بقلم: معتصم حمادة
عضو المكتب السياسي
للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
1) في التأصيل اللغوي
■ التطبيع في اللغة العربية، هو إعادة الأمور إلى طبيعتها بعد أن أصابها ما أخرجها عن هذه الطبيعة وألحق بها تشوهات أو تغييرات، جعلت منها وضعاً استثنائياً، غير طبيعي، يحتاج إلى فعل من أجل إعادته إلى طبيعته، وبالتالي فإن التطبيع في جوهره اللغوي، عمل إيجابي وجهد حميد. مثلاً كأن تحدث فوضى في مكان ما، لأسباب أمنية، أو جيولوجية (زلزال، فيضان ... الخ) بناءً عليه تدخل السلطة المعنية لإعادة الأمور إلى طبيعتها عبر معالجة ما نتج عن هذا الوضع غير الطبيعي من كوارث أو خسائر أو أضرار.
أما الحديث عن «تطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية»، فهو تعبير مخالف للواقع السياسي القائم بين العرب وإسرائيل.
فإسرائيل دولة معادية للعرب، قامت على أنقاض الوطن الفلسطيني، وشنّت العديد من الحروب العدوانية ضد الدول العربية المجاورة، وحتى البعيدة عنها، كالعراق، حين استهدفت ما قالت أنه المفاعل النووي العراقي، والعديد من الأهداف في مصر وسوريا، ولبنان، والأردن (قبل هزيمة حزيران/ يونيو67)، كما استهدفت السودان لاحقاً بذريعة تعاونه مع فصائل المقاومة، وبالتالي شكلت إسرائيل حالة عسكرية متمردة، تشكل عصا أمنية لا تتردد في الاعتداء على الدول العربية المجاورة، مستندة إلى دعم أميركي وغربي، أمني واقتصادي وسياسي، بما في ذلك تعطيل قرارات الأمم المتحدة، التي تدين إسرائيل وسياستها، ولأن إقامة علاقة بين إسرائيل والأطراف العربية يعتبر خرقاً لما يسمى الأمن القومي، والإجماع القومي، وقرارات القمم العربية، وقمم منظمة التعاون الإسلامي، عمدت وسائل الإعلام الغربي، في محاولة لتقديم ما حصل من «اختراق» في العلاقات، باعتباره خطوة إيجابية، تهدف إلى «إرساء السلام» في المنطقة، مع تجاهل تام للقضية الفلسطينية وحقوق شعبها، واحتلال إسرائيل للأرض العربية (في سوريا ولبنان)، وإصرارها على سياساتها العدوانية، لجأت هذه الوسائل الإعلامية ومعامل صناعة الرأي إلى تصوير العمل غير الطبيعي على أنه عمل طبيعي، وأن الحالة الطبيعية تتطلب سلاماً شاملاً بين إسرائيل والدول العربية، ولذلك سُمِّيَ «محور التقرب من إسرائيل»، بما في ذلك الأطراف التي أقامت معها علاقات «تطبيعية»، إنها محور «الاعتدال»، يقابله محور «الممانعة»، أو محور «المقاومة»، وأحياناً محور «التطرف»، وهكذا يصبح التعامل والتفاعل مع إسرائيل عملاً طبيعياً يلقي الثناء الغربي، وتطلق عليه الصفات الإيجابية. أما الذين يخالفون هذه السياسة، ويبقون على التزامهم قرارات الجامعة العربية، وقممها، وقمم منظمة التعاون الإسلامي، ودعمهم للقضية الفلسطينية، ووفائهم لشعبها، تُطلق عليه صفات، تعتبر في المعايير الغربية سلبية، و«معادية للاستقرار والسلام العالميين» ■
2) التطبيع في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي
■ نشأت إسرائيل بموجب قرار التقسيم 181 تاريخ 27/11/1997، ونجحت في تقديم نفسها إلى الغرب الإمبريالي، باعتبارها دولة صغيرة محاطة بالدول العربية المعادية لها، رغم أنها تجاوزت قرار التقسيم الذي منحها 55% من مساحة فلسطين البالغة 27000 كم2 وامتدت واستولت بقوة النار والحديد، وارتكاب المجازر على حوالي 87% من مساحة فلسطين الانتدابية.
