يحاجج البعض في مفهوم الصالح العام أو المصلحة العامة، ومَنْ هو أو هي الجهة التي تحدد المصلحة العامة؛ فمفهوم الصالح العام من المفاهيم التي يُختلف عليها في أي حال من الأحوال وهي مثار نزاع أزلي. لكن تحديد الصالح العام في إطار مكافحة الفساد السياسي ينطلق من الغايات أو النتائج المتوخاة أنْ يخدمها من تُوكل إليهم السلطة وهي بشكل عام حماية حقوق الإنسان، والحريات العامة، واحترام احتياجات الأقليات، وتحقيق العدالة، ووجود مؤسسات فعّالة ومساءلة؛ من أجل القضاء على الفقر، والحد من أوجه عدم المساواة، وحماية البيئة، وإتاحة الفرص للاستفادة من الخدمات الأساسية. وهي بذلك مؤشرات دالة يتم الاهتداء بها في فحص الفساد السياسي وتشخيصه.
إنَّ أحد أهم محددات الصالح العام أو المصلحة العامة ينطلق من مسألة "المعقولية" أي ما ينسجم مع مبادئ حقوق الإنسان ومقاصد العدالة وغاياتها ويحظى بالرضا العام، ويعد مقبولاً لدى المواطنين أو منطقياً والعكس بالضرورة يتناقض مع المعقولية "عدم المعقولية" فعلى السبيل المثال هل يعقل القبول عقلياً بأنْ يتولى شخص منصباً عاماً مَبنيّ بالأساس على الأمانة ثبت بأنه حوكم بخيانة الأمانة أو تهرب عن تأدية الواجب الضريبي مثلاً، أو تولي شخص مسؤولية عامة يُحتمل أنْ تشوب قراراته في إدارة الدولة تضارب مصالح للحفاظ على مصلحته الشخصية.
لا يقف الجدل هنا بتحديد المؤشرات الدالة على الفساد السياسي من منطلق المصلحة العامة بل أنَّ جدلية المفهوم تتعمق في النظر إلى أو الربط بمفهومي الشرعية والمشروعية؛ فالشرعيّة تعني الوصول إِلَى السلطة برضاء أغلبية أفراد الشعب؛ لتَحقيق العدالة من خلال احترام القواعد بشكل عام سواء في ذلك القواعد القانونية أم غيرها ِمنْ القواعد، كتلك التي يستقل العقل البشري في الكشف عنها أو الحكم بحُسنها، وعلى المشرع أو المسؤولين الذين يتولون اتخاذ القرارات لإدارة الشأن والمال العام السعي لتحقيق هذا النحو من العدالة فيما يُصدروه من سياسات وتشريعات وقرارات وإجراءات، أي بمعنى آخر الحوز على رضا المواطنين في أفعالهم وأعمالهم وسلوكهم، فيما المشروعية التي تَعْني توافق القاعدة القانونية الأدنى للقاعدة الأعلى، ووجوب كون الأعمال الصادرة عن الإدارة أو المسؤولين مستندةً إلى القانون وغير مخالفة له.
قد يحظى الفعل أو الإجراء بالمشروعية إلا أنّه قد لا يكون شرعياً؛ فعلى سبيل المثال أصدر المجلس الشريعي في العام 2004 قانون مكافآت ورواتب الوزراء وأعضاء المجلس التشريعي والمحافظين، وهو ينسجم مع أحكام المادة 55 من القانون الأساسي المعدل التي تنص "يتقاضى عضو المجلس التشريعي مكافأة شهرية يحددها القانون" والمادة 81 "تُحدد بقانون مخصصات رئيس الوزراء والوزراء ومن في حكمهم" أيّ أنَّ المشرع الدستوري منحَ المشرع العادي سلطة تقديرية لتحديد حجم المكافأة أو الراتب لكن المشرع العادي توسع بإعطاء راتباً تقاعدياً مخالفاً (20% من الراتب للوزير و12.5% للنائب و10% للمحافظ عن كل سنة قضاها في منصبه مقارنة بـ 2% للموظف العام) لمبدأ العدالة الذي ينطبق على مجتمع مُقدمي الخدمة العامة أو العاملين، سواء كانوا منتخبين أو معينين، لخدمة الصالح العام.
