سمعت للمرة الأولى باسم الشهيد نعيم خضر، أول مدير لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في بلجيكا، في شهر أيلول من عام 1981، وذلك في معسكر صيفي "لمؤسسة الأشبال والفتوة" لحركة فتح، قي قرية عدرة، قرب العاصمة السورية دمشق، وكان قائد المؤسسة الراحل المناضل صلاح التعمري، والذي غادر عالمنا قبل فترة قليلة وهو بالمناسبة شخصية فريدة تستحق التوقف أمامها.
لم تكن مشاركتي في هذا المعسكر الصيفي الأولى من نوعها، فقد سبق أن شاركت قبل عامين في المعسكر نفسه قبل سنتين، أي في عام 1979، وفي دورة حملت اسم شهيد آخر وهو عز الدين القلق والذي كان مديرا لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في باريس والذي استشهد بدوره في شهر آب/أغسطس من عام 1978.
قدمت لي هذه الدورة، وأنا فتى في طور النضوج، فرصة عمقت إدراكي بالقضية الفلسطينية في جوانبها المتعددة وأتاحت لي مجالا واسعا للتعرف على العديد من أبناء شعبي القادمين من عدة دول عربية وأجنبية، وفي الدورتين اللتين حملتا اسمي الشهيدين عز الدين القلق ونعيم خضر، بدأت أدرك معنى أن تكون مديرا لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج، وأن هذه المهمة محفوفة بالمخاطر وليست مجرد عمل دبلوماسي تقليدي تلتقي فيه هذا المسؤول هنا أو تحضر حفل استقبال هناك.
كما عرفت بعد قرابة أربعين عاما حين أصبحت أعمل في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في بلجيكا والذي تحول اسمه إلى "بعثة فلسطين لدى الاتحاد الأوروبي، بلجيكا ولوكسمبورغ". وأصبح يحظى بصفة دبلوماسية قريبة إلى سفارة، من أرملة الشهيد خضر السيدة برناديت رينبو وهي بلجيكية، أن عز الدين وزوجها نعيم كانا ليس فقط رفيقي نضال قريبين جدا في الرؤية والوسائل، وإن كلا منهما يحمل روحه على كفه، بل كانا أيضا صديقين حميمين لهما الكثير من القصص والنوادر المشتركة ويحبان لعبة الشطرنج لساعات طويلة.
الدورتان جعلتاني أتعرف على شهيدين من شهداء العمل الدبلوماسي الفلسطيني في أوروبا الغربية في فترة سياسية صعبة من مسار منظمة التحرير الفلسطينية، والتي لم يكن لها الوضع الدبلوماسي الذي تحظى به اليوم، واللذين شكلا مع مجموعة من ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في أوروبا مثل محمود الهمشري في باريس، ووائل زعيتر في روما، وسعيد حمامي في لندن وغيرهم، ممن رحل أو بقي على قيد الحياة، مدرسة فريدة في العمل الدبلوماسي في أوروبا وفي ظل ظروف استثنائية صعبة، وكانت هذه الدبلوماسية المناضلة تستند إلى عمل نضالي دؤوب، محفوف بالمخاطر، وفي مقدمتها التصفية الجسدية، وإلى انتشار إعلامي وثقافي نشط في كل المنابر المتاحة في ظل سطوة شبه كاملة للنفوذ والرواية الإسرائيلية على مفاصل الحياة الثقافية والإعلامية في أوروبا.
لقد ارتبط تاريخ العمل الوطني الفلسطيني في بلجيكا باسم نعيم خضر وحتى يومنا هذا، فقد نجح في تقديم صورة عن فلسطين وثورتها بصورة مغايرة عن تلك التي كانت شائعة في بداية السبعينيات، وكثيرة هي الشهادات عن نعيم خضر والتي لا تزال حاضرة حتى اليوم، وهي شهادات تم خط البعض منها في كتب ومجلات باللغة الفرنسية، لعل آخرها صدور كتابين عنه عن إحدى دور النشر البلجيكية، الأول بعنوان "رسالة إلى أخي نعيم" للبروفيسور بشارة خضر شقيق الشهيد والثاني بعنوان "نعيم خضر: مات من أجل فكرة، تاريخ فلسطيني (1939_ 1981)" للصحفي البلجيكي الراحل روبير فيرديسن، وهو الطبعة الثانية للكتاب الذي صدر قبل سنوات عديدة .