وبنيت إسرائيل الوليدة، على كونها دولة صغيرة محاطة بصف من الأعداء العرب، سياسة مقابلة تقوم على اعتبار الأمن، بمعناه الشامل هو الخطر الذي يتهدد إسرائيل، من حصار عربي، وضيق المساحة الجغرافية، وضرورة امتلاك جيش قوي، ومنظومة أمنية فاعلة، نشطة داخل حدود الكيان وخارجه، وعلاقات وثيقة مع الغرب الأوروبي والأميركي تقوم على مبدأ التبعية، للاستعمارين الفرنسي والبريطاني بشكل خاص، إضافة إلى البحث عن تحالفات إقليمية تمكنها من تعزيز موقعها الذي قدمته إلى الرأي العام على الدوام أنه مهدد بخطر العدوان العربي، مستفيدة في هذا السياق من الإعلام العربي الهجين، الذي دأب على قرع طبول الحرب ضد إسرائيل (دون أن يترجم هذا الإعلام بمشاريع وخطط حقيقية، ودون أن يعكس النوايا الحقيقية لأصحابه).
ففي ظل الهدنة المعقودة بين إسرائيل والأطراف العربية، كلاً على حدة (لبنان، سوريا، مصر، الأردن)، بقيت حالة اللا حرب واللا سلم قائمة، وبقيت القضية المركزية التي اعتبرت موضع الصراع مع إسرائيل الوليدة هي قضية اللاجئين الفلسطينيين، الذي توزعوا آنذاك في قطاع غزة، وفي الأردن (بضفتيه الشرقية والغربية آنذاك)، وفي سوريا ولبنان والعراق، وتمحورت الحوارات والنقاشات والمباحثات السياسية المباشرة، عبر مؤسسات الأمم المتحدة، وغير المباشرة عبر أقنية خلفية تم الكشف عنها لاحقاً. هي إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى الديار التي طُردوا منها في إسرائيل، كشرط من شروط إقامة السلام معها.
وكما تؤكد الوثائق (الموسوعة الفلسطينية) أن رئيس الولايات المتحدة، دوايت إيزنهاور (آنذاك) اقترح على العرب إعادة مئة ألف لاجئ فلسطيني إلى ديارهم مقابل سلام دائم مع إسرائيل، غير أن رئيس حكومة تل أبيب (آنذاك) دافيد بن غوريون رفض ذلك، مخافة أن تصبح إسرائيل دولة ثنائية القومية وتعقد طابعها اليهودي ■
3) النووي واستراتيجية الأطراف
■ انطلاقاً من كونها جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي في المنطقة، وقاعدة متقدمة من قواعد العدوان على الشعوب العربية وقواها السياسية، وفي ظل إدراكها للحالة القومية الناهضة في المنطقة خاصة في ظل الدور الذي لعبه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وأمام انسداد مشروعها للتطبيع مع الدول العربية، وإصرارها على رفض حل قضية اللاجئين الفلسطينيين بإعادتهم إلى ديارهم، لجأت دولة إسرائيل إلى استراتيجية من شقين:
الأول: الحصول على السلاح النووي، بمساعدة فرنسية، تحولها إلى الدولة الأقوى في المنطقة رغم ضيق مساحتها، والعدد القليل من سكانها، مقارنة مع الدول العربية المجاورة، خاصة مصر وسوريا. ورغم تكتم إسرائيل عن سلاحها النووي، وإصرارها حتى الآن على إنكار هذا الأمر، فإن امتلاكها للسلاح النووي، أحدث انقلاباً استراتيجياً في ميزان القوى لصالح إسرائيل مكنها أكثر فأكثر من تعزيز استراتيجيتها العدوانية ضد الدول العربية المجاورة.
