عندما سمعت اسم أبو داود اول مرة ذهب خيالي الى القائد الفلسطيني الشهير محمد داود عودة والمعروف بابو داود والذي يحتل في الذاكرة الفلسطينية مكانه هامة كأحد الرموز النضالية التي قارعت الاحتلال الإسرائيلي في ساحات متعددة ، لكن المقصود هنا أبو داود اسرة فلسطينية تمارس أيضا العمل النضالي لكن بشكل اخر ، في مدينة غينك البلجيكية ، ثاني اكبر مدينة في مقاطعة ليمبورغ في إقليم فلاندر الناطق باللغة الهولندية ، والمشهورة باحتضانها واحد من اهم الأندية دوري كرة القدم البلجيكية .
هذه الاسرة المكونة من اخوين وابن عم لهم وزوجاتهم وابنائهم،وصلوا الى بلجيكا من قطاع غزة على عدة مراحل واستطاعوا تعلم اللغة والاندماج في المجتمع البلجيكي في فترة وجيزة والتأثير به وإدخال فلسطين في العديد من المناسبات التي تنظمها البلدية ومنظمات المجتمع المدني والتي تهتم باللاجئين .
بدأت القصة مع عماد وهو مهندس والذي انطلق من غزة عام 2014 في رحلة اقرب الى " رحلة الموت " مرورا بمصر ثم ليبيا ، والتي ولد بها بالأساس، وانهى دراسته الجامعية في جامعة طرابلس حيث درس الهندسة ، تخصص ميكانيكا ، قبل ان يعود مع اسرته الى غزة بعد عام 1994 ، بعد ان قام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي بطرد جزء كبير من الجالية الفلسطينية في ليبيا والتي كانت تعيش وتعمل منذ عقود ، تحت بند انه اصبح للفلسطينيين بلدا يعيشون فيه بعد توقيع " اعلان المبادئ " بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية في واشنطن في أيلول 1993 .
ومن هناك من احدى الشواطئ الليبية، خاض عماد تجربة خطرة،كادت ان تودي بحياته وذلك في الصعود الى قارب يتسع نظريا لتسعين شخصا لكنه حمل اكثر من 400 مهاجر ا من مختلف الجنسيات يبحثون جميعهم عن شاطئ الأمان في حياة حديدة توفر لهم ولأبنائهم حياة كريمة ، وقد لاقى العديد من هؤلاء المهاجرين الذين كانوا على قارب الموت ، كما يحدث اليوم في العديد من قصص اللجوء المأساوية والتي جعلت من البحر الأبيض المتوسط الفاصل بين المنطقة العربية واروبا " مقبرة المهاجرين " كما تطلق عليها وسائل الاعلام .
نجح عماد بعد رحلة رأى بها الموت ، عديد المرات في الوصول الى إيطاليا والانتقال بعدها الى بلجيكا حيث شاءت الظروف ان يصل الى إقليم فلاندر الناطق باللغة الهولندية والذي يشكل القسم الأكبر من المملكة البلجيكية مساحة وسكانا واقتصادا قياسا الى إقليم والوني الناطق باللغة الفرنسية او حتى الإقليم الصغير الناطق باللغة الألمانية والذي يشكل اقليه وعليه درس اللغة الهولندية واتقنها في فترة وجيزة في المراكز التي توفرها الحكومة للاجئين لتعلم اللغة والاندماج في المجتمع عبر دراسة تاريخهوعاداته ومعرفة حقوق اللاجئ وواجباته .
