صمتّ طويلا ولم أبدِ الرأي في انتخابات بلدية بيت لحم بالرغم من الضغوط الكبيرة من هنا ومن هناك لإبراز الرأي والحديث عما آلت اليه الأمور وما شهدته المدينة المقدسة بحجارها وأهلها، ولكنني حافظت وسأحافظ دائما على تلك المسافة الواحدة التي تحكم علاقة الأب بأبنائه بالرغم من اختلاف توجهاتهم وطرقهم. وحافظت أيضا على نزاهة الرأي وصدقه، وعدم الانجرار في الاستجابة لبعض الدعوات التي افتقد بعضها للمصداقية حيث كانت كلمات حق يراد بها باطل.
ولكن، اليوم وبعد وضوح الرؤية وانجلاء الغمّة، والاتفاق الذي طالعتنا به وسائل الإعلام والتواصل، فلم يعد بالإمكان الصمت، ولا بد من كلمة اضعها في خانة المحبة والعتاب، فكما يقال "العتب على قدر المحبة"، ولبيت لحم التي عشت فيها أكثر من ثلاثين عاما، بكل ما حملته من صعاب داخلية وخارجية، وتحديات فرضها الواقع عليها حيث كان اخرها جائحة كورونا، ولأهل بيت لحم الذين خاضوا تلك التجارب بحلوها ومرها، ثابتين صابرين املين وحالمين بواقع ومستقبل أفضل، ولمرشحي الانتخابات الفائزين وغير الفائزين، الذين وظفوا كل ما يملكون لتحقيق الفوز، وهذا حقهم الطبيعي. للمدينة وأهلها ومرشحيها كلمة محبة وعتاب، "فالفرس من الفارس" والانتخابات ما هي الا تعبير الشعب عن رأيه واختياره وقراره، وهذا الرأي يعكس الثقافة والإيمان والطموح والواقع، وينبئ بالمستقبل.
كلكم اجمعتم بأن "بيت لحم أكبر من الجميع" هذا الشعار الرنان والقول الجميل الذي يلهب العواطف ويأسر الفؤاد، ولكن ويا للأسف، أثبت الواقع بأنه شعار يندرج تحت بند الشعارات الجوفاء التي تتحطم عند أول تحدي، لا بل مع الأسف، لم يكن سوى كلمة حق أريد بها الباطل الذي رأيناه وعشناه. فمن ذا الساذج الذي يصدق بأن تشكيل أحد عشر قائمة انتخابية يهدف لخدمة بيت لحم، او يعتبرها أكبر من الجميع؟! قلة قليلة تلك التي حملت بصدق هذه الأمانة، ولكن السواد الأعظم لم تكن في اعتباره بيت لحم، بل مصالح ضيقة ونزعات ونزاعات، ليس لها هدف سوى التخريب على الاخرين، ولن يكون غريبا في ظل كل ذلك، ان يرتهن المرء لأجندات خارجية، أو لأشخاص غريبين، ومع ذلك نقول بأن ذلك ليس عيبا، إنه حقك ان ترهن نفسك لكائن من كان، فهذه نفسك وأنت حر بها. ولكن ليس من حقك ان ترهن أو حتى ان تعد برهن مدينتك وشعبها. فهذه بيت لحم، بيت لحم التي شاء لها الله تعالى أن تحمل تلك الرسالة التي وحدت العالم خلف المحبة والتضحية والوحدة والسلام، تلك الرسالة التي بدء بها عهد جديد حمل معه دعوة لم يشهدها العالم القديم من قبل، بيت لحم محط انظار العالم ومهوى أفئدتهم ومهجة قلوبهم، بيت لحم التي لم تهن في أي يوم من الأيام على أي إنسان من جميع أنحاء الأرض، بيت لحم التي لم تبخل يوما على أهلها وشعبها بكل ما هو خير لهم، بيت لحم التي ليست كسائر المدن باعتراف وإقرار كل من فيها ومن زارها ومن يحلم بزيارتها، كل من