الثاني: اعتماد استراتيجية للتحالفات الإقليمية، بهدف تطويق المنطقة العربية، أطلق عليها استراتيجية الأطراف (وسميت أيضاً باستراتيجية الضواحي) قامت على التحالف مع إيران الشاهنشاهية شرقاً، ومع تركيا غرباً، ومع أثيوبيا جنوباً، ما جعل المنطقة العربية داخل طوق من تحالفات إسرائيلية - إقليمية، شكلت أساساً لتعاون أمني، اقتصادي، استخباراتي، في ظل رعاية غربية ■
4) التطبيع مع مصر ... التطبيع في ظل الحرب الباردة
■ كان على إسرائيل أن تنتظر طويلاً حتى تتمكن من إحداث الاختراق الأول في جبهة الدول العربية، والنجاح في تطبيع علاقتها مع «جوارها» العربي.
ففي ظل الزعامة الناصرية، وبعدها انطلاق المقاومة الفلسطينية المعاصرة، احتدم الصراع مع إسرائيل، وشكلت الحرب العدوانية في حزيران (يونيو) 67 إحدى محطاته الكبرى، وقد بدت نتائج المعركة، في ظل الهزيمة التي لحقت بالدول العربية وكأنها انتصار للولايات المتحدة على الاتحاد السوفييتي في ظل الحرب الباردة بين الطرفين، والتي حولت العالم إلى معسكرين. وقد لجأ كلا المعسكرين إلى رسم سياساته الإقليمية بناءً على نتائج هزيمة العرب في حزيران (يونيو) 67.
الولايات المتحدة من جهتها وجدت في إسرائيل قوة عسكرية، يمكنن لها أن تشكل حليفاً يمكن الاعتماد عليه في المشاغبة على الاتحاد السوفييتي وحلفائه في المنطقة، وإضعاف التيار الناصري، لصالح تعزيز قوة «التيارات المعتدلة» (التي كان يطلق عليها الرجعية العربية)، كالسعودية على سبيل المثال.
أما الاتحاد السوفييتي، فمن جهته عمل على تعويض حلفائه في مصر وسوريا ما خسروه من أسلحة وعتاد، وتحمل مسؤولياته الأممية في مساعدة البلدين على إعادة بناء قوته العسكرية، وتعزيزها، مؤكداً في الوقت نفسه على ضرورة الحل السلمي للصراع في المنطقة بموجب القرار 242، وبات واضحاً أن موسكو لم تكن تشجع على خوض المزيد من الحروب في المنطقة، بقدر ما كانت حريصة على حل سلمي للصراع، وإن كانت موازين القوى بين الأطراف المتصارعة في المنطقة ما زالت مختلة لصالح إسرائيل، وبالتالي ما زالت الطريق إلى «حل متوازن» للصراع مغلقة.
الرحيل المفاجئ والمبكر للزعيم جمال عبد الناصر، أحدث زلزالاً في المنطقة، كانت له انعكاساته الواضحة على العلاقات الإقليمية وعلى موازين القوى والنفوذ الدولية في المنطقة.
فبعد حرب أكتوبر 1973، انطلقت القيادة المصرية برئاسة أنور السادات في البحث عن «حل منفرد» مع إسرائيل، بديلاً للاستراتيجية السابقة التي توافقت عليها الدول العربية في التمسك لحل شامل للأراضي العربية المحتلة بحرب حزيران. تخلخلت العلاقات العربية – العربية، خاصة بعد أن أعلن السادات عزمه زيارة القدس، ولقاء القيادات الإسرائيلية، ففتح بذلك باباً لمرحلة جديدة، قادت إلى تطبيع العلاقات المصرية – الإسرائيلية في معاهدة «كامب ديفيد» للسلام.