سأختار هنا الحديث عن بعض جوانب حياة نعيم في بداية مسيرته في بلجيكا والتي استقيتها، قبل سنوات، من أرملته برناديت ومن شقيقه البروفيسور بشارة، وهذه الجوانب تساعد بتقديري المتواضع، في فهم شخصية نعيم ونجاحه بجذب قطاع واسع من النخبة والرأي العام البلجيكي لصالح القضية الفلسطينية.
ولد المناضل نعيم سليم خضر دعيبس في 30 كانون الأول عام 1939 في بلدة الزبابدة جنوب مدينة جنين، ودرس في مدرسة اللاتين في الزبابدة، والتحق بالمعهد الأكليريكي في بيت جالا ودرس الفرنسية والإيطالية والإنجليزية وتابع دروس الفلسفة واللاهوت لمدة خمس سنوات بين 1958-1963.
هذه الخلفية الدينية المسيحية المتمكنة كانت مدخلا لنعيم في الدخول بعمق للمجتمع البلجيكي والأوروبي والتأقلم معه والتأثير به ، وهو مجتمع حتى وإن أصبح محكوما بأنظمة سياسية علمانية، تفصل بين الدين والدولة، إلا أن الدين يبقى قيمة روحية وثقافية هامة ويظل للكنيسة نفوذها داخل المجتمع وفي أروقة الحكم.
وقد أرسى نعيم علاقات حوار عميق مع العديد من الشخصيات الدينية في بلجيكا ومنها سفير الكرسي الرسولي "الفاتيكان" في بروكسل، آنذاك، المونسنيور كاردينالي، وقد استطاع إيصال رسالة الحق الفلسطيني لأعلى المراجع الدينية الكاثوليكية، ولم يكن صدفة أن يحيي سفير الكرسي الرسولي القداس الذي تم لنعيم، لدى استشهاده في بروكسل بحضور قرابة عشرة من رجال الكهنة.
وثقافة نعيم الدينية كانت ملازمة لانفتاحه الواسع على الدين الإسلامي وثقافته كمكون رئيسي للهوية الوطنية الفلسطينية التي كان يعتز ويتمسك بها، ولم يكن صدفة أن يحمل نعيم في كل مكان يذهب له كتابي الإنجيل والقرآن وإلى جانبهما العلم الفلسطيني، وقد أحسن فعلا متحف ياسر عرفات في رام الله باختياره للرموز الثلاثة هذه ، أي الإنجيل والقرآن والعلم الفلسطيني، كمقتنيات خاصة بنعيم يقدمها بمعرض فني حمل اسم "اغتيال" عن الشهداء من مثقفي الثورة ـ والذي تم في عام 2018 واستعرض مسيرتهم النضالية وكان نعيم خضر من بين هذه القامات الوطنية الثقافية إلى جانب غسان كنفاني، ووائل زعيتر، ومحمود الهمشري، وكمال ناصر، وحنا ميخائيل، وهاني جوهرية، وعزالدين القلق، وسعيد حمامي، وماجد أبو شرار، وعبدالوهاب الكيالي، وعلي فودة، وعصام السرطاوي، وحنا مقبل وناجي العلي، وهو معرض يستحق فعلا أن يتم تنظيمه من جديد وعرضه خارج فلسطين أيضا.
