بقلم: عيسى قراقع كتب الاسير زكريا الزبيدي بعد استشهاد شقيقه داوود في ذكرى النكبة يوم 15-5-2022 : كل الذين فقدتهم لم أودعهم ولم ادفنهم، أبي استشهد حين كنت في سجن جنين، وأمي استشهدت في معركة جنين ودفنها الصليب الاحمر، ومن شدة المعركة لم نستطع الوصول اليها وهي التي كانت تردد دائما (الله يجعل يومي قبل يومك)، واخي طه دفنوه وانا تحت حطام المخيم والبيوت المهدمة ،واليوم داوود، ولم استطع توديعهم جميعا أو اتمكن من ممارسة طقوس العزاء ، لا أعرفه ولم أجربه ولم أمارسه بشكل شخصي.
هذا النص ليس مقتبسا من اسطورة اغريقية أو من رواية عالمية خيالية، إنه من أحد أولاد ام العبد، اللاجئة الشهيدة في مخيم جنين بعد نزوحها من بلدة قيسارية خلال النكبة، أم زكريا زبيدي التي حملت الشهداء في أحشائها وأطلقتهم الى الحرية واحدا واحدا ،ولدوا وكبروا ثم سبقتهم في الرحيل الى ذكرياتها الاولى ولا زالت تستقبلهم وما بدلوا تبديلا.
الاسير زكريا الزبيدي الذي ولد في مخيم جنين عام 1976 عاش حياته بين الموت والرصاص والسجن والمطاردة، وعندما حاول خلال طفولته ان يخلق زمنا موازيا وجميلا على مسرح مخيم جنين أقفل الاحتلال الستارة وانتشر الموت والظلام، استشهدت والدته سميرة الزبيدي ام العبد خلال اجتياح مخيم جنين وارتكاب مجزرة دامية في نيسان 2002، استشهد اشقائه طه وداوود وهدم منزلهم عدة مرات، ظل زكريا ملاحقا وهدفا للتصفية حتى اعتقل عام 2019، عندما تتحدث معه لا تجد على لسانه سوى كلمات الحنين والوداع التي تفوح منها روائح الفقدان، اصدقائه احبائه واخوته تركوه وحيدا فظل يحمل فوق كتفيه مئات الجنازات. لم تلتئم عائلة الزبيدي ولا مرة واحدة، الجميع اما في السجن او تحت التراب، الان هو في زنزانة انفرادية مضرب عن الطعام، لا زال يقاتل، هو ابن المخيم، جسمه المحروق يشع كقرص شمس في الصحراء، لا زال في ثياب العمل، ثياب الفدائي، يشحذ سيف ارادته لكي يبقى مستعدا لكل ما هو قادم، له حاسة متميزة للموت وحاسة اكثر للحياة التي تنبثق من عطش الافكار.
الاسير زكريا الزبيدي هو كل فلسطيني وفلسطينية، هو الحالة العامة والراهنة، اراد شرعية الموت من اجل استكمال شرعية الحياة، فالحياة تحتاج الى موت، لهذا ظل يقاوم ويحفر ويربي الموت في روحه حتى ينضج المعنى وينجز ولادته الثانية والثالثة والعاشرة، هو الذي قال لنا: لقد ولدت في هذه الحياة من الاسفل، من القاع والهامش، وكبرت كما يكبر الابطال خلال ساعات وليس خلال سنوات.
زكريا الزبيدي الفلسطيني الوحيد الذي اراد ان يكون موجودا من خلال الموت، كالشمس التي تعطي الضوء ولا تمتصه، لقد استعاد طبيعته الشمسية واسرع في الشروق، عندما يعطش ولا يأتي النبع يذهب الى النبع، عندما يجوع ولا يصل الخبز يبحث عن الخبز حتى يجده، لا يحتاج الى مساعدة، لا يلتفت حوله، يقاتل ويشكي ويبكي ويشتم ويغضب ويهدأ ولكنه لا ينظر حوله ابدا.
اطلبوا الموت توهب لكم الحياة، ردد زكريا هذا القول المنسوب الى الصحابي ابو بكر الصديق رضي الله عنه، هذا الموت قادم من جهة الضوء، وزكريا قادم من جهة الظلمة، الموت قوي وزكريا ضعيف، الموت هو الاعلى وزكريا في الاسفل، الموت في برج الحراسة وزكريا في قاع الارض، في الطين يزحف ويزحف وينادي على الفضاء، اندهشت الاسطورة عندما وجدت زكريا والموت يواجهان بعضهما البعض على رصيف الصباح.
في يوم 6-9-2021 ومن ثقب حفرته في سجن جلبوع الصهيوني رأى الجنة، هي فلسطين، ستة اسرى خرجوا من كبسولة الارض، ساعدينا ايتها الريح لكي نجرف الرمل ونصعد الى جبل طابور في الجليل، ساعدي عضلاتنا على اكتشاف جسد الوقت، اخرجينا من غرف الموت، ادمجينا ايتها الرياح في غبارك وانشرينا كي نكون هبوبا في هوائك، ولكي نعرف كيف نكتب الفجر.