لقد كانت مصر، أولى الدول العربية التي أقامت علاقات مع إسرائيل، في إطار معاهدة سلام وتطبيع. لقد تم ذلك في ظل علاقات دولية ما زالت محكومة لقواعد الحرب الباردة بين القطبين الرئيسين: الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، لكنها تمت في الوقت الذي بدأ فيه النظام في موسكو يدخل في حالة جمود، أخلت بالتوازن بينه وبين واشنطن، واحدة من علامات هذا الإخلال، خروج القاهرة من صف «الإجماع» العربي، من صف «دول الطوق» (أي الدول التي تحيط بإسرائيل ومرشحة لحرب قادمة ضدها) إلى صف الدول «المعتدلة»، في تحالف مع السعودية، ودول الخليج وإيران الشاهنشاهية ودول أخرى كالباكستان وصولاً إلى الشراكة في محور إقليمي لدعم طالبان، ومنظمة القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، في حربهما ضد الوجود السوفييتي في أفغانستان.
بقي التطبيع المصري – الإسرائيلي في حدوده العسكرية والأمنية، متمحوراً حول استعادة مصر لشبه جزيرة سيناء حتى الحدود الدولية بين مصر وإسرائيل، وفي إطار خطة انتشار رسمت على أساس ضمان أمن إسرائيل من الجانب المصري ما فرض على القاهرة شروطاً قاسية، رسمت لها سقفاً لحجم انتشار جيشها في سيناء ونوعه، وبإشراف مباشر من الولايات المتحدة.
بالمقابل، وبالتعاون مع الاتحاد السوفييتي، نجحت م. ت. ف. وعدد من الدول العربية في تشكيل جبهة الصمود والتصدي، لمنع التمدد المصري نحو تطبيع جديد، رشحت الأوساط الغربية عمان العاصمة الأردنية لتكون بطلها، لكن تعقيدات الوضع في المناطق الفلسطينية المحتلة، والنزاع على تمثيلها بين م. ت. ف. من جهة، والأردن من جهة، عطّل الخطوة الأردنية، وأبقى التطبيع المصري – الإسرائيلي محاصراً.
حاولت القاهرة أن تروج لخطواتها المنفردة نحو إسرائيل بأنها وضعت حداً للحروب في المنطقة، بدعوى أن حرب 1973 هي آخر الحروب في المنطقة، غير أن الأحداث أثبتت زيف هذا الادعاء، فالحروب الإسرائيلية في المنطقة، رغم التطبيع مع مصر، لم تتوقف. فإلى جانب الإغارة الإسرائيلية على مفاعل تموز النووي في العراق، شنّت إسرائيل حروبها ضد فلسطين ولبنان عام 1981 (حرب الجسور)، والغزو الإسرائيلي للبنان 1982، والاشتباك بين سوريا وإسرائيل في السياق نفسه، وسلسلة الغارات الجوية التي استهدفت مخيمات اللاجئين في لبنان، بعد منتصف الثمانينات من القرن الماضي.
ورغم أن البعض كان قد رفع شعار «لا حرب بدون مصر، ولا سلام بدون سوريا»، فإن الوقائع أكدت بالملموس، أن السلام الحقيقي هو الذي يكفل الحقوق الوطنية المشروعة لشعب فلسطين، وأنه ما دامت القضية الفلسطينية بدون حل يستجيب لهذه الحقوق، فإن الحرب سوف تبقى مهيمنة بخطرها على المنطقة ■
5) التطبيع بعد الحرب الباردة
■ انعقد «مؤتمر مدريد» للسلام، بين العرب والإسرائيليين، في تشرين الأول (أكتوبر) 1991، والاتحاد السوفييتي يعيش أيامه الأخيرة، في ظل المزيد من الاختلال في موازين القوى، عالمياً وإقليمياً. ومع انتقال المفاوضات العربية – الإسرائيلية إلى واشنطن، هيمنت الولايات المتحدة منفردة على مساراتها الثنائية والمفاوضات متعددة الأطراف، وهي صيغة أدت إلى شكل من أشكال الانفتاح العربي على إسرائيل (لبنان + سوريا + الأردن + م. ت. ف. برعاية مصرية – أميركية - أوروبية)، وهو الأمر الذي مهّد لعلاقات ثنائية «غير رسمية»، أفسحت في المجال لأطراف عربية أخرى أن تجد الجرأة لتدخل على خط المفاوضات، ودوماً بداعي العمل على إنجاح المساعي الأميركية والدولية، خاصة بعد أن تفكك الاتحاد السوفييتي وتزعم الولايات المتحدة للعالم قطباً واحداً.
