بقلم: الأسير وجدي عزمي جودة
ارتدى كمال نجيب أبو وعر علم فلسطين ثوباً، واستراح بكل كبرياء بعد سنوات من النضال والمجابهة في كافة الساحات والمعارك، مما جعل السجان يعُضّ أصابعه غيظاً، وهو يرى اخضرار أرض فلسطين في قدرة كمال على اختراق الظلام في أبدية الغياب والحضور. فكان كمال في غيابه كما حضوره وكما أحببناه أن يكون، مقاتلاً وأسيراً وشهيدًا واعياً مثقفاً مشحوناً برائحة الفجر والبارود، وسنابل القمح وضوء زيت يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فأضحى نوراً لجيش المناضلين والمؤمنين.
تربع كمال متر برشه الحديدي ليس جسدًا، بل قيماً ومفاهيماً وأخلاقاً وانتماءً واعياً لفلسطين، ولأفكار وتطلعات الشهداء التي ظلت نصب عينيه. فتجد في صوته نبرة نبوية بالحلم المعتق، وتشتم رائحة تخفف عليك قسوة وحرمان ثمانية عشر عاماً من السجن، قضاها كمال محاصراً ببندقية وخوذة وحذاء سجان وسرطان.
التقيناه في زنازين العزل وبوسطات النقل من سجن لآخر، في برامج وخطوات نضالية كفاحية، كان آخرها الإضراب عن الطعام في نيسان 2017 في عزل أيالون. هناك في العزل لم يفصل بين زنزانتي التي تحمل الرقم (5) وزنزانته التي تحمل رقم (4) سوى جدار إسمنتي.
في كل يوم من أيام الإضراب وجدته عال الهمة، مشحوذاً بالعزيمة والصلابة ونحن نقارع الجوع والسجان ووحدات القمع والتفتيش، متسلحاً بأمعائه الخاوية، مرسِّخاً درجة عالية من فهم الصراع وأدواته. بجوعه وصموده أعاد تعريف العديد من المفاهيم الاعتقالية: (الأسير، السجن، السجان، الصراع)، مؤمناً أن خيار المقاومة هو الخيار الأول في التصدي لممارسات القمع في سجون الاحتلال. شَكَّل كمال عبر سِني نضاله وأسره نموذجًا للمناضل المحترف، والثوري الحقيقي الذي لم يَخَف الموت يوماً، وحرص على أن لا يموت إلا «مماتاً يغيظ العدى».
في 10\11\2020، انتهت معاناة كمال بعد صراع طويل مع ثنائية السجن والمرض، مات وحيدا في برشه البارد، دون وداع ولا عناق للأحبة، وإمعانًا من الاحتلال في توحشه، ارتكب جريمة احتجاز جثمانه في ثلاجات الصقيع، كان الاحتلال اقترف هذه الجريمة سابقاً مع رفاقه الأسرى الشهداء، أمثال سامي أبو دياك، وداوود الخطيب، وبسام السايح، وغيرهم. يعتقد الاحتلال واهمًا أنه باحتجاز جثامينهم أنه يقتلهم مرتين، وفي الحقيقة أن البرد لا يؤثر سوى على جسد فان، أما الروح دافئة وطليقة، والفكرة حيةً لا تموت.
كمال نجيب أبو وعر، أنت لم تغادرنا إلا لتصعد إلى السماء قمرًا ينير درب النضال والكفاح، وأنت الآن في غيابك «الأقل منا موتاً والأكثر منا حياةً". نقف أمام اسمك بخشوع المتعبدين، كنت الأكمل منا جميعاً حينما امتشقت سلاحك في الانتفاضة الثانية، وصعدت الجبل في وقت نزل الكثيرون ليغنموا، ولقيناك النجيب في مدرسة الوطن، مُنجِزا واجباتك الوطنية والكفاحية، حاصلاً على أعلى المراتب والمستويات في طريق النضال الطويل والوَعِر. فكنت أبو الوعر اسمًا وفعلًا، كما قال الشاعر «أنت من سلكت الوعر هادياً للناس وغيرك ضلوا الطريق المعبّدِ». ها أنت من يوم ارتقيت فوق رقيك شهيدًا وشاهدًا على خط النار في ساحات زنازين السجون، وبقيت سبابتك على الزناد منازلاً ومقتَحِمًا لا تلين لك قناة ولا تضعف لك عزيمة. عرفنا فيك الاستقامة والمهابة ونظافة اليد والقلب.
لن ننساك أبداً، كيف لنا أن ننسى منظومة القيم والمثل الأخلاقية، وقوة المثال، ونموذج الثوري المحترف. في ذكرى استشهادك سلام على روحك يوم ولدت ويوم ناضلت ويوم اعتقلت ويوم أضربت ويوم استشهدت. سلام عليك يوم ولدت كمالاً نجيبًا أمينًا لشعبك ووعراً مع الاحتلال.