الديمقراطية مفهوم مركب تنتظم فيه كينونة من الممارسات والعلاقات والمبادئ الحرة, التي يمكن أن تؤصل في الإنسان قيم العدالة، والمساواة , وحرية التفكير، وقيم النقد، والحوار،واحترام الآخر ، فهي منظومة القيم الإنسانية التي تقوم على مبدأ الحرية ، سعياً إلى تحقيق الذات الإنسانية بكل ما تنطوي عليه ، ومن هنا فان الإنسان اليوم لم يعد مجرد فرد في رعية، بل هو مواطن صالح يتحدد كيانه بجملة من الحقوق الواسعة والمهمة التي ترتكز عليه ليحصل عليهاكاملة ومن اهمها حقه في التعليم , والحق في المساواة فيتكافؤ الفرص التعليمية.
فالديمقراطية ضمن هذا الإطار التعليمي تتخذ وسائل ووسائط متعددة، لتصل إلى عقول وقلوب وممارسات الأفراد والجماعات لتصرف بحرية لكسب المنافع المرجوة منها ، ولتصقل شخصياتهم وتجذر ممارساتهم الديمقراطية من خلال التعليم ، لذلك يجدر الاشارة بان الديمقراطية ارتبطت بالتربية والتعليم ارتباطا وثيقا ، باعتبار أن التربية والتعليم هما الأقدر والأجدر على نقل محتوياتها وممارستها إلى أبناء مجتمعاتها , وأساس ذلك أن الديمقراطية هي أسلوب حياة يقوم على مبادئ مهمة للإنسان منها الحرية والإخاء والعدل والمساواة، فهذه مبادئ تنمو تلقائيا في اتجاه ايجابي إذا ما أتيحت لها فرص النمو في اتجاه صحيح من خلال مؤسسات التربية المختلفة، لأن التربية تجرد الأفراد من قيود الجهل وتعرفهم بقدراتهم وإمكاناتهم، وتشجعهم على التمسك بحقوقهم والقيام بواجباتهم، وتساعدهم على أن يكونوا مواطنين على درجة عالية من الوعي والثقافة, بما يمكنهم من المشاركة الفعالة في تقدم مجتمعاتهم، وتلك المبادئ والقيم لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق التربية بمؤسساتها المختلفة.
ومن خلال ما سبق لا يسعنا الا ان نسلط الضوء علىالعلاقة الوطيدة بين الديمقراطية والتربية لتكون المحور الذي نرتكز عليه , فهي علاقة جدلية تبادلية تتوقف كل منهما على الأخرى وتتأثر به ، وفبما أن الديمقراطية الصحيحة لاتتفتح إلا في مجتمع متعلم، فإن التربية أيضا لا تتم ولا تتطور ولا تتوسع فرصها و التكافؤ في التعليم من خلالها إلا في جو ديمقراطي، ولا يمكن أن يتحقق هذا الجو في ميدان التربية والتعليم إلا في سياق ديمقراطية الحياة الاجتماعية ، لذلك لا بد من أن ترتبط الديمقراطية بكافة مجالات الحياة عامة , وارتباطها بمجال التعليم والتربيةخاصة ليكون أعم وأشمل وأدق حتى تتحقق هذه الديمقراطية , لأنه لا يمكن أن تتحقق في أي مجتمع من المجتمعات إلا إذا ساد فيه التعليم، وعمّت فرصهُ بين جميع أفراده، وتأكد حق التعليم للجميع، فكلما اتسع التعليم في مجتمع من المجتمعات زاد تمسكه بالحرية والديمقراطية.
ولما تخوضه العملية التربوية من تحديات حالية ومشاكل واقعية في الوقت الحالي فإننا نؤكد على ان التربية الديمقراطية تتضمن المدارس والمؤسسات التعليمية التي تعد بؤرة لها , التي تحتاج الى تكافؤ الفرص التي تقوم على توفير التحاق الأفراد بالمؤسسات التربوية والتعليمية المختلفة بلا تمييز بين الأفراد على أساس اجتماعي أو عرقي أو ديني من ناحية ، ومن ناحية أخرى يتضمن الممارسة الديمقراطية في الوسط المدرسي والتعليمي , الذي يعد منظومة التفاعل التربوي القائمة على نسق العلاقات بين المعلمين والطلبة, وبين الطلبة والطلبة , وبين المعلمين والإدارة التعليمية ، وخلق الوعي الديمقراطي الذي يتضمن فيمنظومة القيم التي تتأصل في وعي الطلبة وثقافتهم، من اجل غرس قيم التسامح، والحرية، وقبول الآخر، ونبذ التعصب، ورفض التمييز، واحترام حقوق الاخر، لتخلق جو مدرسي تفاعلي صحي خلاق .
