يحتدم التجاذب اليوم حول الرؤى التي تتنبأ بمدى امكانية تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية ودولة الاحتلال الاسرائيلي. ويميل هذا المقال لإثبات حجة عدم امكانية حدوث ذلك التطبيع، على الأقل آنياً في عهد الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، وإن كان هناك جانب استراتيجي أكثر عمقاً ينظّر لعدم احتمال حدوث ذلك التطبيع على المدى الأبعد، الا في ظل شروط محددة. في الفترة الأخيرة، تصاعد الحديث حول الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات بين المملكة و"إسرائيل"، بل ساد شعور أميركي متفائل بإمكانية حدوث ذلك خلال الفترة القريبة القادمة، أي قبل موعد الانتخابات الأميركية في شهر تشرين الثاني من العام القادم. كما أعلن بنيامين نتنياهو، بعد تشكيل حكومته، أن تطبيع العلاقات مع المملكة سيكون واحداً من أهداف حكومته المركزية، وتتجاذب الرؤى في "إسرائيل" حول شروط حدوث ذلك، في ظل الواقع الاسرائيلي الحالي. لكن السؤال المهم هل يعكس ذلك الشعور الأميركي المتفائل، والرغبة الاسرائيلية المعلنة، واقعاً قابل للتحقق، أم هو مجرد أمنيات؟
في تصريح لوزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن في مؤتمر منظمة "إيباك" اعتبر إن حدوث هذا التطبيع يعد جزءاً من الأمن القومي الأميركي. ولا تعد مساعي الادارة الأميركية الحالية باتجاه ذلك التطبيع الأولى، فقد جاءت محاولة سابقة في شهر أيار من العام الماضي، مع حكومة بينيت- لبيد. وحققت تلك المحاولة بعض الانفتاح بين البلدين، ارتبط بفتح الأجواء السعودية للطيران المدني الاسرائيلي، الا أن ذلك اقترن أيضاً بتأكيد سعودي بأن ذلك الانفتاح لا تقع ضمن أي شواهد للتطبيع أو التمهيد له. وسبقت هذه المحاولة الأميركية أخرى في عهد ادارة دونالد ترامب، خلال عقده لصفقات اتفاقيات أبراهام في العام ٢٠٢٠، والتي أصرت فيها المملكة على حل للصراع العربي الاسرائيلي في إطار معاهدة السلام العربية، التي طرحتها المملكة عام ٢٠٠٢، والتي تشترط حل الصراع مع الفلسطينيين قبل التطبيع مع العرب.
رغم اشارة عدد من التقارير الاعلامية إلى وجود اتصالات تجارية وأمنية مباشرة بين السعودية و"إسرائيل"، الا أنه ليس هناك دلائل تؤكدها، بل إن قبول المملكة بالسماح للطيران الاسرائيلى بالمرور في سمائها، جاء في اطار تبعات تنازل مصر عن جزيرتي تيران وصنافير لها، واللتين تقعان ضمن الاعتبارات الأمنية لإتفاقية السلام بين مصر و"إسرائيل". وبمرور سريع على شروط المملكة اليوم، والتي جرى تداولها، لتحقيق التطبيع الذي تنشده اداره بايدن، فهي تتمحور حول: بناء مفاعل نووي مدني في المملكة بمساعدة الولايات المتحدة؛ توقيع الولايات المتحدة على اتفاقية دفاع مشترك مع المملكة على غرار الناتو، تضمن تعهد أميركي بحمايتها والدفاع عنها، في حال حدوث أي هجوم عليها؛ وصول المملكة إلى الأنظمة الدفاعية العسكرية التكنولوجية عالية التطور، الموجودة بالفعل بين أعضاء حلف الناتو؛ حل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وفق مبادرة السلام العربية التي طرحتها المملكة لعام ٢٠٠٢.