هذه التطلعات قادت أول ما قادت؛ إلى اتفاق أوسلو، الذي استقبلته عمان بالترحاب، فسارعت إلى عقد مؤتمر «وادي عربة» للسلام بينها وبين إسرائيل، لتكون الطرف الثالث بعد مصر وم. ت. ف. الذي يعقد معاهدة سلام تقوم على تطبيع العلاقات الثنائية. أما سوريا فلم تصل مع الجانب الإسرائيلي إلى توافق يعيد لها كامل أراضيها المحتلة بعدوان 5 حزيران (يونيو)، وتوقفت مفاوضاتها مع إسرائيل ولم تزل حتى الآن خارج التطبيع.
في ظل ثلاثة رؤساء أميركيين، فشلت اتفاقية أوسلو في الوصول مع الجانب الإسرائيلي إلى ما يسمى بـ«الحل الدائم»، بفعل التعنت الإسرائيلي، ورفض تل أبيب إقامة دولة فلسطينية، والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، إلى جانب مراعاة واشنطن لإسرائيل، والتعهد بألا تقرض عليه ما لا يتوافق مع «المصالح الإسرائيلية».
مع وصول إدارة ترامب إلى الإدارة في البيت الأبيض (20/1/2017) دخلت القضية الفلسطينية، وكذلك الأوضاع الإقليمية مرحلة جديدة. فعلى الصعيد الأميركي انتقلت الإدارة الأميركية من مرحلة إدارة الأزمة في الشرق الأوسط إلى مرحلة «حل الأزمة»، وتقدمت في ذلك بمبادرة أطلق عليها ترامب «صفقة القرن»، تقوم على ضم أوسع المناطق المحتلة إلى إسرائيل، والاعتراف بالقدس عاصمة لها، وإقامة حكم إداري ذاتي، بصلاحيات معينة، كحل دائم وبديلاً للدولة الفلسطينية المستقلة، وشطب حق اللاجئين بالعودة، وحل وكالة الغوث. وقد وصف المراقبون «صفقة القرن» بأنها حل إسرائيلي تمت صياغته بأقلام أميركية.
على الصعيد الإقليمي، وقد أسقطت الوقائع المتتالية خطة إسرائيل، تطبيع العلاقات مع الأطراف (إيران + تركيا + أثيوبيا)، باتت في ظل «صفقة القرن» الطريق سالكة أمام إسرائيل للانتقال من خطة التطبيع مع الأطراف إلى خطة التطبيع مع «القلب»، أي مع الدول العربية، وفتح الباب لدمج الدولة اليهودية في محيطها العربي ■
6) التحولات الإقليمية ومقدمات التطبيع
■ لا يمكن الفصل بين خطوات التطبيع وبين التحولات الإقليمية التي شهدتها الأنظمة المحلية على مختلف اتجاهاتها، مثلما حدث في تونس وليبيا، ومصر، والجزائر، وسوريا، واليمن، والعراق، والبحرين، بحيث نشأت قوى سياسية جديدة (قوى الإرهاب الإسلامي) جعلت من وجودها خطراً على العديد من الأنظمة العربية، كما شهدت بعض البلدان انقساماً حاداً تحول إلى حرب أهلية مفتوحة على مصراعيها على الزمن (اليمن)، وتحولت بعض البلدان إلى ساحات للصراعات الإقليمية (لبنان) ... وكلها تطورات كان من شأنها أن تفتح الباب على مصراعيه أمام التدخلات الأميركية، لإعادة صياغة أوضاع الإقليم، بما يخدم مصالحها، باعتبارها القطب الأوحد صاحب النفوذ الأقوى فيه.
