بقلم: الباحث في قضايا الأسرى الدكتور رأفت حمدونة
السجن بلا تعريف معترك عنيف، كقارب فى بحر هائج بلا تجديف، ومع هذا اذا كانت الشخصية المبدعة هى القادرة على الإنتاج إنتاجاً يتميز بأكبر قدر من الطلاقة الفكرية، والمرونة التلقائية، والأصالة، فأعتقد أن الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة مبدعة باستحضار تلك السمات الثلاث، ومن خلال صناعة الحياة وأنبوب القلم وأدب السجون ومن نسيج الضوء المتسرب من فوهات الحديد المصفح للزنازين المعتمة على الصفحات المهربة.
بالعموم قالوا إن (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك)، وأسجل أن الحركة الفلسطينية الأسيرة استطاعت السيطرة على عامل الزمن الذى حاول السجان مصادرته منذ لحظة الاعتقال، وأجزم أنه سبق الزمن من خلال الانجازات المتواصلة رغم قلة الامكان ونقل الوقت إلى نطاق سيطرة الأسير، وتحول السجن من عامل سلبي يولد اليأس والإحباط إلى عامل إيجابي يولد الإبداع والأمل بالحرية وبناء الذات والتفاؤل بمستقبل أجمل.
وخلال الاعتقال فالقلم يمثل بندقية الأسير الفلسطينى بعد الاعتقال، والورقة هي ساحة المعركة الاعتقالية مع السجان على كل الجبهات، وعند الحديث عن المشهد الثقافى فى السجون، فهنالك ثقافتان متباينتان، ثقافة الأسير الفلسطينى المتمثلة بالحرية والتطلع للحياة مقابل ثقافة السجان الممارس لمفهوم القيد والكراهية.
واستطاع الأسرى من خلال التأكيد على حقهم فى التعليم أثناء الاعتقال أن يحولوا المحنة إلى منحة، والزنازين إلى فصول تعليمية وأكاديمية ومدارس وطنية وتربوية ودائرة من دوائر العمل النضالي والإبداعي.
وتعلمت مبادئ الديمقراطية قبل حصولى على درجة الدكتوراة فى العلوم السياسية أثناء الاعتقال (الحقوق والواجبات، وحق الانتخاب والترشيح، وفصل السلطات، ومفهوم تجزيء الصلاحيات، والتمثيل، ومفهوم المعارضة الوفية، وسيادة القانون، واللامركزية، وتداول السلطة سلمياً)، وأجزم أن مدرسة الديمقراطية الاعتقالية تفوق أى مدرسة أوممارسة ديمقراطية لأى جهة خارج الاعتقال.
وبالإرادة تحولت الزنازين إلى مدرسةً وطنيةً وتربويةً ودائرة من دوائر العمل النضالي والإبداعي، وتخرَجت من السجون طلائع وطنية قادرة ومتمكنة، وهنالك الكثير من النماذج ممن تخرجوا من أكاديمية السجون وتصدروا المواقع والمراكز المتنوعة، وتبوؤوا مواقع سياسية وأماكن مهمة في المؤسسات المختلفة ولعبوا دوراً مؤثراً في الحياة السياسية، والفكرية، والاجتماعية، والإعلامية، كقادة، ووزراء ونواب وأمناء عامّون وأعضاء مكاتب سياسية لفصائل وحركات سياسية، وأعضاء فى المجلسين "الوطني والتشريعي"، ومدراء لمؤسسات رسمية وأهلية، وخبراء ومفكرين، ونخب أكاديمية وإدارية.