تبدو جميع تلك شروط تعجيزية، غير قابلة للتحقق، على الأقل في عهد بايدن. فاتفاقية من هذا النوع، تتعلق بقضايا ترتبط بقرارات عسكرية أميركية تحتاج للاقرار من قبل مجلس الشيوخ وبموافقة الثلثين، هو أمر مستبعد، خصوصاً في ظل رفض أميركي رسمي معلن، وكذلك إسرائيلي لحصول المملكة على القوة النووية السلمية، والوصول لمنظومة الابتكار التكنولوجي العسكري الأميركي المتطورة. كما أنه يعد من المستبعد الحصول على موافقة تشريعية من مجلس الشيوخ تتعلق بتعهدات أميركية بالدفاع عن المملكة، وهو الأمر الذي سعت الادارات الأميركية الثلاث الأخيرة للتحلل منه، وفق استراتيجية وممارسة واضحة. وأما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فمن المستعبد تحقيق التطبيع، في ظل حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، وتوجه المملكة لترسيخ مكانتها القيادية في المنطقة، في ظل تغيرات بنيوية في النظام الدولي، لا تتصدر فيه الولايات المتحدة المشهد السياسي وحدها، الأمر الذي يقلل من أهمية "إسرائيل" بالنسبة للمملكة في اطار تلك المعادلة. وحسب تقرير في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، أكد العاهل السعودي خلال اجتماعه مع مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، أن أي اتفاق تطبيع يجب أن يتضمن خطوات إسرائيلية واضحة تجاه الفلسطينيين. كما أكدت السفارة السعودية في واشنطن ذلك أيضاً مشددة على أن التطبيع لن يكون ممكنًا إلا إذا تم التوصل إلى حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
ويمكن للمملكة العودة لنتائج اتفاقية التطبيع بين دولة الاحتلال ودولة الامارات العربية المتحدة، كمؤشر لجدوى الدخول في اتفاقية مشابهة. فرغم تحقيق مكاسب تجارية للامارات المتحدة، الا أن "إسرائيل" لا تمتلك ميزة تجارية فريدة، لا تمتلكها شركات تجارية أخرى، في ظل عدم التزام "إسرائيل" تجاه الفلسطينيين واحراج الحكومة الاماراتية أكثر من مرة، واضطرارها لانتقاد وادانة سياسة الاحتلال تجاه الفلسطينيين. كما لم تحصل الامارات على طائرات إف ٣٥، التي تعهدت بها الولايات المتحدة كمكافئة لها مقابل التطبيع. ويظهر استطلاعاً للرأي أجرى مؤخراً من قبل معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، المقرب من اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، تراجع الدعم الشعبي الاماراتي لاتفاقات أبراهام، فبات حوالي ثلاثة أرباع الامارتيين المستطلع رأيهم، يعتبرون التطبيع مع حكومة الاحتلال في ظل استمراره في فلسطين أمر سلبياً. وفي المملكة اعتبر أربعة أخماس المستطلعين السعوديين ذلك سلبياً. وحتى وإن رغبت المملكة مجازاً بتطبيع علاقتها مع "إسرائيل"، فالمملكة لن تختار ادارة بايدن على وجه التحديد لمنحها هذه المكافئة قبل الانتخابات، كرد على سياستها العدائية ضد ولي العهد السعودي. وتؤكد التحليلات الأميركية المختلفة ميل النظام السعودي تجاه الادارات الأميركية الجمهورية، خصوصاً إدارة ترامب، بعد أن رسخت الادارات الديمقراطية حالة من التوتر مع المملكة، بدءاً بعهد أوباما والاتفاقية النووية مع إيران، وانتهاءً بعهد بايدن الحالي.