سنخرج من السجن قال زكريا ،هي اية (وزكريا اذ نادى ربه، رب لا تذرني فردا وانت خير الوارثين )، اجعل لي اية، الروح طليقة، سنخرج في كبسولة او قصيدة أو اغنية ،سنخرج من فوق الارض او من تحت الارض، كل الاسرى على علاقة وطيدة بالافلاك وبفاكهة الشتاء في الصيف وبفاكهة الصيف في الشتاء، مسالك تتجاوز اسلاك المؤبدات المقفلات، القدرات العجيبة التي تجعل السجين يحاصر السجان، هي اية عندما ترى ما لا تراه.
كل المدن والقرى في اعالي الجليل والساحل الفلسطيني مدت لأبطال نفق الحرية اياديها، قالت لهم : امسكوا اغصان الشجر، تتبعوا جداول الماء، اقرأوا النقش على الحجر، اصغوا لهدير البحر المتوسط ووشوشة الغيم، راقبوا اسراب الطيور، سوف تصلوا سالمين يرافقكم القمر والندى واحلام ايقظها الماضي في عودة الغائبين الحاضرين.
آمن زكريا الزبيدي انه يحتاج الى قطع نصف الطريق فقط، ترك قوته الداخلية الملتهبة تكمل النصف الاخر، لقد وصل زكريا ورفاقه الاسرى السته من سجن جلبوع الى قرية الناعورة شمال فلسطين، جذبهم جمالها ونكهتها الفلسطينية وازهارها البرية، تذكر زكريا قصيدة الشاعر بدر الدين حامد عن قرية الناعورة عندما قال:
بنت هذا الزمان لا ترهب الموت وتفضي ايامها بالتمني من جمال صيغت وفيها حياة انا منها .. بروحها وهي مني
استحم زكريا والاسرى الستة وصلوا في جامع الناعورة، ادرك حينها زكريا أن الانسان الحر يستطيع ان يوقف المحتلين بصلاة أو صرخة مرعبة اذا حمل فأسا او مجرفة او ملعقة، فمن أراد الحرية عليه أن يرفع نفسه الى نفسه ويجر نفسه الى مكان التضحية.
اطلبوا الموت توهب لكم الحياة، يرفض زكريا ان تكون الزنزانة قبرا له، القبر هناك في جنين، المستقبلي يتحرر مني ويصل هناك، الحق يحررني قال زكريا بعد ان اختلط الدم والنار معا في كرة بشرية تسمى المخيم، ثار من كفنها الدخاني وميض احمر، افلتت شمس جديدة دخلت في الظل العظيم، البندقية والعودة والذاكرة، المخيم لا يستوعب العتمة وبرودة الموت ونشوة القناص، لا أحد يتبرأ من جنين، شهداء يشيدون دولة من دم وياسمين، هذا الدم لا يذهب الى اللا شيء، اللا شيء هو الامتلاء نفسه، فانزف كثيرا من اجل انسانيتك، يقول زكريا، حقق التوازن بين الموت والحياة لكي ترى بوضوح وتتعلم كيف تعيش.
ايها الناس اقرأوا هذا النص الذي كتبه زكريا زبيدي: هم يجيدون القتل ونحن نجيد الموت، ما أكثر الموت وما اتعس المقابر الصامتة والسماء الجافة وفجائع الارض، ما أكثر التوقعات السياسية الميتة،في كل بيت مقبرة، في الشارع وفي النوم وفي اليقظة، في الليل والنهار مقبرة، مقبرة تجاور مقبرة، الاخبار اليومية لها رائحة موت، الصحف السوداء والعناوين والحبر والكلمات العصبية المتوترة، الهواء المنقوع بالبارود وبالشهقات، فالينفجر الموت مرة واحدة، ونغلق المسافة بين القاع والقمة، لنحرك الجماجم ونصعد من الهاوية.
هم جاءوا من اجل أن نموت ونحن هنا من أجل أن نصد الموت ويكون للموت اذا ما حل جمالا ومعنى، علينا أن نعيد الغزاة الى جهنم أو الى المنفى حيث كانوا، لا شأن لنا سوى أن يرحلوا عن حياتنا الان، لسنا اسفين على مصيرهم ان انقرضوا او تبخروا في اخر الاخرة، هم جاءوا ليقتلعوا منا براعم الحياة ونحن هنا نقاوم بالحجارة وبالحجر وبالسكين وبالقلم وبالصلاة، فمن يعش من السيف فبالسيف يموت، لا احد يحدد مصيرنا وأقدارنا لا دبابة ولا طائرة ولا عرب ولا عجم ولا أمم غاربة، نحن الامة الفلسطينية( اذا جهنم صبت فوق رأسها واقفة ).
اطلبوا الموت توهب لكم الحياة، هذا الاحتلال كل ما يحتاج اليه عود ثقاب واظافر، فإن كانت حياتنا عزيزة علينا نفضل التضحية بجزء من قوة حياتنا بدل ان نترك ذواتنا للموت الصامت في السجن او خارج السجن، كتب زكريا ،نحن نعيش هكذا قدم في البرد وقدم في الحر، قدم في الموت وقدم في الحياة، وعلينا أن نكون مركز الكرة الارضية نستقبل الشمس من كل الامكنة، شروق وغروب، حروب وجرائم، يأس وأمل، لكننا العين المشعة الدائمة الحارسة للقدس العاصمة.