هنا، في قوس قزح الإيقاع، يرقصُ الغزال على صهوةِ البركانِ، وتنصهرُ الدموعُ نثاراً من نَمَشٍ يتوهجُ في العتمةِ، وتخرجُ المآتمُ إلى احتفالِ السيلِ العميقِ، وهو يفترعُ الصمتَ والبور
وهنا تستعيدُ الطرقاتُ آلامَها وهي تخبُّ نحو الجُلجلةِ، لكنها تنتصرُ على الخَشبِ الظالمِ والأشواكِ، لتفتحَ دروباً للصغارِ الطالعينَ من حَبقِ الأكمامِ وصهيلِ القلعة إلى فُحولةِ النَّرجسِ الجبليّ
إننا، يا قدسُ، عاصفةُ العباءةِ القانيةِ ورايةُ الحنّاءِ على الميدانِ، ونقشٌ في حِكْمةِ خِطابِك الذي يحاصرهُ العدمُ المهزومُ
وأنتِ، يا يبوس، فرسُ المدائنِ الشقراء التي تمسكُ البرق، وتشيعهُ مواقدَ وقناديلَ، لنرى السلامَ شموعاً وزفّاتٍ وعرائشَ مائسةً بالدوالي والرقصاتِ، ونسمع الأغاني كما لم تحملْها الكلماتُ لأنها ستكونُ زهرةً زجاجيةً نرفعُها للعواصم إلى أنْ تُطاولَ النجومَ، وتصبحَ واحدةً بيضاءَ، لها أسماءُ الحَمامِ والنرجسِ والأحلام
وفي الحروفِ غيومٌ حمراءُ، تتناسخُ من أوردةٍ لم تتخثّرْ بعد! وفي اللحنِ السائلِ حُرقةٌ تَجْتَرِحُ البراعمَ من أسْدافِ القيدِ واللزوجةِ، لتشهدَ الآفاقُ البريّةُ غابةَ زعترٍ تتوالدُ من جديد
هنا جذرٌ تنهضُ على غُصونهِ الحكايةُ من أوّلها، حتى لا ننسى! وفي فضاءِ الصوت الرسوليِّ روايةٌ ستحملها الليالي إلى العاطفةِ واللحمِ الطريّ، حتى تظلَّ المداركُ حارسةً للأحلامِ والثوابتِ، ونعودَ كما كُنّاأيتها المدينة! تليقُ بك الأعراسُ، وثوبُ الأساطيرِ يفيضُ منكِ، كأنه سنابلُ الماءِ الحُرّ وحنّونُ الربيعِ المشتعلِ وعرباتُ النايِ في الوديان
وسلامٌ على مَنْ تمسّ أرواحَنا بقيثارتها الماس، وتأخذُنا إلى جبل الياسمين مذبوحين برمشِ الشرفةِ المصقول ووتر الكمنجةِ الطفل
تتماهى المدنُ، فيصبحُ الدرب معراجاً وردياً، ويصيرُ مقامُ الشيخِ تلّةَ التراتيل، وتمسي أجراسُ الزيتون قناديلَ الرمّان، وبابُ العودة مدخلَ الأغنيات، ودّوارُ الساحةِ أرجوحةَ المعلّقين على النّطْع.أما الطريق إلى الأسوار، فأراها آيةً سماويةً حطَّتْ برمشها الفضيَّ، فانشقَّتِ المساربُ نبضاً وأزهارَ ليمون
أسوار مدينتنا من ذهب القـُلوب، وهالةُ نجمها الساطع من عروق ثوبنا، سنربّي الغابات والأنهار، ونعشق النحل والسنابل، ونفيض بالحليب والنبض، وننقش على مداخلها جداريةَ الحياة، ونرفل بأزهارها، ونحكي للأيقونةِ الغضـّةِ ما ينبغي أن يكون وسيبقى ذهبي عارماً، فهو حرفتي الأحلى، ومغارتي التي تفضي إلى مسارب الكهوف تحت جلد الأرض، المُعَبّـأة بهذه الحجارة النارية، التي تفضّ الأرض بغضب براكينها، أو تشلعُ الروابي باهتزازات زلازلها كلما مات طيرٌ أو رضيعٌ، أو سكتَ المغنّي من قهر السجـّان، أو سطا العربيدُ على الزّغب أنا الماضي والآتي والكنزُ المجنونُ الذي لا يموت! أنا الذهب الباقي.. أنا القدس
أصعدُ إلى الجبال، فأرى المدينةَ سجادةَ ضوءٍ تُهادلُ النجومَ. كأنني أقفُ على جبلِ المقام، وأعمدةُ الرخام وشواهدُ الغابرين الأفذاذِ أرضي الراسخة. والمدينة، على رغم جنونِ الوثنيّ، ما فتئت حقلَ صنوبرٍ وشبابيكَ حبق وفي أيام الأرضِ، وشمسُ الدماءِ تشرقُ على البلادِ، يُطالعنا يوم الغناء طفلاً، له وجهُ العيدِ والذّهبِ، من خزانة الدنّيا وشجر حليبها المجيدِ، إلى أرضِ السماءِ ونافذتِنا إلى الأعالي
وفي الطريقِ إلى القدس بواباتٌ تُفضي إلى روح القبابِ مشرعةً بعناقِ النجيعِ والنشيدِ والقافيةِ العاشقةِ المزدانةِ بأسماءِ إيليا العالية أو أسماءِ البلدة المعلّقةِ على الأقواسِ ورداً منثوراً وملائكةً من براءةٍ وندى