لقد ساعد تفوق نعيم في الدراسة وإتقانه للغة الفرنسية إلى جانب الإنجليزية والإيطالية ـ بالإضافة إلى طبيعة شخصيته الهادئة المرهفة والمحبة لكل أشكال الثقافة ـ أن ينهل من اللغة والأدب الفرنسي وتحديدا الشعر والذي كان حفظ عن ظهر قلب العديد من القصائد لكبار الشعراء الفرنسيين، وقد مكنه ذلك من المشاركة في العديد من الفعاليات الثقافية التي كانت تتم في الجامعة، وفي إحدى المرات كانت هناك مسابقة شعرية حول الشعر الفرنسي، وكان نعيم أحد المشاركين فيها، وقد لفت نظر زميلته الطالبة برناديت قبل أن تكون رفيقة دربه، كما لفت نظر الطلاب المشاركين في المسابقة من أوروبيين وكنديين وأفارقة مغرمين بالثقافة واللغة الفرنسية ـ فكيف لهذا العربي الفلسطيني أن يتذوق الشعر الفرنسي وأن يتفوق حتى عليهم جميعا، كان حقيقة مثار تقدير وإعجاب الجميع.
أضف إلى ذلك أن نعيم بدماثة خلقه وروحه المرحة وبساطته استطاع أن يكون رئيس الكورال الغنائي لطلاب الجامعة والذي ضم طلابا من الجنسيات الأوروبية كافة، والأفريقية وأميركا اللاتينية، وهو ما أكسبه شعبية وحبا واحتراما في صفوف الطلاب البلجيكيين والأجانب، الأمر الذي سهل على نعيم الفوز بانتخابات ليس فقط اتحاد الطلاب العرب بل اتحاد الطلاب الأجانب.
هذه التجربة القيادية لنعيم في المجال الثقافي والطلابي سيسخرها في الترويج لقضية الشعب الفلسطيني ونضاله ومسعاه للحرية، وستفيده لاحقا في عمله كمسؤول في منظمة التحرير الفلسطينية في متابعة علاقات المنظمة مع دول عدم الانحياز والمشاركة بشكل فعال في مؤتمراتها بتكليف من الزعيم ياسر عرفات ورئيس الدائرة السياسية للمنظمة فاروق القدومي، بالإضافة إلى نسج أوثق العلاقات مع ممثلي حركات التحرر في بلجيكا وأوروبا لشعوب الجنوب.
في مطلع سنوات الستينيات من القرن الماضي وحتى مرحلة متقدمة من سنوات السبعينيات، كانت الجامعات الفرنسية والبلجيكية والأوروبية بشكل عام محل استقطاب للجان التضامن مع حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وتحديدا في فيتنام والجزائر، والتي تزامنت أيضا مع الثورة الطلابية الشهيرة في فرنسا في عام 1968، وكان الكفاح المسلح هو الشعار الرئيسي الذي ترفعه لجان التضامن هذه والتي جذبت نخبة من الكتاب والمثقفين والنقابات العمالية، وضمن هذه الأجواء النضالية الطلابية، كان من الطبيعي للطلاب الفلسطينيين أن يجدوا مكانهم المميز وهم ينتمون لثورة معاصرة أطلقت رصاصتها الأولى في الأول من يناير 1965 وحققت في آذار 1968 نصرا عسكريا ورمزيا هاما في معركة الكرامة في الأردن في وجه جيش الاحتلال الإسرائيلي، وكان نعيم في طليعة الطلاب الفلسطينيين الذين انتموا إلى الفصيل الرئيسي لهذه الثورة الفلسطينية الوليدة وهو حركة فتح والتي رفعت شعارا ينسجم تماما مع هذه الأجواء الثورية وهو " فتح ديمومة الثورة والعاصفة شعلة الكفاح المسلح".