ومن هنا سوف نلقي الضوء على ما شهده التربويون بأثر جون ديوي العظيم على فلسفة التربية والديمقراطية ونظمها ، وكيف يرونه أساس كل إصلاح حققته التربية في هذا المجال لان آراءه كانت جامعة للإرشادات الغنية بالمعاني العميقة في هذا الخصوص, فعرِف جون ديوي الديمقراطية التربوية بأنها طريقة شخصية للحياة، وهي بالتالي ليست مجرد شيء خارجي يحيط بنا ,فهي جملة من الاتجاهات والمواقف التي تشكل السمات الشخصية للفرد ,والتي تحدد ميوله وأهدافه في مجال علاقاته , ويترتب على هذا التصور ضرورة المشاركة في إبداء الرأي وصنع القرار، ولو اسقطنا مضامين الديمقراطية لديوي على الحياة المدرسية والتعليميةلكانت جزء لا يتجزأ من تنظيم الحياة , وتأكيد قيمة الفرد وكرامته، وتجسيد شخصية الإنسانية، التي تقوم على أساس مشاركة أعضاء الهيئة التربوية في كافة إدارة شؤونها بشكل ديمقراطي, وبهذا التخلص تلقائيا من الشعور السلبي بعدم المساواة لكل عضو من أعضاء العملية التربوية , وهذا ما اكد عليه ديوي في نظرته المتعمقة للفكر التربوي , وتركيزه على كيفية تعمق المجتمع بما فيه مؤسساته التعليمية ,على النقد البنَّاء والحوار السليم من أجل بناء مجتمع متقدم واعٍ يساهم في الحداثة, بما لديه من طاقات منتجة واختراعات ومكتشفات ومستجدات نظرية وتقنية وعلمية ومعلوماتية، وتحقيق الأهداف السامية كالحرية والمبادرة الفردية وسيادة النقاش الهادف , فالوصول إلى هذا المجتمع الذي تم ذكره لا يتم بسهولة كما قد يتصور البعض بل يحتاج إلى عمل جاد ومنظم يستهدف الأفراد وتربيتهم على مفاهيم جديدة، وإنشاء التطور الذي حدث في أساليب الحياة منذ بسط العلم سلطانه .
ومن جانب اخر نجح ديوي أيضا في هجومه على فلسفة التعليم النمطية التقليدية وهذا شكل من اشكال الديمقراطية في ممارسة الحرية , فوجهت كتاباته دعوة قوية حطمت سيادة الأسلوب التقليدي الذي ساد التاريخ الإنساني لفترات طويلة , ليؤكد على دور كل من الأسرة والمدرسة والمجتمع ,في تنمية المتعلم ليعيش حراً مفكراً منتجاً , فالتربية عند ديوي هي الحياة في حاضرها أولاً ثم تهتم بمستقبلها , فهو ساهم في دفع عجلة التعليم إلى مسار مغاير له حيث نادى بأهمية الخبرة في التعليم, وانتقد أسلوب التلقين وأنكر الاعتماد الكلي على الكتاب المدرسي والمعلم , وكما شن هجومه على النظام التعليمي الصارم المبني على الطاعة التامة للوائح الإدارية الجامدة , وتوجه إلى جعل المدرسة بيئة ثرية بالخبرات حافلة بحركة المتعلمين ,من أجل تكوين عقلية علمية راشدة تستطيع حل المشكلات بأسلوب منهجي, و من القواعد التي جاهد ديوي من أجل ترسيخها أن الطفل شمس التربية ونقطة ارتكازية في العملية التعليمية , وأنَّه لن يتعلم بشكل أمثل إلا من خلال الخبرات الحياتية وسائر المهارات العقلية والاجتماعية , فهو شدد على أهمية ربط المدرسة بالمجتمع ونادى بالحياة الديمقراطية وحصر التربية بالمنفعة والمصلحة, وأن التعليم يجب أن يخدم الأغراض العلمية والأهداف الواقعية التي تنفع الفرد الحر والمجتمع الديمقراطي.