هناك عدد من المعطيات التي تحدد استراتيجيات المملكة الخارجية عموماً، وتجاه التطبيع مع حكومة الاحتلال خصوصاً خلال الحقبة الأخيرة. منذ العام ٢٠١٦، توصلت المملكة، وبشكل تدريجي، لعدم قدرتها الاعتماد على الحليف الأميركي، بعد التراجع عن الالتزام بمعادلة الأمن مقابل النفط، وتوقيع الاتفاق النووي مع إيران. في ذلك العام، بدأت المملكة بنسج علاقات قوية مع روسيا توجت تحت مظلة منظمة شنغهاي، وترجمت بتشكيل مجموعة أوبك+. كما بدأت المملكة تتوجه نحو الصين، لربط مصالحها الاقتصادية معها، رغم الاعتراض الأميركي. وبالتجربة العملية، تخلت أميركا عن حليفها السعودي، في ظل ادارة ترامب الجمهوري، في العام ٢٠١٩، عندما تعرضت مقدرات المملكة النفطية لضربات هجومية صاروخية، وخلال الحرب اليمينية، عندما سحبت الولايات المتحدة صواريخ باتريوت المضادة للطائرات، عندما كانت تتعرض المملكة لهجمات صاروخية من قبل الحوثيين. كما اعتبر الموقف الأميركي صادم للمملكة، بعد رفضها الاستجابة لطلب أميركي بخفض إنتاج النفط، وذلك بتهديد الادارة الاميركية بوقف تسليح المملكة. وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لترسخ مقاربة تعدد القوى أكثر، وباتت مكانة الصين وروسيا في المنظومة الدولية أكثر وضوحاً، الأمر الذي دعم صحة التوجه السعودي سابق الذكر. ويساعد ترسيخ نظام متعدد الاقطاب لدولة مثل السعودية على توسعها في نسج تحالفاتها، وعدم حصرها بقوى قطبية واحدة. وهو الأمر الذي يفسر عدم اضطرار المملكة لتطبيع علاقاتها آنياً مع "اسرائيل"، والتي طالما اعتبرتها المملكة مفتاحاً للوصول إلى الولايات المتحدة.
وتتشارك كل من السعودية وروسيا مجتمعتين بإنتاج أكثر من نصف انتاج مجموعة أوبك +، لذلك تعتبر روسيا الشريك الضروري للسعودية في إدارة سوق النفط العالمية بشكل فعال. كما تعد الصين اليوم أكبر شريك تجاري للمملكة في مجال النفط، وتزيد الصادرات السعودية منها إلى الصين بثلاث مرات ما يتم تصديره إلى الولايات المتحدة، وحوالي ضعف ما يصدر منها إلى الهند واليابان، ثاني وثالث أكبر بلدين مستوردين للنفط من السعودية بعد الصين. وقد يكون تقاطع تجربة المملكة ما بين الصراعات واستنزاف الطاقات في ظل تجربة الحرب اليمينية بشكل خاص، وفي اطار الانخراط في صراعات المنطقة العربية بشكل عام، والتوجه نحو الانفتاح الاقتصادي، والمخططات الطموحة التي أقرها ولي العهد السعودي لعام ٢٠٣٠، تجعل المملكة تميل نحو ترسيخ سلام مستدام في المنطقة، تعد "إسرائيل" القوى المحتلة الوحيدة فيها، والتي تمتلك قدرات نووية وعسكرية تتفوق فيها عن جميع دول المنطقة الأخرى. لذلك عملت المملكة مؤخراً على تطبيع علاقاتها مع قطر وتركيا من جهة وإيران، المنافس اللدود، من جهة أخرى، الا أنها لم تقبل بعد بـ "إسرائيل".
تعيد المملكة العربية السعودية النظر في موقعها السياسي الإقليمي، وترسم سياستها الخارجية ضمن ذلك الاعتبار، خصوصا وأنها واحدة من أهم الاسواق الناشئة في العالم. فتعيد تشكيل ثقافة دينية أكثر مرونة وقبول عالمي، وتعيد بناء اقتصادها بحيث لا يعتمد مستقبلاً فقط على انتاج النفط الذي ارتبطت به المملكة لعقود، وتسعى لرفع مكانتها كلاعب عالمي مستقل، لا يرتبط فقط بالولايات المتحدة، بل بجميع القوى المؤثرة. لم تعد الولايات المتحدة بالحليف الموثوق لدى المملكة، خصوصاً بعد اعلان انسحابها التدريجي والعملي من المنطقة، وكحليف لها. الا أن المملكة لاتزال ترتبط بالولايات المتحدة بمصالح على رأسها الأمن والاقتصاد وتحتاج وفق مخططاتها لتنويع مصادرها العسكرية وشركائها التجاريين، وعدم الاكتفاء بالقطب الاميركي، في ظل منظومة تعاون متعددة الاتجاهات. كما تحتاج المملكة لضبط نظام قُوى إقليمي، باتت ترى نفسها فيه قطباً إلى جانب إيران وتركيا و"إسرائيل"، لا تستطيع في اطاره الاعتماد عسكرياً على الولايات المتحدة فقط، لذلك ووفق هذه الرؤية لا تبدو "إسرائيل" مهمة للمملكة، وليست مضرة للتطبيع معها.