هو في قلبها وفي جوارها،وما ذلك السيل من الاستنكار والتعجب والاستهجان الذي وصلنا من الداخل والخارج ومن كل انحاء العالم لخير دليل على مكانتها ورونقها الخاص. قضيت في بيت لحمقرابة ثلاثين عاماً، شهدتُ فيها أحداثا جليلة وأخرى أليمة، وعرفت فيها رجالاً ونساءً تركوا خلفهم بصمات لا تُمحى وكانت لهم مكانتهم وسمعتهم. وسمعت عن رجال ونساء لا يزال البيتلحمي يشيد بهم إلى يومنا هذا، فأين نحن من هؤلاء؟ رجالٌ كانت كلمتهم صادقة لا رجعة عنها وقرارهم بيدهم لا بيد آخرين. فالحقيقة، إنّ في بيت لحم رجال ونساء هم أهلٌ لها وأحقّ بالمناصب وذلك لأنّهم لا يطلبونها لأنفسهم، بل يطلبونها لأنّهم أهلٌ لها؛ أناس يعرفون أنّ المنصب خدمة، ويدركون جيداً أن المنصب تكليف لا تشريف. ولأنّهم يدركون كلّ ذلك، وفوق كل ذلك، يدركون أن "بيت لحم أكبر من الجميع"، فقد نأى أولئك بأنفسهم عن التناحر والتصارع والتنافس مع غيرهم ممن لا يرى غير التشريف لا التكليف والمنصب لا الخدمة.من المخجل والمخزي أن نرى شباب بيت لحم الذين قادوا حركة المقاومة في الانتفاضة الأولى، وبذلوا الغالي والنفيس في الانتفاضة الثانية، يختفون ويرحلون ويفقدون الأمل بسبب هذا الواقع الأليم، وفي بحر هذا الصراع، ضاعت بيت لحم وهبطت من مكانتها فوق الجميع إلى مكانة دنيا يستغلها الجميع لتحقيق مطامعهم.
فهل هذه بيت لحم التي نريد؟! أبهذا نرد الجميل لهذه المدينة الجميلة بين الأمم، التي منحت الفادي للعالم، أميرا للسلام وملكا للقلوب؟! المدينة التي حمت ابناءها في أحلك الظروف بكنيستها التي لم تفرّق بين أبنائها وحمتهم وذادت عنهم ووضعت نفسها في خدمتهم؟! هل هذه هي الحقيقة المؤلمة أم هي غمامة صيف عابرة؟ أما الإجابة على هذا السؤال الأخير فهي لا تأتي من الخارج، بل من صميم قلوبكم يا بيت لحم وأهلها الكرام وخصوصا منتخَبيها المحترمين الذين يقع على كاهلهم إزاحة هذه الغمامة التي نتمنى ان تكون فعلا غمامة عابرة. أما باقي الأسئلة، فهي متروكة لكل بيتلحمي ليفكر ويحلل ويستنتج ويقرر.
هنالك بذرة خير في كل شر يقع، وقد عشنا شرا كبيرا، لنحوله الى خير، لنتعظ من هذه التجربة الأليمة، لنفسح المجال لبعضنا البعض في الخدمة. لنجعل من التقاسم والشراكة وسيلة نجاح نضعها في خدمة بيت لحم وأهلها. وإن كانت التجربة لأربع سنوات، فلتكن لسنتين، طالما على هذا توافقتم. ولكننا استخلصنا العبر الكبيرة من هذه التجربة، فلن نبارك ولن نهنئ، بل سنشكر الله أولا على سلامة العبور من هذه التجربة القاسية بكل ما حملته من خسائر، وسنراقب وأهلَ بيت لحم، الإنجازات على الأرض، سنراقب ونحاسب وندعم ونساند، لتكون كلمة مبروك وتهانينا هي الكلمة الأخيرة بعد نهاية الفترة وليست الأولى في بدايتها، لتكون فعلا كلمة صدق وليست نفاقا اجتماعيا، فحتى هذه اللحظة، جميعنا خاسرون. والخاسر الأكبر هي بيت لحم التي هي أكبر من الجميع.