وكان نعيم يؤمن بعمق بحركة فتح ومنطلقاتها وكان أول ممثل لها في بلجيكا منذ عام 1969، وذلك قبل أن يكون مديرا لمكتب منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1975، بل إنه تدرب في إحدى السنوات في معسكراتها في لبنان، وحمل السلاح، مع ذلك كان هذا المثقف الثوري المميز، يومن أن هناك سلاحا آخر لا يقل أهمية عن البندقية، عليه أن يرفعه وهو سلاح القانون الذي جاء إلى بلجيكا لدراسته، لأن القضية الفلسطينية، كما كان يراها نعيم هي أولا قضية قانون وحق وعدل لشعب تم ظلمه وسلب أرضه وحقه، لذلك توجه لدراسة القانون أولا في جامعة لوفان ثم جامعة بروكسل الحرة، حيث التقى هناك بأحد علماء القانون الدولي البروفيسور جاك سالمون والذي تتلمذ نعيم على يديه وأصبح لاحقا صديقه ويستفيد منه في صياغة الخطاب الفلسطيني بطريقة قانونيه منطقية، وهو ما أضاف إلى نعيم بعدا هاما جديدا في حواراته الرسمية وندواته ومداخلاته الإعلامية الناجحة كممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وفي الجامعة نفسها أي جامعة بروكسل الحرة تعرف نعيم والذي أصبح معروفا ويجذب الكثير من وسائل الإعلام والمثقفين على شخصية جامعية وفكرية هامة وهو البروفيسور مارسيل ليبمان، يهودي الديانة، ماركسي التوجه ومناهض تماما للاحتلال الإسرائيلي والفكر الصهيوني، وقد شكل نعيم مع هذه الشخصية المرموقة ، ثنائيا مميزا زاد من حضور نعيم في المشهد الإعلامي والثقافي والبلجيكي وجعله مؤثرا في مختلف الأوساط السياسية في بلجيكا والمؤسسات الأوروبية وساعدته في فتح الأبواب المغلقة أمام منظمة التحرير الفلسطينية.
كل هذه الجوانب جعلت من نعيم حضر عضواً بارزاً في لجنة الشؤون الخارجية للمجلس الوطني الفلسطيني، وعضواً في اتحاد المحامين الديمقراطيين في بلجيكا، وعضواً في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين وجعل منظمة التحرير الفلسطينية توكل له العديد من المهام منها:
المشاركة في الكثير من جلسات مجلس الأمن الدولي، والعديد من المحاضرات الدولية التي كانت تنظمها هيئة الأمم المتحدة، وكان من عادته أن يعود مع وفد فلسطين وقد حقق نجاحات مهمة للمنظمة كالاعتراف الرسمي بمنظمة التحرير كعضو مستقل ضمن المجموعة الآسيوية وفي مجموعة الـ 77 (مجموعة دول عدم الانحياز).
كما لعب دوراً بارزاً في تقدم الحوار الأوروبي العربي من خلال عمله ونشاطه في بروكسل، حيث نجح في إقامة علاقات مع اللجنة التي تقود مجموعة الدول الأوروبية، خاصة مع كلود شيسون وجاستون ثورن، إذ كان يلتقي بهما وبالعديد من الشخصيات الأوروبية في لوكسمبورغ وستراسبورغ وفي البرلمان الأوروبي.
اغتيل خضر صباح يوم الإثنين الموافق 1/6/1981 في شارع سكاربيه وهو يخرج من منزله متوجها لعمله في شارع روزفلت في العاصمة البلجيكية بروكسل.
ونقل جثمان الشهيد نعيم خضر إلى بيروت حيث كان في استقباله في مطار بيروت الرمز ياسر عرفات، الذي أطلق على خضر رسول فلسطين، وأقيم له مهرجان تأبيني، ومن ثم نقل إلى عمان حيث دفن فيها، لعدم موافقة سلطات الاحتلال على دفنه في مسقط رأسه في الزبابدة بناءً على وصيته.
ويحمل الشارع الذي كان يقطن به الشهيد اسمه اليوم وقد تم افتتاحه بشكل رسمي من قبل بلدية اكسيل، وهي إحدى بلديات بروكسل والمتوأمة مع بلدية الزبابدة في فلسطين مسقط رأس الشهيد.