وكأننا نرددُ مع هذا الغناءِ القاسي بحنينه، والذابحِ بقشعريرةِ الجراحِ والدمع اليابس، ما ينبغي تأكيده، بتفاؤلِ الشروقِ وعنادِ الموجِ، أننا عائدون غير منقوصينَ إلى الحُلمِ الواقعيِّ والترابِ المرنّقِ بالفجائعِ، الذي سنجعلهُ فردوساً لكلِّ الوجوهِ واللغاتِ، للبشرِ والطيرِ والرضيعِ ولزيتونةٍ لن يخلعوها عن مقعدها الوثير بفعلِ الشريانِ وقصيدتهِ الصعبةوضفائرُ الحقائبِ لفتى المدينة الرامي جدائلَهُ في الأزقةِ أصواتاً.. أنقى بمحبتِها وانتمائِها من عِفّةِ الشجرِ، ليظلَّ طفلُ الصنوبرِ وجوقةُ الكُحلِ السائلِ هالةً تدُفّ حولَ المعابد، إلى أن يكونَ يومُ الخلاصِ الأكيدِ للأسوار
وكأنَّ المسافةَ بين قلبي والمدينة كالمسافةِ بين الغيم والمطرِ، أو بين الأسوارِ والحاراتِ، أو بين النارنجِ والسُّكَّر. وقبلَ وصولي إلى هنا، قبل ستة آلاف عام، أوْدَعتني المدينةُ للمدينةِ دمعتها الزرقاءَ ووشاحَها المُدمّى وقُبْلَتَها الفراشةَ، لتكونَ رعشةً على جِيدِ السّور، أو أعرافَ حصانٍ ينضحُ بالعسل
ولفتى الجدائلِ مثلما لفتيانِ المصاطبِ الذين انتصروا بالجراحِ والأغاني وقبضانِ الريحِ، التي تُدَوَّمُ على الأبوابِ بعبقريةِ الشهداءِ مع وقْفِ التنفيذِ، وهم يَرُجّون القضبانَ أو السماواتِ أو القلوبَ
وللبيوتِ المعبَّأةِ بالهديلِ هذا السَّرُّ الأشهى المثخنُ بالضوءِ، الذي نُغَنَّيهِ إلى أن تغوصَ الخيولُ في العِنّابِ، وتبشَّرَ بالكَرز
ولكم، وأنتم تخبّون نحو النهر، أرجوحةُ الماءِ، وغَضَبُ اليمَام ِ وتفاحةُ الأطفالِ الكبارِ، ونورسُ الجبلِ وهو على ذُرى شجر الذّرى يرمي شقائق راهجةً بالنُعمان، فتفيضُ دفاتِرُهم وطفولتهُم المُهَجَّرةَ
ومن صاحب الصخرة الذي ظللّته الغيمة إلى العجيج في دغل الزعرور، خطواتُ المُرسلين الذين ترسَّمَهُمُ القتيل الشريف، فَوصَل إلى الأعالي حاملاً الأغصانَ وأكفانَ السرّيس، حتى تظلَّ السواحلُ ممتدةً تتجاوزُ هشاشة الحدودِ والوَهْمِ، وتؤكدُ وَحْدَةِ الكلام والحلم، وهي تثوبُ، على رغم العدميّةِ والتغريبِ، نحو أَلَقِ المجابهةِ ومقاومةِ البشاعةِ والمغايرةِ والاندثار
إنه حُلمنا الذي يتفتّحُ مثلَ نوّار الرّبيع، لينفجرَ برقوقُ الحقولِ زغاريدَ وصبايا وعَوْدةً إلى البلاد
يا بلادَنا الباهظةَ كالحرمان، يا لوحةَ الحسراتِ التي تتراءى بين الأصابعِ، فينشبُ في جدرانِنا الكابوس
يا مذبحةَ النبيّ الشاب الذي جزّوا رأسَه ورقصوا على دَمِه المُرَّ كتماثيلِ الثلج، يا خرابَ الجَنَّةِ، ويا دموعَ الرّبَّ، ويا قبورَ القمرِ، ويا نشيجَ شقيقاتِ الموج
يا بلادَنا التي هجستْ بها الممالكُ منذُ بابل إلى أنْ نسينا قهوتَنا في الشاطئ البعيد
متى سأخرجُ من قَداسةِ الحنينِ إلى ملحِ الصعاليكِ في الصحراء؟
ومتى سنغنّي لامرأةٍ تُذيبُ الشمسَ، أو ترتبكُ المرايا من انحسارِ الحرير عن حليبها؟ ومتى سنصعدُ إلى التلال، ونبكي من فَرْطِ القُرْبِ، ونضحكُ من عَبَثِ النسيان، ونمشي خلف امرأةٍ غامضةٍ إلى الكهفِ المسحور، ونصحو قبل السرجِ، ونعرفُ أنَّ وِسَادةَ السحابِ قد بالَغَت قليلاً في الغواية؟
لقد اقتحموا المدينة للمرّة الألف، كالعادة! ومرّوا ، في طريقهم ، من تحت شبابيك المسؤولين ، المبغوضين من شعبهم ، كالعادة! وقتلوا واعتقلوا واستباحوا كالعادة
وتعود الحياة واللغة نفسها كالعادة! ونلعن لا شيء كالعادة
.. وأشتاق إلى القدس كغير العادة