من ثوابت السياسية العالمية الاكثر ديمومة أن السياسة الامريكية في الشرق العربي عامة وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية خاصة تكيل بمكيالين. فتاريخ الإنحياز الامريكي لإسرائيل موضوع مفروغ منه وربما مل القارئ من القراءة عنه بقدر ملل الكاتب من الكتابة عنه. ولكن الملفت لكل من يتابع السياسة الامريكية الداخلية والخارجية هو ان تحولا ملحوظا في بعض جوانب الخطاب العام قد تغيرت. بعد عقود من وحدة الصف السياسي الامريكي جمهوريين وديموقراطيين، فقراء وأغنياء، متدينين وعلمانيين حول دعم إسرائيل بشكل غير مسؤول وغير مبرر وبلا حدود اخلاقية أصبحنانسمع اصواتا عالية في بعض الاحيان تتململ ان لم تشتكي بشكل علني من الانتهكات الاسرائيلية تجاه فلسطين والفلسطينيين. وتجلى هذا الخطاب الجديد مؤخرا في ردة فعل الكثير من صانعي القرار الأمريكيين على فقداننا الشهيدة الراحلة شرين ابو عاقلة حيث شجبت عضوة الكونجرس رشيدة طليب فلسطينية الاصل انتهاكات اسرائيل باشد العبارات، وربط عضوا الكونغرس ايلهان عمر –عضوة الكونغرس المسلمة- ومارك بوكان دعم اسرائيل العسكري بضرورة احترامها لحقوق الانسان. فكيف حدث هذا التغير؟ وهل هو حقيقي ومستدام؟ وهل سيكون له أي أثر ملموس على القضية الفلسطينية؟
بداية يجب ان نعّرف بعض المعطيات الاولية للسياسة الامريكية.هناك بعض العوامل الاساسية التي تجعل العمل السياسي الامريكي على المستوى الداخلي والخارجي شبيها بمعظم الدول غير الدكتاتورية (لم استخدم ديمقراطية هنا بسبب الجدلية المشروعة حول استخدام هذا المصطلح في وصف النظام السياسي الامريكي- نقاش مهم لكن هذا ليس مكانه).
أولا : السياسة الخارجية مبنية على المصالح الواضحة فمن النادر واكاد اقول من المعدوم ان تبنى هذه السياسة على الاخلاقيات فلم تقد الاخلاق الى إنقاذ اليهود في الثلاثينات والأربعينيات ولا لإنقاذ الكمبوديين في السبعينيات ولا لإنقاذ الروانديين في التسعينيات.
وثانيا: (بل والاكثر اهمية) كل السياسة داخلية، حتى السياسة الخارجية منها. فالمرجعية في الدول التي تُجري انتخابات دورية هي الناخب المحلي وهو الذي يستجدي السياسي صوته بكل ما يفعله او يقوله. فمثلا عندما تتفوه سياسية امريكية بدعمها لقانون يحد من امتلاك السلاح، فذلك لأن المصوتين في دائرتها سوف يقبلون هذا الموقف وليس فقط لأن السلاح يشكل تهديدا على السلم المجتمعي. وبنفس الطريقة عندما يقدم أحد اعضاء مجلس الشيوخ مشروع قانون لدعم تعليم البنات في الجنوب العالمي فذلك لأنه قد يقود الى دعم موقفه السياسي وقت الانتخابات. والسبب وراء مماطلة امريكا ومحاربتها لتبنّي اتفاقيات تحد من التغير المناخي هو ان الناخب الامريكي لم يستقطب بشكل كافي لدعم هذه الخطط في حين هرولت دول اخرى الى تبنيها وتشديدها لأن ناخبيها يدعمون هذه الإتفاقيات ويريدونها.
ويقودنا هذا الى النقطة المطلقة الثالثة التي قد تنطبق علىالسياسة الامريكية أكثر من غيرها وهي ان الهدف الاساسي لكل سياسي هو ان يبقي على قوته او ان يزيد من نفوذه. حتى ان اخلاقيات السياسة تحتم ذلك لان اللذين لا يفوزون لا يحكمون.
وأخيرا وليس آخرا، يحوم فوق كل هذا القوة المفرطة لرؤوس الأموال والمجموعات الضاغطة ذات المصالح والتي تهيمن على إتخاذ القرارات الامريكية الى درجة تفوق التصور، حيث هذه الفئات تمول السياسيين ونشاطاتهم وحملاتهم الانتخابية وتحظى بولاء يفوق ولاء السياسي للناخب في كثير من الاحيان. فالقرارات وحتى القوانين لا يصنعها السياسيون وحدهم، بل إنها تصنع لهم وفي بعض الاحيان لا يقرأون أجزاء كبيرة منها كما حدث مع قائد الديموقراطيين في مجلس الشيوخ هاري ريد في العام 2015.
ولكن ما نعلمه جميعا هو أن الانحياز التاريخي للحزبين المسيطرين على السياسة الأمريكية ولرؤوس الأموال الأمريكية وحتى للناخبين كان (ولا يزال الى حد كبير) لصالح اسرائيل. ولهذا اسباب كثيرة لا يمكن حصرها هنا ولكن منها النفوذ المالي الاسرائيلي والموالي لأسرائيل، واليمين المتطرف المسيحي الموالي لأسرائيل لأسباب دينية، والمصالح الأمنية المشتركة في المنطقة، والتاريخ الكونوليالي المشترك، وحتى جانب عرقي لا يمكن وصفه بكلمات قليلة.
