حتى وإن تم تعليقٌ مؤقتٌ على ما تطلق عليها حكومة الاحتلال "إصلاحات قضائية"، إلا أن نذير الانقسام لا يزال حاضراً، ومن الصعب تجاوزه، في ظل التطورات البنيوية التدريجية المتلاحقة التي لحقت بالمجتمع الإسرائيلي على مدار العقود الثلاثة الماضية. ولعل اتفاق أوسلو الذي جاء العام ١٩٩٣ قد نجح بالفعل بخلق واقع احتلالي متطور على الفلسطينيين، مقارنة بما بدأ منذ العام ١٩٦٧، بمقاربة لم تتغير معطياتها منذ توقيع الاتفاق (أوسلو)، تخضعهم لسيطرة فعلية للاحتلال، في ظل وجود حكم ذاتي شكلي مريح، إلا أن ذلك الاتفاق أضر أيضاً بالاحتلال، وإن كان دون قصد. ففجر أوسلو عبر السنوات الماضية التناقض الذي بني عليه هذا الكيان، ما بين الفكرة السياسية الصهيونية التي جاءت من رحم العلمانية الغربية وما بين الاعتبارات الدينية اليهودية التي استخدمتها الصهيونية للترويج للوجود والسيطرة اليهودية في فلسطين.
هذه الإصلاحات القضائية التي جاءت بها حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، تظهر بوضوح التناقض الموجود أصلاً في قوانين أساس هذا الكيان، والتي تعمل مكان الدستور، عندما تنص على أنها "دولة ديمقراطية يهودية"، فالدول إما ديمقراطية لا تميز بدين أو عرق أو لون بين مواطنيها، وإما دول غير ديمقراطية أو استعمارية تعمل لصالح حزب أو مجموعة دينية أو عرقية أو ملونة. وعملت الحكومات الإسرائيلية على مدار سنوات عمرها القصيرة، لضمان بقاء التوجه العلماني الغربي، والذي تدعي أنه يعكس الديمقراطية، ببناء مؤسسات تقوم على سيادة طبقة متعلمة علمانية جلها من اليهود الغربيين، والذين يشكلون معظم الطبقة العليا والمتوسطة المتعلمة في هذا المجتمع. في المقابل جرى الاستثمار بالتيارات الدينية خارج مؤسسات الحكم، لأداء الدور الديني المطلوب منها في دعم الشرعية الدينية لوجود هذا الكيان. من الصعب اعتبار هذا الكيان ديمقراطيا بأي حال من الأحوال وهو يحتضن أكثر من ٥٠ تشريعا يميز فيه بين الفلسطيني واليهودي في ذات المكان.
بعد أوسلو، وتصاعد الاستيطان وأعداد المستوطنين في الأراضي المحتلة العام ١٩٦٧، وضم المستوطنين قانونياً لإسرائيل، في تمييز عنصري ظاهر، بالتعامل بنوعين من القوانين، مدنية للمستوطنين اليهود وعسكرية للفلسطينيين، بدأت المعادلات التي بنتها الحكومات الإسرائيلية في السابق تتغير. فبدأت مكانة وتأثير اليمين المتدين واليمين المتطرف بالظهور، وجميعهم رفض الاتفاقيات السلمية والتفاوض مع الفلسطينيين، إما لاعتبارات دينية أو لاعتبارات عنصرية. وانعكس ذلك بداية باغتيال رئيس الوزراء الذي وقع الاتفاق، ثم باحتفاظ حزب الليكود اليميني، بزعامة بنيامين نتنياهو، بمنصب رئيس الوزراء، معظم دورات الحكم التالية، وأخيراً بصعود مكانة الأحزاب اليمينية الدينية والمتطرفة، للدرجة التي استطاع معها نتنياهو تشكيل حكومته الائتلافية الجديدة، دون وجود أحزاب بتوجهات أخرى.