وشكلت دولة الاحتلال طرفاً شريكاً للولايات المتحدة باعتبارها طرفاً في جبهة مقاومة الإرهاب، التي تقاطعت فيها مصالحها مع مصالح دول عربية، خاصة الخليجية منها. خاصة وقد نجح الإعلام المعولم في الترويج لمعادلات جديدة في المنطقة، أزاحت ثنائيات وأحلت محلها ثنائيات أخرى، فصار الصراع صراعاً بين الإرهاب والتطرف من جهة، والاعتدال من جهة أخرى، وصارت الجمهورية الإسلامية في إيران، هي مصدر الخطر على المصالح العربية، وبالمقابل أصبحت إسرائيل حليفاً ضمنياً لدول الاعتدال العربي في مواجهة الإرهاب والدول التي ترعاها إيران بشكل خاص.
وتمحورت الاصطفافات بين محور تتزعمه العربية السعودية، ومحور تقدم إيران نفسها باعتبارها راعيته، وصار الصراع عربياً – فارسياً، وشيعياً – سنياً، ما أضعف المناعة القومية حتى لدى شرائح واسعة من الشعوب العربية، في ظل غزو إعلامي، تعرضت له المنطقة، وأزمات اقتصادية خانقة، أطاحت بشرائح واسعة من الفئات الوسطى، وأسهمت في نمو قوى طفيلية جديدة، رأت مصلحتها أن تعتاش على الاستفادة من التحولات الإقليمية بمظاهرها السلبية وشديدة الخطورة على المصالح العليا لشعوبها.
لم تكن كما قدمها الرئيس الأميركي ترامب، وتولى رعايتها صهره كوشنر، مجرد مشروع لحل القضية الفلسطينية، وفق الرؤية الإسرائيلية، بل كان في الوقت نفسه مشروعاً لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وإزالة الحواجز أمام إسرائيل لدمجها في المحيط العربي والإقليمي، بما يعيد بناء الشرق الأوسط الذي تمتد مساحته من حدود أفغانستان، حتى شواطئ الأطلسي في المغرب وموريتانيا. كانت «صفقة القرن» مشروعاً سياسياً، اقتصادياً، أمنياً، استخباراتياً، ثقافياً، إعلامياً، يستهدف إعادة بناء المجتمعات وفق المواصفات التي ترسمها الدوائر العليا في واشنطن. لذلك لم يكن صدفة أن تنطلق مسيرة التطبيع، في مرحلتها الأولى في مؤتمر اقتصادي، انعقد في العاصمة البحرينية – المنامة، ضم الصف العربي والإقليمي المرشح للتطبيع مع إسرائيل، حتى قبل ترسيم هذا التطبيع.