وبالرغم من كل هذه العقبات امام تحقيق او دفع الأهداف الفلسطينية الى الامام في واشنطن الا أن التحول في إقبال الأمريكيين على دعم الافكار الاكثر اعتدالا بالنسبة لفلسطين، بل الداعمة لها قد زاد وأصبح ملحوظا في الآونة الأخيرة. ولا يمكن حصر هذا التحول في إنتخاب رشيدة طليب كأول فلسطينية في الكونجرس أو محاولة بعض عضوات الكونغرس الشابات ربط المساعدات الأمنية لإسرائيل بانتهاكاتها بحق الفلسطينيين (الموقف الذي واجهت بسببه اليكساندريا اوكاسيو-كورتيزضغطا داخليا عارما فتراجعت عنه نسيبا وامتنعت عن التصويت على مشروع القانون) وجملة من التحولات في خطاب بعض الأمريكيين (الديموقراطيين الشباب بالإضافة لبرني ساندرس على وجه الخصوص) اتجاه فلسطين. ولكن كيف لمثل هذا التغيير أن يحدث؟
اعتقد ان بداية التغيير يجب ان يربط بالعمل الجبار الذي قام به الفلسطينييون والمؤسسات الفلسطينية غير الرسمية في عرض وجهةالنظر الفلسطينية والرواية الفلسطينية في امريكا. ومن المجحف ألانذكر أن الطلاب الفلسطينيين والأمريكيين أنشؤوا جمعيات ونوادي تعنى بالقضية الفلسطينية في معظم الجامعات الامريكية العريقة (ومنها جامعتي سوارثمور وشيكاغو اللتين تخرجت منهما) وهذا ما كان حكرا على الجمعيات التي يقتصر اهتمامها ودعمها على الرواية الاسرائيلية في الماضي. كما ان العلاقات المباشرة بين مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني والمؤسسات الامريكية خلقت شراكات قيمية أثّرت على خطاب هذه المؤسسات والتي تشكل بدورها أدوات ضغط على الشارع وفي أروقة واشنطن. ومن الجدير بالذكر ان الكثير من هذه المؤسسات تتحدث باسم التقدميين اليهود والتي أشهرها على الإطلاق الصوت اليهودي من أجل السلام ولكن هناك اخريات ممن بقي موقفها أكثر "اعتدالا" في دعم القضية الفلسطينية ولكنها ما تزال تقدم خطابا مختلفا عما كان عليه الحال في الماضي. والنتيجة كانت التأثير على الناخبيين الذي تغيرت مطالبهم من سياسيهم وقادتهم لتشمل العدالة في التعامل مع فلسطين.
ولا يمكن وصف الحالة السياسية الامريكية وعلاقتها بالشرق العربي من دون ذكر دور 11 سبتمبر في تشكيل الوعي السياسي الامريكي في القرن الواحد والعشرين، فبعد 11 سبتمبر زادت معرفة الامريكي العادي بالمنطقة العربية، بل زاد وهم هذه المعرفة، فأصبح الحديث عن فلسطين، او الأرهاب او تقليل الاعتماد على النفط العربي جزء دائما من الحملات الانتخابية لترهيب الناخبين او دغدغة خوفهم من الاخر المجهول او في سبيل كسب أصواتهم. وهذه المعرفة والحضور السياسي الدائم اثرا بشكل لا يمكن حصره على اهمية الشرق العربي في السياسة الامريكية.
ولعل الحدث ذو الدلالة الاكثر وضوحا على هذا التغير هو ثورة العدالة من قبل المواطنين الامريكيين من اصول افريقية في 2020 والتي جلبت العديد من أطياف التيار التقدمي الأمريكي لنفس الخندق (ولو مؤقتا). فاصبحت مواجهة العنصرية وعنف الشرطة نقطة جمع تجمهرت حولها الكثير من القضايا التقدمية واصبحت اختبارا للتقدمية بشكل عام. وكانت احدى القضايا التي اصبحت جزء من النقاش التقدمي هي العدالة في فلسطين حيث انضم الكثير من الفلسطنيين وحلفائهم التقدميين للمظاهرات العارمة التي تبعت قتل جورج فلويد في 2020.
ولكن ما أبقي على هذه القضية كجزء من اجندة التقدميين الامريكيين هو التحزب والاستقطاب الذي شهدته امريكا في الفترة بعد ظهور دونالد ترامب على الساحة السياسية الامريكية. فنمط الخطاب السياسي الامريكي في السنوات القليلة الماضية أكثرشراسة من اي وقت في الذاكرة الحديثة ونمط المواقف أكثر تشددا الامر الذي خلق معسكرين لا يقبلان من افكار الاخر الا القليل جدا ولا يرفض اي من اعضائهما من افكار فريقه الا القليل جدا، فتحولت الافكار السياسية الى ديانة يأخذها الناشط كاملة ومع الحد الادنى من التحفظات، بل يكن العداء لأعضاء المعسكر الفكري الآخر.وفلسطين الان واحدة من هذه القضايا الى حد بعيد وهي من الاسئلة التي يجب على كل سياسي ان يجيب عليها ليتقرب من معسكره. وان الكثيرين من السياسيين والنافذين الامريكيين اليوم هم من ابناء جيل "احتلال وول ستريت" الذين تزامنت محاولاتهمالثورية مع الربيع العربي ما خلق احساسا بوحدة الاهداف والمفردات والصراع، خصوصا لدى التقدمي منها.
قال أحدهم، وأحب انا ان اكرر، أن القرارات تصنع من قبل الذين يحضرون، لا يشكل الفلسطينيون وحلفائهم أغلبية في الساحة السياسية الامريكية، بل لا يشكلون اقلية كبرى حتى، انما هم واضحون وعالي الصوت ومن حلفائهم اقطاب في قلب الحزب الديموقراطي. نحن لسنا الأغلبية ولكن على الأقل في الفترة الأخيرة حضر الفلسطينيون الى النقاش.