عملياً يحظى منح مَنْ بدرجة وزير مخصصات الوزير وامتيازاته وتخصيص راتباً تقاعدياً لبعضهم وللوزراء وأعضاء المجلس التشريعي والمحافظين بالمشروعية؛ حيث جاءت القوانين الناظمة لها دون مخالفة لأحكام القانون الأساسي الذي منح المجلس التشريعي، وكذلك الرئيس، سلطة تقديرية لإصدار هذه التشريعات، إلا أنَّها تتنافى مع مبدأ الشرعية القائم على رضا المواطنين من جهة، وتحقيق العدالة ومقاصدها من جهة ثانية، ويتجاوز "المعقولية" الصورة العقلية المقبولة لتقبل التشريع أو الحكم بحُسنها من جهة ثانية، وحمّل خزينة الدولة أعباء مالية لتدفعها الأجيال القادمة جهة رابعة. تكثر الأمثلة على هذا الأمر باستخدام المسؤولين السلطة التقديرية الممنوحة لهم تعزيز مكانة وولاء المنتفعين من مثل هكذا امتيازات وبخاصة التعيينات في مراكز المسؤولية أو العليا مثل منح امتيازات إضافية للوزراء بالإضافة على الراتب الشهري، والتعديلين اللذين تم اصدارهما وإلغاءهما عام 2020 وهما تعديل قانون الخدمة المدنية لصالح تمديد سنوات العمر الوظيفي لمن هم في بدرجة وزير وتعديل قانون التقاعد العام منح من بدرجة وزير تقاعد الوزير... الخ.
عادةً الفساد السياسي ينشأ ويتفشى في بيئة النظم الشمولية والدكتاتورية التي تنعدم فيها (1) الانتخابات النزيهة والحرة، و(2) يختل فيها إعمال مبدأ فصل السلطات القائم عل الاختصاص الوظيفي والفصل الهيكلي والمبني على قاعدة أنَّ السلطة تحد السلطة بتوفر كوابح تحد من التعدي على السلطة الأخرى أي منع تحكم أياً منها لوحدها بكامل سلطة اتخاذ "القرار"، و(3) إضعاف مؤسسات الرقابة الرسمية، و(4) التحكم بمؤسسات انفاذ القانون؛ بتولي شخص أو جهة أو سلطة واحدة السيطرة على بقية السلطات أو التغول عليها. وهو "الفساد السياسي" كبقية الظواهر الاجتماعية لا يمكن الجزم أو أخذ الأمر على إطلاقه بأنه لا ينشأ في النظم الديمقراطية وأنه حكر على النظم الشمولية، إنما يكون نطاقه ودرجة انتشاره وميكانيزمات الحد منه قائمة وفعّالة مقارنة بالنظم الشمولية.
في ظل هذه البيئة، تسعى الجهة الهيمنة على الإدارة "السلطة السياسية" بالإبقاء على اختطافها للدولة ومقدراتها (ثرواتها ومواردها) على حساب المصلحة العامة من خلال استخدام سلطتها الممنوحة لها بحكم الموقع الوظيفي إلى إصدار سياسات أو تشريعات أو قرارات أو إجراءات تعزز من مكانتها سواء بمنح الموالين المقربين أو أعضاء الطبقية الاجتماعية الحامية للسلطة السياسية المهيمنة، شخصٍ أو فئة أو مجموعة أو حزب "فصيل سياسي" أو طائفة، امتيازات مادية أو معنوية، أو توفير الحماية لبعضهم من الملاحقة القانونية بهدف الإفلات من العقاب. أي بمعنى آخر فساد أعضاء النخب السياسية الحاكمة أيًّا كان موقعهم أو انتماءاتهم السياسية، حين يقوم هؤلاء بالتواطؤ باستغلال مواقع النفوذ السياسي لتوجيه القرارات والسياسات والتشريعات؛ لتحقيق مصالح خاصة بهذه الطبقة، أو أحد أطرافها أو الموالين لها.