أما الخطوة التطبيعية التي شكلت ثغرة في الأوضاع الإقليمية، تمثلت بـ«اتفاق أبراهام» الذي ضم إلى جانب البحرين، دولة الإمارات العربية المتحدة، ثم السودان، وبعدها المغرب، في إطار صفقات مسمومة، من شأنها أن تشعل نيران الحرب بين الإخوة، على غرار الصفقة الأميركية – المغربية بشأن الصحراء الغربية ■
7) تطبيع أم حلف إقليمي جديد
■ أثبتت الوقائع أننا لم نكن أمام «تطبيع»، كالتطبيع بين مصر وإسرائيل بموجب «معاهدة كامب ديفيد»، حين استردت مصر أراضيها المحتلة، بل نحن أمام حلف إقليمي أخذ في بدايته طابع العلاقات الثنائية بين إسرائيل وكلاً من أطراف التطبيع العربي الأعضاء في «اتفاق أبراهام»، فعقدت في هذا السياق، الاتفاقيات والمعاهدات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والمالية والثقافية والسياحية والإعلامية، وتبادل الزيارات، والتعاون بين المؤسسات الإعلامية، حتى التعاون في ميادين الرياضة وغيرها ... وكلها أخذت طابع التعاون في سياق مواقف قدمت هذه التحالفات على أنها تندرج في إطار الدفاع الأمني المشترك ضد الخطر المشترك ممثلاً بإيران.
ومع استئناف مفاوضات فيينا بين إيران والولايات المتحدة، بشأن الملف النووي، أخذ التحالف القائم في إطار الثنائيات، طابع الحلف الإقليمي، في القمم التي عقدها أطرافها في شرم الشيخ وصحراء النقب، على مقربة من مقبرة بن غوريون، وكأن الأطراف المجتمعة تبعث له برسالة تطمئنه فيها عن مشروعه.
فالاجتماع ضم إلى جانب مصر، الإمارات العربية، والأردن، وإسرائيل، والبحث كان – كما بات واضحاً – الاتفاق النووي مع إيران، بما في ذلك مسألة رفع الحظر عن الحرس الثوري، بتداعياته المعروفة ■
8) التطبيع والنظام العربي الرسمي
■ لقد أنتج التطبيع في إطار «اتفاقية أبراهام» سلسلة وقائع بين:
1) أنه شكل إعلاناً بوفاة مبادرة السلام العربية، التي رهنت العلاقة مع إسرائيل بانسحابها من الأراضي العربية المحتلة، وأهالت على الاتفاقات والمعاهدات الموقعة بين إسرائيل وأطراف الاتفاق التراب إلى غير رجعة.
2) شكلت «اتفاقية أبراهام» انتصاراً للسياسة الإسرائيلية التي رفضت مبادرة السلام العربية، ودعت إلى مبادرة جديدة تسبق فيها علاقات التطبيع الانسحاب من الأراضي المحتلة.
3) شكل التطبيع خرقاً للأمن القومي للنظام الرسمي العربي في كافة الميادين، ما وضع النظام العربي الرسمي أمام واقع جديد، فصار نظاماً مشتتاً، في محاور متضادة، تعكس نفسها على أوضاع جامعة الدول العربية ومؤسساتها كإشارة، ولعل تأجيل القمة العربية في الجزائر، بدعوى عقدة حضور سوريا القمة، مؤشر لحالة احتضار بدأت تصب النظام الرسمي العربي.
4) أبرز ضعف الحركة الشعبية، وضعف قدرتها على التصدي لسياسة الانفتاح على إسرائيل، خاصة في بلد كالمغرب حيث تتسم الحركة الشعبية بعمق انتمائها إلى القضايا القومية، بما في ذلك القضية الفلسطينية.
5) بدا ظاهرياً، أن التطبيع في إطار «أبراهام» أضعف القضية الفلسطينية، لكن وقائع هبة القدس، في رمضان الأخير، وما قبله أثبتت قدرة المقاومة الشعبية الفلسطينية على فرض نفسها عاملاً مؤثراً في الأوضاع الإقليمية حين أرغمت كافة أطراف التطبيع لاتخاذ مواقف سياسية وإعلامية تجاوزت حدود التطبيع، في إدانة الجرائم الإسرائيلية ما فتح الباب للسؤال مرة أخرى عن تأثير التطبيع عل الوصول إلى حل للقضية الفلسطينية يرسمه الفلسطينيون أنفسهم بما يلبي حقوقهم الوطنية المشروعة في تقرير المصير، والعودة، والاستقلال والسيادة.