استشهد الأسير الشيخ المجاهد خضر عدنان يوم 2/5/2023 خلال إضرابه المفتوح عن الطعام على مدار 86 يوماً ضد اعتقاله التعسفي على يد دولة الاحتلال الصهيوني، وكانت أياماً قاسيات قاتلات، تحولت الزنزانة الانفرادية الضيقة التي استشهد فيها إلى قبر وبيت عزاء، وحيداً مع قطرات الماء القليلة وحبات الملح والأمنيات الجائعات، توجع الموت عدة مرات، طار الموت ثم عاد يحمل كفناً سماوياً وتباطأ كثيراً لعل الحياة الحرة تجترح وقتاً آخر ليحيا الشيخ خضر وينسحب السجان والحديد والقاتل والنسيان.
لأول مرة يبكي الموت، يجلس أمام الشيخ يكتب الوصية على مهل، مسح دمه وبلل شفتيه وأيقظه من الغيبوبة المتكررة، وقال له سأنتظر قليلاً لعل وفد الصليب الأحمر الدولي يصل الآن، لعل هيئة الأمم المتحدة تتحرك وتستيقظ لتنقذ إنساناً يدافع عن العدالة الإنسانية، لعل هناك من سيأتي ليوفر الحماية والأمان ويخرج الشيخ خضر من شرك الأساطير والمكائد الصهيونية المنصوبة حوله بإحكام، استعان الموت بكل الممكنات المتوفرة، لكن الظلام كثيف كثيف، شهقات تعلو وتهبط، صمت بارد في الجسد والجدار، العالم صار أخرس حتى اختنقت الدموع تحت سطح الكلمات.
انتصر الشيخ خضر عدنان في حياته وفي مماته، الموت هو الحياة في فلسطين، لا مساومة على الحرية والكرامة، لا مفاوضات حتى لو اقتلعوا جسدك من المكان، تحول خضر إلى شعب في فرد وفدائي في كتيبة، ما هذا القديس الذي تحرسه الإرادات العنيدة وآيات الرحمن؟
أصيب الموت بالحيرة عندما شاهد الملائكة والغيوم والطيور تحمل الشيخ خضر إلى السماوات السبع، استنفر السجانون وخلعت الأبواب وأعلنت حالة الطوارئ في كل أرجاء دولة الاحتلال، انتصر الشيخ خضر ولم ينتصر بن غفير والصهيونية الدينية الفاشية، شهيد يعلن يوم القيامة والنفير في الضلوع وفي الصخور وفي الوجدان، تستقبله الملائكة والأنبياء والأئمة والفدائيون والكتب المقدسة، تستقبله القدس وجنين ونابلس وغزة والأناشيد وأرض القصيدة.
الدولة الصهيونية قتلت الشيخ خضر عدنان عمداً، تحالفت عليه كل قواها الشريرة، الجلادون وجهاز المخابرات والحكومة، اجتمعوا وجندوا كل وسائل القمع والموت، قالوا هذا الفلسطيني يرفض السجن والذل والعبودية، هذا الفلسطيني يرفض تشريعاتنا وقوانيننا العنصرية، هذا الفلسطيني يتمرد ويرفض التعاطي مع محاكمنا العسكرية التمييزية، هذا الفلسطيني يهز أركان سجوننا ودولتنا ويحيّد سلاحنا الأقوى في العالم ويخترق ترسانتنا النووية، هذا الفلسطيني يهز كياننا بالسلاسل التي تقيد قدميه ويديه، هذا الفلسطيني يملك نبوءة تبشر بزوالنا عن هذه الأرض غرقاً في الخطيئة والفساد والإجرام وعميقاً عميقاً في الانحدار إلى الأبارتهايد والهاوية.
الدولة الصهيونية قتلت الشيخ خضر عدنان عن سبق إصرار، إعدام وتصفية، دولة تخاف من هذه المدرسة، مدرسة العائدين إلى كلامهم الأول وسطوع الشمس في المعنى واللغة، مدرسة الغائبين الحاضرين المدافعين عن حضورهم أرضاً وسماءً وتاريخاً وهوية، مدرسة الأجيال التي تبحث في الدرس وفي الحجر عن حياتها القادمة.
قتلوا الشيخ خضر عدنان كأنهم يريدون أن يقتلوا كل بطل ورمز وضحية فينا، أرادوا قتل كل انتفاضة وهبّة ومظاهرة، فالشيخ خضر حاصر المحتلين في السجن وفي كل أرجاء المعمورة، صار رسالة إنسانية كونية، صوت الشعب الفلسطيني الذي وصل إلى كل المنابر والمؤسسات العالمية، صوت آلاف الأسرى الرازحين في سنوات المؤبدات الثقيلات، المرضى والمعاقين والمصابين بأمراض مزمنة، صوت الزمن البطيء في الزنازين والأقبية المظلمة، صوت شعب يسعى ويتعطش ويموت من أجل العدالة والسلام والحرية.
الدولة الصهيونية قتلت الشيخ خضر عدنان بدم بارد، أدركوا أن الشيخ تحول إلى رواية تشتبك وتدحض خرافاتهم الوهمية، أسير يؤسس وعياً مختلفاً ويجسد ثقافة المقاومة، يرفض الخنوع والهزيمة، يملك من الأسحلة ما لا يملكون، الجوع والصبر والأمل والصلاة، يؤذن في المسجد ويقرع أجراس الكنيسة، يتواجد في كل مكان، في الشارع والبيت والمسيرة والمظاهرة.
اقتنع الموت الجالس في الزنزانة أن هذا الميت لا زال حياً، ها هو يكتب الوصية:
"بسم الله الرحمن الرحيم: (إن الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، وحق علينا نصر المؤمنين). الحمد لله رب العالمين أن وفقني للإضراب عن الطعام للحرية، أبعث لكم بكلماتي وقد ذاب شحمي وعظمي ونخر عظامي وضعفت قواي من سجني في الرملة الحبيبة الفلسطينية الأصيلة، لا تيأسوا فمهما فعل المحتلون وتطاولوا في احتلالهم وظلمهم وغيهم فنصر الله قريب.."
اقتنع الموت أن هناك قوة خارقة في هذا الإنسان المصلوب على خشبة الموت، قوة المدن الفلسطينية العريقة، قوة البحر والرياح وأشجار الزيتون المغروسة في الأرض العميقة، قوة الفكر والإرادة التي لم يطوعها القيد والسياج، قوة الأسير الفلسطيني الذي يبدع الحرية جمالاً وحباً وأملاً وحياة طليقة.
استشهد الأسير خضر عدنان، نزل عن الصليب حراً، ضوء غامر ينتشله إلى الفضاء، لم يمت ولم يفنى كما ظن المجرمون وأطباء السجون، رأوه يطير قريباً من القدس يملي على الحاضر والمستقبل لون الفجر عندما يتخضب بالصمود والدماء والكبرياء.
وصدق الله العظيم عندما قال: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم).