بقلم: معتصم حمادة
عضو المكتب السياسي
للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
يوم بلغت الانتفاضة الأولى ذروتها؛ حاول رئيس أركان جيش الاحتلال (قائد الجيش اسحق رابين) اللجوء إلى أقسى أشكال العنف، بما في ذلك تكسير عظام الشبان، وتحطيمها بأعقاب البنادق والحجارة، وظنّ رابين أن هذا العمل الوحشي الذي صورته وتناقلته الفضائيات العالمية سوف يحدّ من زخم الانتفاضة، لكنه حصد عكس ذلك، أرغمه على الاعتراف أن لا حل عسكرياً للانتفاضة، وأن الحل يجب أن يكون سياسياً.
وبناءً على هذه النصيحة؛ أعادت كل من واشنطن وتل أبيب النظر في قرارهما المشترك مقاطعة م. ت. ف. وفي سياق مفهوم معين لهذه العلاقة، بدأت في تونس مباحثات بين وفد اللجنة التنفيذية للمنظمة وسفير الولايات المتحدة في تونس، أطلق عليها الغرب «محادثات إعادة تأهيل م. ت. ف.» وإعادة التأهيل بالمفهوم الغربي هي العمل على تشجيع م. ت. ف. بالضغط والإغراء، على إعادة صياغة بعض مواقفها التي ترى فيها الولايات المتحدة وكذلك إسرائيل، أن المنظمة قد باتت مؤهلة لتكون جزءاً من المعادلة الأميركية – الإسرائيلية للأطراف الفاعلة في الشرق الأوسط، وللدخول في تسوية سياسية تنهي الصراع العربي – الإسرائيلي، وتضع «حلاً» ما للقضية الفلسطينية.
وكانت إسرائيل، قد توصلت مع القاهرة، في مفاوضات كامب ديفيد الأولى إلى مشروع للحكم الإداري الذي رفضه الفلسطينيون.
وكان الرئيس الأميركي رونالد ريغان؛ قد طرح عقب خروج قيادة المنظمة من بيروت بعد غزو 1982، مشروعاً للحل، أدنى بكثير مما توصل إليه السادات في كامب ديفيد بشأن القضية الفلسطينية، وطبعاً كان مصير ومشروع ريغان الفشل بعد أن رفضته المنظمة.
وفي ظل طمأنة إسرائيل بأن واشنطن لن تغدر بحليفتها لصالح الفلسطينيين والعرب، واصلت الولايات المتحدة عبر أشكال مختلفة من الأقنية، بعضها معلن وبعضها غير معلن، مباحثاتها مع م. ت. ف. والضغط عليها، وتقديم شروطها لنقل المنظمة من مربع الرهان على الانتفاضة وعلى القتال ضد الاحتلال، مترافق مع عملية تفاوضية مقبولة ومتوازنة، إلى مربع وقف الانتفاضة، وكل أشكال «العنف» مع إسرائيل، والقبول بالمفاوضات خارج قرارات الشرعية الدولية التي تكفل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وفي هذا السياق؛ وفي ظل تطورات دولية وإقليمية وعربية عاصفة وشديدة التعقيد، انعقدت «مؤتمر مدريد» الذي انتقلت أعماله لاحقاً إلى واشنطن، حيث انسدت الطريق أمام الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي، ما دفع عليه القيادة الفلسطينية للهدولة إلى مسار بديل قدمت فيه تنازلات أدت إلى ولادة «اتفاق أوسلو» باعتباره الحل السياسي للصراع مع إسرائيل.
رحبت النخب السياسية والأمنية الإسرائيلية باتفاق أوسلو، واعتبرته ولادة إسرائيل الثانية، بل إن بعض كبار القانونيين في إسرائيل اتهموا قيادة تل أبيب بالخيانة إن هي تقاعست أو تخلفت عن قبول الاتفاق كما تمت صياغته، وأنذرتها بخطورة رفضه، وعدم تفويت الفرصة التاريخية التي كانت تنتظرها إسرائيل، أي الاعتراف الفلسطيني بشرعية وجودها، ما يعني التراجع عن السردية الفلسطينية بمضمونها الوطني، وفي الوقت نفسه، فتح الباب أمام الدول العربية لتقيم علاقات مع إسرائيل، حيث «لن يكون العرب فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم».
قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أبدوا قلقاً من أن يؤدي خروج إسرائيل من المدن الفلسطينية إلى افتقادهم «لعيونهم» التي كانت توفر لهم الكمّ الضروري من المعلومات حول ما يجري في صفوف الفلسطينيين، فكان الحل في تنظيم التنسيق الأمني (التعاون الأمني) المشترك الفلسطيني – الإسرائيلي، ضمن آلية منتظمة «يتبادل» فيها الطرفان المعلومات «لضمان الهدوء» في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة.
فهل تحقق حلم رابين بأن لا حل عسكرياً للقضية الفلسطينية، وأن الحل لا بُدَّ أن يكون سياسياً؟
لعل رابين كان أول من عطل خطوات تطبيق «الحل السياسي» مع الجانب الفلسطيني، حين رفض في 13/12/1993 الشروع في تطبيق الاتفاق، وفقاً للنص الذي يتحدث عن خطوات توفر الظروف لنقل المسؤوليات للفلسطينيين، وبعدها قال رابين قوله الشهير في التعليق على هذا الموقف وتبرير مواقفه «لا نصوص ولا مواعيد مقدسة»، مشترطاً أن تخضع كل خطوات التطبيق للفحص الأمني، وإلغاء كل ما يتعارض مع أمن إسرائيل، أي ومنذ البداية، أكد رابين تكريس اليد الأمنية الإسرائيلية باعتبارها هي العليا.
قطع مسار أوسلو شوطاً متعثراً شديد التعقيد، تخللته مطبات سياسية ودموية إلى أن وصل إلى محطة كامب ديفيد2 في تموز (يوليو) 2000، متأخراً عن موعد مفاوضات الحل الدائم أكثر من خمس سنوات، ماطلت خلالها إسرائيل وعطلت تطبيق العديد من نصوص الاتفاق.
محطة كامب ديفيد2 كانت محطة فاصلة في مصير أوسلو، إذ أكدت استحالة التوافق بين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، كما نصت عليها قرارات الشرعية الدولية، وبين الأطماع الصهيونية في القدس، وفي أراضي الضفة الفلسطينية، وفي السياق رفضها عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وقبولها بتسوية جزئية تنص على نقل بضعة آلاف من اللاجئين في لبنان إلى قطاع غزة، وتوطين الباقين في مطارح الأرض المختلفة، وحرمانهم من حق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948.
الانتفاضة الثانية عام 2000؛ شكلت محطة مميزة في تاريخ مسار أوسلو، إذ بعد مفاوضات عسيرة لوزيرة خارجية واشنطن، في الأيام الأخيرة لولاية كلينتون، مع الرئيس عرفات في السفارة الأميركية في باريس، باتت الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية على صناعة أن الرئيس عرفات قد وصل إلى نهاية الخط، ولم يعد شريكاً في أوسلو. وبالتالي كانت عملية «السور الواقي» للعام 2002 على يد حكومة شارون، وبعدها تصريحات الرئيس بوش الابن الفجة الداعية إلى تغيير قيادة عرفات «الفاسدة» بقيادة جديدة، وهي دعوة سافرة للتخلص من الرئيس عرفات، كان أحد ترجمات هذه الدعوة الفصل بين مؤسسة الرئاسة، ومؤسسة الحكومة في السلطة الفلسطينية، وتسليم رئيس الحكومة الجديدة محمود عباس، خطة خارطة الطريق، باعتباره رجل المرحلة الجديدة، وبذلك ظلّت العملية السياسية في ظل مسار أوسلو معطلة، وغرقت السلطة الفلسطينية، ومعها حركة فتح في دوامة في إعادة ترتيب صفوفها، في ظل غياب وضوح الرؤية، إلى أن رحل بطريقة غامضة، وفي ظل أوضاع معقدة، الرئيس الشهيد ياسر عرفات.
منذ أن تولت الرئيس أبو مازن مقاليد السلطة في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ورئاسة السلطة الفلسطينية، ورئاسة دولة فلسطين، وقائداً لحركة فتح، والعملية السياسية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي معطلة، وإن كانت قد أوحت للبعض أكثر من مرة، أنها استعادت عافيتها، تحولت المفاوضات إلى مناورات، وإلى محطات للعلاقات العامة، وأحياناً محطات تبحث ملفات هي من اختصاص الإدارة المدنية ووزارة الشؤون المدنية في السلطة، وشهد قطاع غزة حروباً دموية هدفت إلى تركيع المقاومة بضربات قاسية.