وكان من الطبيعي بعد وصول اليمينيين المتدنيين والمتطرفين لسدة الحكم، العمل على تغيير منظومة الحكم العلمانية الغربية، بما يضمن بقاءهم وسيطرتهم المستقبلية ضمن تلك المنظومة التي تجاوزتهم في الماضي. فالتعديلات القضائية التي تطرحها الحكومة الحالية تسعى بوضوح لسيطرة البرلمان على المحكمة العليا، وذلك لأهمية المحكمة ودورها في حفظ التوازن الذي وضع منذ عقود. فركزت التعديلات على التحكم بتعيين قضاة المحكمة العليا، والتي من المعروف أن معظمهم عادة ما يكونون من العلمانيين، وكذلك بالتحكم في قراراتها، وذلك بإعطاء البرلمان مكانة أعلى منها، وقدرة على إبطال قراراتها التي لا تتوافق مع توجهات البرلمان، ما يجعل المعادلة مقلوبة. وحتى وإن نجحت الاحتجاجات اليوم في تأجيل تنفيذ مثل هذه الإصلاحات، إلا أن تصاعد مكانة اليمينين المتدنيين والمتطرفين في الشارع الإسرائيلي والمؤهلة للنمو، حيث إن ٦٣ ٪ من الاسرائيليين اليوم يعتبرون أنفسهم يمينيين، ووصولهم لسدة الحكم، يجعل إمكانية تحقيق مخططاتهم أقرب للتحقق، في ظل عدم إمكانية إعادة عقارب الساعة للوراء، وتخليهم عن المكانة السياسية التي وصلوا إليها اليوم، وإن تعطل تنفيذ تلك الإصلاحات الآن.
في الختام، لم يهتم الفلسطينيون في أراضي الـ ٤٨ بأن يكونوا جزءاً من الاحتجاجات الأخيرة ضد الحكومة وإصلاحاتها القضائية، لأنها ببساطة لا تتعلق بهم. فجميع تلك الأطياف اليهودية يمينية دينية كانت أم علمانية تتفق ضد الفلسطينيين، سواء في أراضي الـ ٤٨ أو في أراضي الـ ٦٧. فالعلمانيون لا يحاربون فكرة يهودية الدولة، طالما كانت تميز بين اليهودي والفلسطيني، والدليل على ذلك أن جميع تلك التشريعات التي تميز لصالح اليهود، جاءت في ظل برلمانات وحكومات تسيطر عليها أو تتحكم في قراراتها أحزاب علمانية. كما أن المقاربة السياسية تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة العام ١٩٦٧، التي تقوم على أساس سيطرة الاحتلال واستمرار التوسع الاستيطاني وزيادة أعداد المستوطنين فيها في ظل استمرار حكم ذاتي مقيد وضعيف للفلسطينيين، قد جاءت بمبادرة من حكومات حزب العمل، واستمرت وتطورت طوال السنوات الماضية، في ظل حكومات غير دينية. فمعظم اليهود في إسرائيل سواء كانوا علمانيين أو متدينين يؤمنون بفكرة استمرار التمييز ضد الفلسطينيين في أراضي الـ ٤٨ والاحتلال في أراضي الـ٦٧، إلا أن العلمانيين ينتهجون طريق إدارة الصراع عبر الدبلوماسية والمراوغة والوصول التدريجي للهدف، بينما يميل اليمينيون المتدينون والمتطرفون لتحقيق ذلك الهدف بشكل أسرع لحسم الصراع، دون وضع اعتبار للدبلوماسية والاعتبارات الدولية.
ورغم تأزم العلاقة بين حكومة نتنياهو والإدارة الأميركية، وهي مرحلة مرت بها حكومة نتنياهو وإدارة الرئيس أوباما من قبل، إلا أن علاقة الولايات المتحدة بالكيان المحتل علاقة بنيوية، مبنية على تحقيق مصالح الولايات المتحدة في المنطقة كلها، تماماً كما هي مصلحة لهذا الكيان بالتحصن بحماية الولايات المتحدة في ظل معطيات وجودها في المنطقة، وهي معادلة ليس من السهل تغييرها ضمن الاعتبارات القائمة حالياً.