فمن الواضح مما سبق أن اراء ديوي تحمل في طياتها نقداً لاذعاً للتربية التقليدية السائدة التي تعتمد على حفظ المعلومات عن ظهر قلب، وإعداد المتعلم للمستقبل مع تجاهل الحاضر وتهميش المرحلة التي يعيشها , وكانت القاعدة هي أن المعلم هو أساس العملية التربوية , فجاء ديوي ليقلب الموازين وينقل الفكر التربوي نقلة نوعية باتجاه المتعلم واحتياجاته, وبذلك تكون المدرسة عند ديوي بيئة ديمقراطية تسعى لإيجاد المواطن الديمقراطي ولذلك فان المعلم موجود فيها كعضو في جماعة ليساعد تلاميذه في اختيار الخبرات المثيرة لدوافعهم , وإطلاق طاقاتهم وظهور قدراتهم وتنظيم استجاباتهم لتلك المثيرات والمؤثرات، وليس لفرض سلطته وآرائه عليهم أو لجعلهم يعتادون عادات معينة يريدها, ويرى ديوي أن المعلم بما له من خبرة أوسع ومعرفة أكبر وحكمة أنضج، يمكنه مساعدة الذين يقوم بتعليمهم في كيفية فهم الحياة الاجتماعية من حولهم، والاستفادة من المعرفة والخبرات التي يحصلون عليها في تطوير أنفسهم وحل مشكلاتهم وتقدم مجتمعاتهم , ليساهموا في بناء المجتمع وتطوره , وكما أكد أيضا على مراعاة الفروق الفردية في التدريس ووضع المنهج الدراسي الذي يناسبهم , لذلك ركز ديوي على أهمية جعل الطالب مركز العملية التربوية بجعل الطرق والمناهج تدور حوله بدلاً من جعله يدور حول مناهج وطرق وضعت في عزلة عنه, و كما ذهب ايضا إلى أن محتويات المنهج ليست مهمة بقدر أهمية الطريقة التي يعالج بها المعلم هذه المحتويات، ومن ثم دعا المدرس إلى عدم التقيد بطريقة من الطرق، بل يختار الطريقة المناسبة التي تلائم درسه، ومستوى تلاميذه, وظروفهم النفسية , وكما أكدعلى مبدأ ضرورة مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب وضرورة مراعاة ميولهم ودوافعهم الطبيعية وحسن استثمارها في العملية التربوية، وواجب المدرس تنظيم وتوجيه هذه الميول والدوافع وفق خطة مرسومة لتحقيق أهداف تربوية مرغوب فيها.
فإذا أردنا أن نوجز فلسفة وعقيدة ديوي التربوية للاستفادة منها, فإن التعليم الأمثل عنده هو الذي يغرس مهارات ولا يكدس معلومات، وهو الذي يلامس متطلبات الواقع، ولا ينغمس في تقديس الماضي, وهذه الرؤية الفلسفية السابقةالتي يجب الاستفادة منها في مدارسنا فهي نقلة نوعية لما يترتب عليها جملة من التطبيقات التربوية العملية التي يمكن الاستفادة منها من افكاره , لتقوم التربية على مبدأ تفاعل المتعلم مع البيئة المحيطة به والمجتمع الذي يعيش فيه,ولذلك فإنه يحتاج إلى تنمية مهاراته الفكرية والعملية دائماً ليقوم بحل المشكلات بشكل راشد وأسس علمية, واستناداً لهذه الرؤية , فإن العلوم النظرية المطبقة في كثير من المدارس وتشعيباتها الكثيرة ليست ذات أهمية في المنهاج التعليمي طالما أنها لا تخدم المتعلم في تصريف شؤون حياته, لذلك يجب الاستفادة لما قام به ديوي بتحويل عملية تهذيب الإنسان من العناية بالمُثل العقلية المجردة إلى الاهتمام بالنتائج المادية الملموسة, ففي ظل هذه الفلسفة التي عُرفت باسم البراغماتية والوظيفية عنده فإن البحث العلمي لحل المشكلات الواقعية أهم أداة في الحياة لمعرفة الحقائق ولتربية الفرد ولتكوين المجتمع الديمقراطي .
ولأهمية ما ذكرناه ينبغي للنظم التعليمية العربية أن لا ترفض الاطلاع على فكر وتجارب الآخرين في المجال التربوي مثل افكار جون ديوي , ولكن من الضروري جدا قبل هذا أن يستقر لديها أن التربية وليدة مجتمع بعينه , وأنه لا يمكن استعارة فكر تربوي لاقى نجاحاً في مجتمع ما لتطبيقه في المجتمعات العربية، فهذا الفكر نما في تربة وبيئة مغايرة لتربة الثقافة العربية الإسلامية، فعلينا أن نستفيد من هذه الفلسفة التربوية بعد تكييفها بما يتناسب مع البلاد العربية مادياً ومعنوياً وبما لا يتعارض مع ثوابتناالثقافية والدينية، مما يكفل تحقيق التطور والتقدم للأنظمة التعليمية العربية.