وكان لعماد شغف بالرسم منذ ان كان صغيرا وكان يرسم بالقلم الرصاص واثناء وقت فراغه رسم بعض اللوحات والتي انتبه اليها أحد مسؤولي المركز فعرض على عماد ان يتم تنظيم له معرض رسومات ، فتم ذلك في احد المراكز الثقافية للاجئين ، فلاقى هذا المعرض اعجابا ، وطلب منه المسؤولين اذا كان يوافق ان يعطي دورة في تعليم الرسم للاجئين الراعبين في ذلك ، فوافق عماد على ذلك وكان يعطي دورات تطوعية ، من رسم وطباعة وتصميم ، واستمر هذا النشاط التطوعي قرابة سنة ونصف ، وساهم بتعزيز مكانه عماد في المركز واصبح يتقن اللغة الهولندية ووجد عملا كمهندس في احد المصانع وتوثقت علاقته مع مركز مساعدة اللاجئين ومع البلدية والتي اعجبت بأعماله وطلبت منه ان ينظم معارض لجمهور المدينة وليس فقط للاجئين ، اما في هذه اللوحات من لمسة إبداعية ، حيث اصبح يقدم دورات فتية بالرسم بالرصاص واقام معرض اسماه " قلم رصاص " ، لان لوحاته كانت من الرصاص رغم اتقانه الرسم بالريشة وكانت فكرته هي ببساطة انه كلاجئ لا يملك إمكانيات مادية لكنه يستطيع من مجرد ورقة وقلم رصاص إيصال فكرة جميلة ، وكان يذهب يعطي دورات للاجئين في كافة معسكراتهم .
.بعد هذا النجاح، استطاع عماد جمع شمل اسرته الصغيرة فاحضر زوجته ريم وابنائه الثلاثة احمد ، رهيف ولانا . وقد ابصرت ريم النور في الكويت ويقيت هناك مع اسرتها حتى وقوع زلزال الغزو العرافي للكويت عام 1991 والذي سيغير جذريا وجه المنطقة بأشملها ، فتعود الاسرة الى موطنها الأصلي غزة ، حتي اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول 2000 ، حين وجد والدها الاديب والشاعر احمد أبو داود، والذي اصدر العديد من الدواوين، فرصة عمل في الامارات العربية المتحدة والتحقت به اسرته هناك ، وعندما بغت ريم سن 18 عاما عادت الى غزة لتدرس الصيدلة في كلية الصيدلة في جامعة الازهر ـ بالإضافة الى حصولها على مجموعة الشهادات في التغذية واكتسابها خبرة ميدانية في العمل الطبي هناك بالعمل مع طواقم الإسعاف الطبية خلال العدوان الإسرائيلي على عزة عام 2014 ،والتي وان بالرغم من صعوبتها الا انها اكسبتها تجربة غنية في العمل الاغاثي والطبي بشكل عام .
وخلال تواجدها في غزة كانت الكتابة الأدبية تستهويها من شعر وخواطر، فنشرت في عدد من المجلات الأدبية في غزة بالإضافة الى مجلة جامعية بعنوان “ شموع صيدلانية ”
وعندما التحقت بزوجها في بلجيكا أكملت دراستها الجامعية في جامعة بروكسيل الحرة الناطقة باللغة الهولندية لنيل الدكتوراة في مجال الصيدلة .
وتواصل النشاط الفني لعماد جنبا الى جنب مع عمله كمهندس في احدى المصانع ، حيث قام برسم جدارية امام مدخل البلدية في عام 2019 ، وما زالت حتى الان وذلك في اليوم العالمي للاجئ ، حيث رسمت هذه الجدارية اهم معالم المدينة حيث ساهمت اسرة أبو داود مع بلدية غنك بنفس المناسبة بتنظيم معرض فني في اكبر مسرح ساهم بالإضافة الى عماد ، ثلاثة فنانين لاجئين ، احدهم فلسطيني اسمه محمود ، وفنانة من فنزويلا وأخر من المغرب و شارك جمع غفير من اللاجئين الموجودين في المدينة بالإضافة الى سكانها وقد قدم اللاجئون العراقيون الدبكة فيما قدمت ريم قراءات شعرية باللغتين العربية والهولندية لمحمود درويش يرافقها عزف على البيانو .
منذ التحاقها بزوجها، مع أولادها ، في نهاية عام 2016 ، استأنفت الدكتورة ريم عملها التطوعي الذي كانت بدأت به غزة وذلك الى جانب دراستها ، فعملت مع مؤسسات أهلية بلجيكية تنشط في مجال تقديم المساعدة للاجئين ، وأصبحت جزء من جمعية تبادل ثقافي بين اللاجئين ، أسسها بداية لأجيء إيطالي ، لمساعدة المهاجرين الإيطاليين الأوائل الذي وصلوا الى هذه المدينة في الخمسينات ، والذي مع الوقت استقروا واصبحوا جزء من المجتمع البلجيكي ، ومع الوقت امتد نشاط الجمعية الى للاجئين الجدد والقادمين من العالم العربي ، تركيا وافريقيا واسيا ، وبرز اسهام دكتور ريم في هذه جمعية التبادل الثقافي عبر المشاركة مع لاجئين اخرين تنظيم فعاليات اجتماعية ثقافية متحركة في أماكن تواجد اللاجئين والذهاب نحو الا سواق الشعبية من خلال باص متحرك يطوف المدينة بهدف تقريب الثقافات من خلال فتح حوار مباشر وعفوي مع الناس من كل الجنسيات ، بدعوتهم تناول القهوة والعصير.
ونتيجة لنشاطها واتقانها ثلاث لغات ، العربية ، الإنجليزية والهولندية ، بالإضافة لقليل من الفرنسية ، انضمت الدكتورة ريم لمؤسسة نسائية عريقة اسمها " نساء العالم " وكانت ذات فائدة هامة لهذه المؤسسة الموجودة منذ قرن تقريا ، حيث كانت تقوم باعمال الترجمة للاجئين بشكل تطوعي ، الامر الذي جعل منها ان تتبوأ موقع عضو مجلس إدارة في هذه المؤسسة ذات الحضور الواسع في كل إقليم فلاندر الناطق باللغة الهولندية .
بعد ذلك كبر حضور ونشاط عائلة أبو داود في المدينة، فوصل اخوه محمد وزوجته رنا وهي أيضا شقيقة الدكتورة ريم ، ومعم أبنائهم المعتز بالله وعبد الكريم ، والتحق محمد ورنا بنشاط عماد وريم ، فلمحمد خبرة هامة في التصميم والإخراج من خلال الكمبيوتر ، اما زوجته رنا فقد كانت مدرسة لغة انجليزية في خانيونس، حيث تعيش كل الاسرة هناك ، بعد ان انتقلت اليها من بلدة دورا في الخليل ، بعد نكبة فلسطين عام 1948 ، ولها تجربة هامة في الإخراج المسرحي وحصلت على دبلوم في ذلك حتى تستطيع التعامل مع فئة الطلاب ذو الاحتياجات الخاصة لإيصالالرسالة لهم .
كما التحق بالأسرة ابن عم لهم اسمه محمد، وهو أيضا شقيق الاختين ريم ورنا، وهو مهندس كهرباء تخصص في مجال الطاقة البديلة وعمل في المدينة مع احدى المؤسسات العلمية ، ولكنه يمتلك ذائقة أدبية فهو ابن الشاعر الراحل احمد أبو داود والذي صدرت له العديد من الدواوين ، بالإضافة الى شغفه بالتصوير .
اذن أصبحت عائلة أبو داود عائلة كبيرة، متماسكة تعيش في نفس المنطقة وتضع كل طاقاتها الغنية المتنوعة في نشاطات ثقافية اجتماعية متنوعة مع الجاليات العربية والتركية لتقيم امسيات ثقافية كبيرة تستقطب مئات الأشخاص ليس فقط من اللاجئين واسرهم ولكن من أبناء المدينة ، وأصبحت تقوم امسيات ثقافية اجتماعية لفلسطين منها أمسية خيرية لفلسطين سنأخذها كنموذج ، والتي تم تنظيمها في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني في نهاية شهر نوفمبر ، وقد شاركت بالنيابة عن سفير فلسطين في بلجيكا عبدالرحيم الفرا وشارك من سفارة فلسطين أيضا زملائي محمد البراوي ، عماد رجب ونوال السعدي .
كان الفريق القائم على هذه الأمسية في احدى قاعات البلدية يتكون أساسا من 4 سيدات الاختين ريم ورنا أبو داود والسيدة حورية عياد وهي مواطنة بلجيكية من اصل جزائري والسيدة مريم عياد وهي من اصل مغربي.
وتم النشاط بالتعاون مع احدى الجمعيات الخيرية واسمها " افتح قلبك " والتي تعمل على تجميع المساعدات المالية للطبقات الاجتماعية الفقيرة وخاصة النساء بالإضافة الى تقديم المساعدة النفسية والتوجيه القانوني.
