مما لا شك فيه أنَّ منظمات المجتمع المدني بطبيعتها متعددة ومختلفة في المهام والأدوار، وأدوات العمل ومجالات الخدمة التي تقدمها، وهي كذلك لديها اهتمامات مختلفة في الجوانب التي ترمي إليها أو تكون محور عملها. وهي ترنو في نهاية المطاف إلى تقوية أركان الدولة من خلال ضمان إقامة مؤسسات عامة فعّالة ومساءلة قادرة على الاستجابة لأولويات المواطنين من جهة، وعلى وضمان احترامها لتعهداتها والتزاماتها الداخلية والخارجية من جهة ثانية.
تحتكم منظمات المجتمع المدني إلى قواعد ناظمة لعملها تضمن استقلاليتها ومهنيتها بغية ممارسة عملها في مجالات ثلاثة رئيسية؛ مساعدة المواطنين وتقديم الخدمات وحماية حقوقهم سواء من قصور مؤسسات الدولة أو تعسفها من جهة، وهي كذلك تساعد في صياغة ورسم السياسات العامة من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة تقوم بمساءلة المسؤولين العامين عن أفعالهم وأدائهم بحدود العمل العام بما يطلق عليه المساءلة الاجتماعية. وذلك لضمان الموازنة ما بين ممارسة الحريات ونيل الحقوق وإلزام الحكومة على احترامها، وما بين ضمان الحوكمة والحكم الرشيد في عمل المؤسسات العامة بما فيها المنظمات الأهلية.
وفي إطار عملها في رسم السياسات والشراكة مع قطاعات الدولة بما فيها المؤسسات الحكومية تنطلق من قواعد "منطلقات" ستة حاكمة للنظر في الفعل أو الإجراء أو أيَّاً من التدابير أو النصوص التشريعية الأساسية أو الثانوية لتشكل موقفها قبولاً أو رفضاً أو المساهمة في تصويب النص أو مراجعة الإجراء وغيره من الأفعال في سبيل نهضة الدولة وفي تقويم وتطوير أداء مؤسساتها واعلاء مكانتها وهي؛
أولاً: مصلحة الدولة ومراعاة التزاماتها وفقاً للاتفاقيات الموقعة من طرفها (بحلوها ومرها)، فعلى سبيل المثال على مدار سنوات طويلة شجعنا "كمنظمات مجتمع مدني" أركان الحكم في دولة فلسطين بالانضمام إلى ميثاق روما "المحكمة الجنائية الدولية" على الرغم من المخاطر المحتملة لإدانة بعض المسؤولين الفلسطينيين. كما شجعنا في إطار تضمين الحقوق المدنية والسياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية انضمام دولة فلسطين إلى المعاهدات الخاصة بهذه الحقوق لاحترامها شمولية وعالمية وإلزامية تطبيقها وصولاً للمساءلة الدولية في حال اختراقها. كما ناضلنا بشكل مستمر لانضمام دولة فلسطين للمجموعة الدولية بما تحملهُ من التزامات قد تمس استقلالية الدولة في إطار العولمة القائمة التي تحتم أو تصبح الدولة محمولة على اتخاذ إجراءات أو تدابير لضمان البقاء ضمن هذا المجتمع المحكوم بضوابط عالمية غير مرغوبة من قطاعات مختلفة من الشعب الفلسطيني.
ثانياً: الانسجام مع الوثائق الدستورية (وثيقة الاستقلال والقانون الأساسي) ضماناً للحريات العامة وحقوق الإنسان وعدم الانتقاص منها، ومراعاة للقواعد الحاكمة لعمل مؤسسات الدولة المنصوص عليها في هذه الوثائق باعتبار دولة فلسطين هي لجميع مواطنيها على أساس الشراكة وفقا لوثيقة الاستقلال التي أشارت إلى " إن دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا فيها يطورون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق،....".
ثالثاً: مدى الحاجة الاجتماعية للتشريع "الأساسي أو الثانوي" أو القرار لتنظيم العمل وضمان حسن وسلامة الأداء العام من جهة، وتطوير البنى الاجتماعية المؤسسية الناظمة لهذا القطاع وتعزيز ثقافية إيجابية تساند التطور المدني والمؤسساتي للدولة من جهة ثانية.
رابعاً: إنَّ أيَّ إجراء يمسُ ممارسة الحريات العامة أو الحقوق السياسية أو المدنية أو الثقافية أو الاقتصادية أو الاجتماعية ينبغي أن يصدر بالأساس من محكمة مخولة وفقا للقانون تراعي ضمانات المحاكمة العادلة. وأنَّ أي إجراء تقييدي ينبغي أنْ يستند إلى قانون محدد مع وضع ضمانات واضحة بموجب القانون كي تمنع إساءة استعمال أي قيود على حقوق الإنسان، مع وجوب توفر سُبل الانتصاف في حال حدثت حالات إساءة استعمال السلطة.
خامساَ: عدم منح التشريعات الثانوية الصادرة عن السلطة التنفيذية صلاحيات فرض عقوبات؛ لمنع جمع السلطة التنفيذية صلاحيات السلطات الثلاث بحيث تصبح المشرع والمنفذ والقاضي معاً.
سادساً: النظر بشكل معمق في التشريعات والإجراءات المتعلقة بتنظيم المجتمع المدني ومؤسساته لانعكاسها على حرية عمل منظمات المجتمع المدني وقدرتها ودورها في المساءلة المجتمعية والدفاع عن مصالح المواطنين وحماية حقوقهم؛ بهدف ضمان حمايته من تغول الحكومة وأدواتها من جهة، وضمان حوكمة قطاع منظمات المجتمع المدني من جهة ثانية.
هذه المنطلقات الستة الأساسّية هي مُوجهات النظر في أيِّ تشريعٍ أو إجراءٍ؛ بهدف الحرص على وجود نص أو إجراء مصاغٍ بشكلٍ محكم يضمن الحريات العامة وحقوق الإنسان، ويمنع احتمالية استغلاله من قبل المتنفذين أو السياسيين لغايات سياسية أو تغول الحكومة على منظمات المجتمع المدني أو تعسف الإدارة في استخدام سلطاتها وقوتها المادية.
إنَّ العين التي تنظر لمسودة قانون أو لائحة تنظيمية أو قرار أو إجراء؛ ينبغي أنْ تأخذ هذه المنطلقات الموجهة لخلق التوازن ما بين احترام الاحكام الدستورية المتعلقة بالحقوق والحريات من جهة، وحوكمة قطاع منظمات المجتمع المدني من جهة ثانية، والالتزامات المختلفة لدولة فلسطين من جهة ثالثة، وتضييق النصوص التي تتيح تعسف الإدارة أو نفاذ تغول الحكومة من خلالها من جهة رابعة.