قال لي الأسير ناصر أبو سرور الذي يقضي 30 عاماً في سجون الاحتلال ويقبع في سجن هداريم حيث يتواجد الأسير كريم يونس بأن المرحومة أم كريم التي توفيت يوم 5/5/2022 لم تتأخر، الذي تأخر هو كريم، ظل يراوغ الحرية والموت أربعين عاماً فلم يهزمه الموت في السجن، ولكن الذي هزمه رحيل والدته وهي على بعد عدة شهور من الإفراج عنه بعد أن أعدت الأسطورة الفلسطينية روايتها التراجيدية عن ذلك اللقاء الذي تأجل.
ربما هذا الموت لهذه الأم يحرك نبض الحياة وعطش الأسئلة حول مصير البطل الفلسطيني عندما يصل إلى الفصل الأخير من الصراع الذي تقلص وتمحور ولم يهدأ.
ربما هذا الموت لهذه الأم العظيمة يحرك أقفال الأبواب الموصدة في تلك السجون والمعسكرات، وأكثر عندما يحرك الإرادة والكرامة والعقل والروح والمبدأ.
تأخر كريم يونس، أم كريم لم تتأخر، وصلت إلى كل المحافل والأروقة والمؤسسات الدولية، صوت الأم، صوت الوطن الجريح، صوت الأسير والشهيد والمقهور والمنكوب، وصل صوتها إلى كل الأقاصي في المدى، ولكن لم يصل ابنها الغائب إلى حضنها، صار الصوت هو الوداع في الصدى.
تأخر كريم يونس، أم كريم لم تتأخر، كانت في كل اعتصام ومسيرة وإضراب ومواجهة ومظاهرة، أربعون عاماً وهي تصرخ في العالمين أن السلام هو الحرية، وأن الأرض هي جسد ابنها وقميصه ومسدسه وأحلامه الثائرة، وأن دولة الاحتلال التي تحتجز آلاف الأسرى وضعت السلام المزعوم في قفص كبير وبين جدران وأسلاك ومعازل عنصرية، أنقذوا السلام من قبضة الفاشية.
تأخر كريم يونس، أم كريم لم تتأخر، وقفت أمام الزنازين ومحاكم الاحتلال العسكرية مدة 275 يوماً حين صدر الحكم على كريم بالإعدام وألبسوه البدلة الحمراء، أم كريم انتصرت على الموت، سقط حكم الإعدام وتهاوى حبل المشنقة.
ربما هذا الموت يحرك نفوسنا التي ماتت وتشوهت ليكون المعنى مكتملاً وواضحاً بين الحياة الحرة وجحيم الآخرة.
ربما هذا الموت كان ضرورياً ليضع حداً لأكذوبة السلام والشرعية الدولية، وليستنفر فينا ما تركناه ونسيناه من عتاد وعزة وذخيرة.
ربما هذا الموت كان ضرورياً، لنزور أمهاتنا المتوفيات اللواتي صبرن وصلين كثيراً وقطعن المسافات سنين طويلة إلى السجون، نعتذر لهن ونطلب المغفرة.
ربما هذا الموت كان ضرورياً لنصدق أن المحتلين قد جردونا من الآدمية والإنسانية، وأن السجون قبورنا الدائمة، وأحكام المؤبدات مشانقنا، نزعوا فلسطينيتنا وشرعية كفاحنا، ومن لم يمت مخنوقاً في السجن، مات برصاصة غادرة، هنا في هذا الشارع، قرب البيت، في الحقل، على هذا الحاجز، رصاصة في الرأس أو الخاصرة.
ربما هذا الموت فضيحتنا الكبيرة بعد أن تركنا آلاف الأسرى أولاد أم كريم يصنعون أمل الحياة وحدهم، بلحمهم ودمهم وجوعهم، منهم الصمود والملاحم والانتصارات ومنا الشعارات والقصائد والأغنية.
كريم يونس تأخر، تأخرنا، حرر الموت أم كريم، كان رحيماً ولكنه لم يرحمنا، أخذها إلى الملكوت الأعلى فوق أمواج المتوسط في بياض الوردة وزرقة السماء، لكنه أخذنا إلى الحسرة والوجع في دروب لا تقود إلا إلى المقبرة.
كريم يونس تأخر، تأخرنا، لم يتأخر الموت انتظر حتى انفجر، انفجر الملل والفراغ والحديد، انفجر العجز واليأس والحنين، انفجر الوقت وضوء الذاكرة.
كريم يونس تأخر، تأخرنا، ماذا دهانا؟ لماذا لم نصدق أم كريم؟ لماذا لم نصدق الأسطورة؟ السجون والقيود والتعذيب والمستوطنات والمذابح والجرائم الممنهجة، نكاشف الذات أمام أم كريم ونصعد بعكازتها من هذه الهاوية.
كريم يونس تأخر، تأخرنا، انسحب الموت وترك الروح تحلق في حياتها القادمة، هي قطعت الطريق إلى السجن بموت جميل وقليل، بهدوء أقوى من الطائرات والاغتيالات وقبل انبثاق الفراق تعود مرة ثانية.
تأخر كريم يونس، تأخرنا، ربما كان موت أم كريم هو نبوءة تقول للعالم! أنقذوا الأحياء، هزوا الأسلاك الشائكة، حرروا الأسرى من كل المقابر والأقبية.
تأخر كريم يونس، تأخرنا، ربما كان موت أم كريم هو الصدمة والمفاجأة، عودة الوعي إلى الحقيقة والواقع، العودة من الوهم إلى الوحدة والفأس والحجر والأرض، في فلسطين وحدها يصير الموت يداً تحرك عاصفة.
تأخر كريم يونس، تأخرنا، وكانت المرحومة أم كريم سيدة الفصول كلها، اختارت أيام عيد الفطر المبارك وقتاً للرحيل، واختارت أن تموت كالصرخة في انتفاضة القدس واللد وجنين، واختارت ذكرى النكبة كي تعود الروح من غربتها وطقوس الذكريات المدمنة.