتُهُ، ولن ينتقم له ربعُهُ، وسينشغلون وأهله بالدفاع عن سمعة ابنهم الذي اتهمته سلطات الاحتلال بأنه داعشي، وأنه حاول دهس أحد عناصر الشرطة، وأنه داهم المكان بسيارته، ولولا أنهم أطلقوا عليه النار لدهسهم وقتلهم، ولكن أهل قريته الذين شهدوا الجريمة أكدوا أن عناصر الشرطة الإسرائيلية أطلقت عليه النار عمداً وقتلته بدمٍ باردٍ قصداً.
مضت خمس سنوات على استشهاد يعقوب موسى أبو القيعان، كان خلالها قريبه وابن بلدة حورة محمد غالب أبو القيعان في سجون العدو وزنازينه، يعتصر ألماً ويبكي دماً وتنتفخ أوداجه غضباً، أنه بعيدٌ عن بلدته التي تجرف، وعن بيوتها التي تهدم، وعن أهلها الذين يقاومون ويتصدون بصدورهم العارية لجرافات العدو وآلياته الثقيلة، ولكن اعتقاله لم يمنعه من أن يختزن غضبه، ويراكم في صدره ثورةً، ويعقد العزم على أن يثأر لأهله وينتقم لدم الشهيد الذي سُفحَ بدمٍ باردٍ طاهرٍ روى أرض بلدته الأبية "أم الحيران".
قضى محمد أبو القيعان أيامه الثقيلة في السجن يعدها عداً، ويحسب ساعاتها ويترقب انتهاءها، وقد بَيّتَ النية وعقد العزم، وأبرم مع الله عز وجل عهداً لن يخلفه، ولن يتأخر عن الوفاء به مهما كانت الظروف، حتى جاء اليوم الموعود فما تردد، وأقدم على تنفيذ ما خطط، وصال على الأرض وجال كهزبرٍ يتلمظ، وأسدٍ هصورٍ يترقب، وليثٍ همامٍ يتبختر، فنال من العدو ما تمنى، وقتل منه وأصاب، وأرسل له رسائل وثبت على الأرض وقائع، وأربكه بعمليته وحيره، وتركه في دمائه يتخبط، وقد قاتل بشرفٍ وثبت بشجاعةٍ، وكانت عيونه على بلدته أم الحيران ترنو، وقلبه باسم قريبه يعقوب ينبض، يخاطبه ويناجيه، ويناديه من الأرض التي منها إليه سيرفع شهيداً، بشراك يا يعقوبُ فقد نلتُ من قاتليك، وأذقتهم كأس المنون مراً، وجرعتهم القتل زعافاً، فنم قرير العين شهيداً.
إنها النقب الثائرة، وبئر السبع الرائدة، لن يهنأ فيها العدو ولن يطمئن، ولن يستكين أهلها ولن يذلوا، ولن يخضعوا لعدوهم ولن يستسلموا، وسيبقى أهلها الصِيِدُ الأباةُ الكماةُ الأماجدُ شوكةً في حلقه تؤلمهم، وصخرةً صماء تتحطم عليها معاولهم، وتتبدد أمامها أحلامهم، وتنهار أمام صمود أهلها مشاريعهم وتفشل خططهم.
وها هي هباتهم تتوالى وانتفاضاتهم تتواصل، وصمودهم أمام عدوهم يشتد، واستبسالهم في مقاومته يتعاظم، ووعيهم في مواجهة مؤامراته يكبر، وثباتهم في التصدي لعدوانه يزداد، وهم في كل يومٍ يثبتون تمسكهم بأرضهم أكثر، ويصرون على الحفاظ عليها والبقاء فيهما مهما كلفهم الصمود من دمٍ وألمٍ، وقيدٍ وأسرٍ، لكن يوقنون أن الغد سيكون يوماً آخراً، على المحتلين عسيراً غير يسيرٍ، فما هو قادمٌ بإذن الله أشد وأقسى، وما تحمله الأيام عليهم أسوأ وأصعب، وأخزى وأنكى.
يا شهيداً قد غلبتهم وأنت غالبُ، وشفيت غليلنا منهم وأنت المقاوم، وسموت بروحك إلى العلياء وأنت محمدٌ العابدُ، فها أنت اليوم في جنان الخلد ترتقي وقد كنت لكتاب الله قارئاً، وفي جوف الليل لله قائماً، وفي النهار صائماً، فاختارك الله عز وجل من بين أهلك وجيرانك صفوةً، وانتقاك شهيداً، وقيضك للحق نصيراً، وقد عرفك في سجون العدو إخوانك بدوياً أصيلاً، فلسطينياً وطنياً، فارساً مقداماً، ورعاً صادقاً، طيب النفس حسن الخلق، دمثاً خلوقاً ودوداً لطيفاً، فطب نفساً يا شهيد، واهنأ في جنان الخلد رفيقاً للشهداء والأنبياء والصديقين، واخسأ أيها العدو وطأطئ الرأس ذلاً، وذُق الموتَ هواناً.