إذا كان الغول خرافة شعبية أو خرافة أسطورية للتخويف والرعب، استخدم في الحكايات كمصدر تهديد للبشر، أو وظف في السياسة ونظام السيطرة لقهر الشعوب المسكينة، فإنه موجود في الحقيقة والواقع، موجود على الأرض وفي الأفكار والثقافة.
الغيلان كثيرة وتعيش في غابات الشرق، غيلان بشرية وذات مستويات وطبقات ونفوذ ومصالح وشبكات وعلاقات، لكنها في النهاية هي غيلان متوحشة، صورها ظلامية، تفترس كل شيء، الجسد والأحلام والمستقبل والضعفاء والفقراء، وتظل دائماً كابوساً حاضراً ومستنسخاً وسداً منيعاً أمام التطور الحضاري والإنساني.
وهذه المرة الغول الشرقي يفتك بالنساء، تحول على هيئة رجل أو شيخ أو راهب أو شبح، غول على هيئة مسؤول ومؤسسة له نظام وعادات وتقاليد وأنماط راسخة، غول له مملكة وقبيلة وعشيرة ودولة، غول يحمل السكاكين والرصاص والمخدرات والمسكنات والتعويذات.
ما هذا الغول؟ الرجل الذكوري الذي لا يفنى ولا يموت، يستفرد برجولته ويقتل المرأة ويحتال على القانون، يذبح النساء باسم العار والشرف والعيب والمحرمات، يرتكب الجريمة العلنية من أجل تصحيح الضلع الأعوج وإكمال العقل الناقص للمرأة، يكره جمال الأنثى ويغطيها بأكياس سوداء، يسكتها ويخنقها فلا يطيق صوت الهديل في بحة النساء.
الروائي والكاتب خالد أبو عجمية قادني في روايته التراجيدية التي جاءت بعنوان "جبينة أكلها الغول" إلى خاتمة مفجعة، أوصلني عبر روايته إلى بركة دم تسبح في وسطها امرأة اسمها جبينة مذبوحة ومطعونة بعشرات الطعنات، ذبحها الغول (عطية أبو حديد) الرجل المتسلط والبلطجي، الفاسد وصاحب السطوة والمال، المتنمر ذو النشوة المجرمة.
عندما تدفن المرأة في البيت وتحاصر بسياج الرجل وشتائمه وتهان تحت ضرباته وسوطه ويسأل عنها الناس، يقال أن الغول أكلها، وعندما تدفن المرأة وتوأد وتحاصر وتمنع من المشاركة وإبداء الرأي والخروج من العتمة إلى الضوء ويسأل عنها يقال أن الغول أكلها، وعندما تدافع المرأة عن كرامتها وحقها في المساواة وعدم التمييز وتبحث عن دور لها وحيز في الاختيار والقرار يقال أن الغول أكلها.
الروائي أبو عجمية وضع عنواناً لروايته المأساوية من خلال سؤال وجهه إلى الجميع! لماذا تبقى الفراشات تحوم حول الفانوس حتى تحترق؟ هل هي عقدة الجنس والطبيخ والأخلاق والدين، عقدة الثقافات والحضارات؟
كل النساء في الرواية خائفات مرتعبات خادمات للرجال، أنفاسهن محبوسة، نساء مطيعات مستسلمات لأقدارهن التي تحددها الخرافات، كل النساء مصابات ومريضات ويجب إخراج الجن من داخلهن، ويجب شفائهن بضربات البلطات والاستعانة بوحوش الغيبيات.
هذه المؤسسات الحقوقية والنسوية في فلسطين قرعت جرس الإنذار، عبرت عن قلقها الشديد إزاء تنامي ظاهرة العنف المبني على النوع الاجتماعي وازدياد جرائم قتل النساء في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الآونة الأخيرة، فمنذ بداية عام 2022 وصل عدد النساء المقتولات إلى أكثر من 28 امرأة، وحسب هذه المؤسسات لا زال ذلك الغول الذي يفترس النساء طليقاً وحراً ومدعوماً وبلا قيود وروادع.
جبينة قتلت، المرأة قتلت، ويسأل الكاتب في النهاية من قتلها؟ ربما قانون العقوبات الذي يخفف الجرم على الرجل وتوفر له أسباب مخففة تحت قناع الدفاع عن الشرف فيصير القانون وما يسمى العذر المخفف هو الغول، وربما الفكر الداعشي المتطرف والمتعصب الذي يكره الجمال والأنثى هو الذي قتلها، يصير هذا الفكر المتحجر هو الغول القاتل الذي يصون المرأة ويحفظ المجتمع من الفتن وتحصين الشباب من الوقوع في الفاحشة، هذا الفكر الذي يخاف على المجتمع من رائحة عطر المرأة، فإن كانت رائحتها جميلة فهي زانية، وكل عين زانية، الجمال والحب من المحرمات والمفاسد وكل ما في هذه المرأة يثير الشهوات ويخدش الحياء في ملبسها وكلامها ومشيتها.
الغول في رواية أبو عجمية أكل جبينة، لأنه رآها سريراً ومتعة وغثاء وحيض ونجاسة، يستبيحها في الليل والنهار، لا ينقذها القانون ولا البيت الآمن ولا الحركات النسوية المدافعة عن حقوق المرأة، جبينة قتلت بلا رحمة، وما أكثر المبررات والتسويغات والإشاعات، جبينة قتلت لم ينقذها الشعر الرومانسي وقصص الحب والعشق والروايات والخطابات الكاذبة التي تجعل النساء أخوات السماء.
غول أبو عجمية لا يعترف أن الرجال ولدوا في أحضان النساء، لا يعترف بالاتفاقيات والمواثيق الدولية والإنسانية، لا يعترف أن الله سبحانه وتعالى أوصى على النساء، الغول هو التربية والعقل والثقافة والمحكمة والسياسة والقاضي والجلاد.
الغول في هذه الرواية هو سيد المجتمع، يجرنا كما القطيع في صفحات الرواية إلى ساحة الإعدام، لم أجد أملاً في هذه القصة، لم أجد امرأة قوية ومقاومة، وفي فلسطين هناك نساء رائعات، مناضلات وشهيدات وأسيرات ونشيطات ومبدعات، في فلسطين يوجد ملكة جمال، وكرة طائرة للنساء وفرق فنية نسوية، معلمات وصحفيات وفلاحات ونائبات ومرابطات لولاهن لمات الرجال عطشاً من الجفاف.
الغول أكل نصف المجتمع، لم يتحرك النصف الآخر في نصوص الرواية، الغول أكل جبينة، أكل الجميع، أغلق الباب على جبينة، وترك كل الناس مجرد مشاهدين أو مستمتعين أو خائفين.
المفارقة أن كاتب الرواية تحول أيضا غول، الكاتب رجل لم ينقذ جبينة من الموت، وكان شريكا في ترتيب الأدوار والفصول وانتقاء الشخصيات الذكورية، هل كان شاهدا محايدا في بلاغته الموجعة ام ان الكاتب هو الغول نفسه وهذه الرواية هي بيت الغول؟