وضمت الأمسية الخيرية قرابة 200 شخص ، جلهم من سكان المدينة ومن الجاليات الفلسطينية ، العربية والتركية ومنهم رئيس بلدية جنك فيم دريس، والذي القى كلمة قصيرة دعا بها لتعزيز العلاقات بين بلديته وفلسطين من خلال مثل هذا النشاط والذي بادرت له عائلة أبو داود ، كما حضرت نائبه للعلاقات الدولية انيك ناجيلز ، بالإضافة الى رئيس احدى المؤسسات الاهلية الهامة في المدينة مصطفى حراج وهو من اصل مغربي .
كما شارك عدد من الصحفيين والمصورين البلجيكيين والهولنديين المعروفين وعدد من الشخصيات الهامة في المدينة والتي قدمت دعما ماديا لهذا النشاط .
بدأت الأمسية بعرض فلم باللغة الهولندية إعداد محمد أبوداود ، مثل قيه الأشبال أحمد عماد الدين أبوداود و المعتز بالله محمد أبوداود والذي يرتكز على حوار بين احمد الذي ترك غزة والمعتز بالله الذي بقي في غزة والذي يشرح الوضع الفلسطيني في قطاع غزة حصار و نقص الموارد من ماء و كهرباء و دواء مع عرض لصور للمباني المتأثرة بالقصف الإسرائيلي مع التأكيد ان مثل هذا الوضع هو حالة دائمة ، ولم يفت الفتيين في الفيلم تقديم الشكر ببلجيكا و لمدينة جنك لمنحهم فرصة للحياة بأمان و تمتعهم بامتيازات لا يحظى بها أقرانهم في غزة .
كما قدم أستاذ جامعي بلجيكي متعاطف مع القضية الفلسطينية واسمه هيرمان فيرمالان مداخلة مركزة عن فلسطين منذ القدم منذ الالاف السنين، مرورا بمختلف الحقب التاريخية وصولا للواقع الحالي للاحتلال الإسرائيلي بأقسى صوره .
عن الجهة المستهدفة لهذه الأمسية في قطاع غزة تحدثت الدكتورة ريم أبو أبوداود وهي جمعية نسائية تقدم مساعدات وتبرعات لعائلات محدودة الدخل من سلات غذائية ومواد قرطاسية مدرسية،بالإضافة الى التدريب المهني حتى تستطيع هذه الأسر الاعتماد على نفسها، كما تحدثت عن الواقع التعليمي للشعب الفلسطيني والذي شكل العماد الرئيسي في نهضته ومقاومته للاحتلال .
بعد الكلمات كان الحضور على موعد مع العشاء مع اطباق شرقية منوعة أعدتها العائلات الفلسطينية والعربية والتركية، كما انطلق بعده المزاد على لوحات فنية رسمها جميعها المهندس الفنان عماد أبو داود والتي جسدت مدينة القدس ومدن فلسطينية بالإضافة الى صورة الرئيس الشهيد ياسر غرفات الصحفية الشهيدةشيرين أبو عاقلة والتي تم بيعها جميعها وسط تنافس الجمهور على اقتنائها ، وقد ذهب ريع هذا المزاد بالإضافة الى مجمل الأمسية الى هذه الجمعية الخيرية في قطاع غزة .
الختام كان مع فرقة " هلا للدبكة " الفلسطينية والتي قدمت بداية عرضا تمثيليا قصيرا يحاكي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ثم قدم لوحات متنوعة للتراث الشعبي الفلسطيني من أغاني ودبكة ، اثارت تفاعل وحماس الجمهور واستمرت حتى ساعات متأخرة في الليل .
مثل اسرة أبو داود هناك اسر وافراد فلسطينيين عديدين وصلواالى بلجيكا وبظروف صعبه ولكنهم من خلال تجارب عاشوها في فلسطين وفي بلدان الشتات ، استطاعوا تعلم اللغة ومعرفة قوانين البلد والاندماج تجريبيا في المجتمعات الجديدة التي استقروا بها .
وانطلاقا من هذا النجاح في الاستقرار استطاعوا العمل لوطنهم فلسطين وتقديم صورة مشرقة عنه لمجتمعاتهم الجديدة وهذه النماذج الفلسطينية تستحق لاحقا تسليط الضوء عليها لأنها تضيف للسردية الفلسطينية في الوطن والمنافي .