مع حلول عام 2015، نهضت الحالة الشعبية، خاصة فئات الشباب، والطلبة منهم، الجامعيون والثانويون، للتحرك على محورين: الدعوة إلى إنهاء الانقسام من جهة، وإطلاق موجة جديدة من موجات الصدام مع قوات الاحتلال، فيما سمّي انتفاضة السكاكين التي أربكت قوات الاحتلال، كما أربكت السلطة الفلسطينية التي لم تتردد في التباهي، أمام «الراعي» الأميركي، وأمام «الشريك» الإسرائيلي، أنها تبذل جهوداً متقدمة لإخماد هذه الانتفاضة، عبر تطويق الجامعات والمعاهد، وفرض نظام تفتيش على الطلاب، وتجريدهم من الأدوات المشتبه بها، فضلاً عن إحباط مئات العمليات – على حد قول – مدير جهاز المخابرات في السلطة الفلسطينية لوسائل الإعلام الأميركية -.
استمرت انتفاضة 2015 فصولاً في موجات متلاحقة، وفي كل مرة تأخذ شكلاً يتناسب والظرف السياسي، كانت ذروتها انتفاضة العام الماضي في نيسان (إبريل) – أيار (مايو)؛ «انتفاضة القدس» و«معركة سيف القدس» بكل تداعياتها الكبرى التي باتت معروفة للقاصي والداني.
ومنذ مطلع هذا العام 2022، والانتفاضة الشعبية لم تتوقف عن ترجمة حضورها أعمالاً صدامية مع قوات الاحتلال وعصابات المستوطنين، وأرقام الشهداء في تصاعد، وأرقام العمليات المتنوعة (بالسكين، الدهس، إطلاق النار ...) متصاعدة هي الأخرى، ما يؤكد بشكل واضح أن الرأي العام الفلسطيني بشرائحه الناشطة، لم يعد مقتناً بأن عملية سياسية ما مرشحة للاستئناف قريباً، من شأنها أن تضع حداً للمأساة الفلسطينية تحت الاحتلال وفك الحصار، وأن لا سبيل إلا بالذهاب إلى كل أشكال الصراع، حتى لا يكون احتلالاً بلا كلفة، بل مكلفاً لأصحابه.
في كل مرة تلجأ قوات الاحتلال إلى التصعيد كرد على العمليات، وفي كل مرة تتجدد العمليات رداً على التصعيد الإسرائيلي، في دورة صراع جهنمية أشعلت نيرانها سلطات الاحتلال، بات بعض معالمها واضحة جداً، وهي تقول أن الشعب الفلسطيني ليس على استعداد للانتظار طويلاً حتى يفرغ بايدن وإدارته من همومه الداخلية وصراعاته الدولية، ليلتفت إلى القضية الفلسطينية كما وعد الوفد الأميركي الأخير إلى رام الله، وأن الشعب الفلسطيني ليس على استعداد لأن يقتنع نفتالي بينيت بأن ثمة شعب فلسطيني تحت الاحتلال، وأن لا حل لهذه المسألة إلا بإنهاء الاحتلال والرحيل إلى خلف حدود 4 حزيران (يونيو) 67.
وأن الشعب الفلسطيني ليس على استعداد لأن ينتظر طويلاً كي تقتنع القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية، بأنها وصلت في رهاناتها السياسية إلى نهاية الشوط، وأنه آن الأوان للالتزام بما أقر المجلس الوطني وأقرته المجالس المركزية، بالجمع بين المقاومة والسياسة، فالمقاومة هي الطريق لتحقيق الأهداف التي تترجم المشروع الوطني الفلسطيني.
وإذا كان رابين قد اعترف بأن لا حل عسكرياً للانتفاضة، وأن الحل لا يكون إلا سياسياً، فإن خطيئته أن لم يكمل قوله بدعوة جيشه وحكومة الاحتلال للجلاء عن الأرض الفلسطينية المحتلة منذ الخامس من حزيران (يونيو) 67، وهي الخطيئة التي ما زالت حكومات إسرائيل تتباهى بأنها تعترضها كل يوم متجاهلة منطق التاريخ وعدالته.