/PNN/ دراسة اجتماعية في أجزاء: الجزء الأول: نظرة تاريخية .
لم تظهر أي نظرية فلسفية أو اجتماعية إلا وأعطت موضوع السلوك الإنساني اهتماماً كبيراً، في نظرتها إلى الواقع الاجتماعي كما هو، أو في نظرتها إلى المجتمع كما ينبغي أن يكون، بل لقد توجهت الحركات الدينية والاصلاحية نحو التنشئة والتربية لتعطيها الدور الحاسم في صناعة الحياة الإنسانية الدينية والدنيوية على حد سواء، حيث يشكل جانب التعاليم الأخلاقية الجزء الأساسي من نظرة هذه الحركات والدعوات لبناء إنسان مشترك في الحياة الاجتماعية بسلوك مثالي، دعت حركات دينية إلى احتقار الحياة الدنيا والاعتكاف على الذات لبلوغ الهدوء الروحي الأبدي، وقد لاقت هذه الدعوات انتقادات لكونها تؤدي بالإنسان إلى اللامبالاة وتصرفه عن الاهتمام بقضايا مجتمعه وبما يدور من حوله، دعا عدد من الفلاسفة إلى عدم التدخل في الشؤون العامة وبالأخص السياسة، ومنهم أبيقور الذي دعا إلى الابتعاد عن النشاط السياسي والحكومي إلى حياة شخصية وغير ملحوظة، وبالمقابل دعا فلاسفة آخرون إلى اتخاذ موقف إيجابي فعال تجاه الأحداث التي تعصف بالحياة الاجتماعية في عصرهم، واستنكروا موقف اللامبالاة، ولعل تاريخ الفلسفة والنظريات الاجتماعية عبارة عن صراع تيارين فكريين، الأول يدعو إلى السلبية تجاه سيطرة الطبقات المستغِلة، وعلى المقهورين أن يتحملوا باستمرار الحرمان والبؤس دون تذمر، وأن يذعنوا بكل الرضى لإرادة الطبقات المهيمنة، بينما يدعو التيار الثاني المضطهدين إلى المشاركة في النضال ضد القهر والظلم الاجتماعيين، والعمل بجدية من أجل الحرية والعدالة والمساواة، طرح مثل هذه الأفكار مفكرو الثورة البرجوازرية مما أدى إلى الثورة على هيمنة الإقطاع، وتهديم أسس نظامه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
وبالعودة إلى الفكر اليوناني القديم، فقد احتوت آراء فيثاغورس الفلسفية تعاليماً دينية وأخلاقية وسياسية، ومع ظهور السفسطائية كظاهرة فلسفية أصبح معلمو الجدل يلقنون المعارف السياسية والخطابة، وبعد ذلك نجد اهتماماً شديداً بالسياسة عند سقراط وأفلاطون وأرسطو، فسقراط في محاوراته يرى أن المبدأ الأساسي للديمقراطية هو تساوي كل الناس في حق المنصب وتعيين الخطة السياسية العامة للدولة، ويعرض أفلاطون في كتابه «الجمهورية» فلسفته في السياسة، ويرى أن الدولة العادلة هي التي يقوم كل فرد من مواطنيها بالعمل وفق طبيعته، أما أرسطو في كتابه «السياسة» فقد رسم صورة للعلاقة بين المواطن والدولة، ووصف مسألة المواطنة بالعلاقة بين المدينة الفاضلة ونظام الحكم، وجعل المشاركة السياسية شرطاً للمواطنة، ويرى أن أساس النظام الصالح هو النظام الذي يطبق حكم القانون، وبين أسباب قيام الثورات، فتارة يثورون على السياسة ليستبدلوا الحكم الراهن بآخر، وطوراً في ثورتهم يقصدون تبديل السياسة المرعية، ليكونوا هم قوامها من أجل الثراء ومراتب الشرف، أو إثباتها واعتماد حكم الأقلية أو الحكم الملكي عليهم.
تطورت العلوم الاجتماعية واتسع نطاقها وميادينها واتضحت الفواصل بينها كعلوم مستقلة، وخاصة علم الاجتماع السياسي، فبرز مفهوم المشاركة كمصطلح يعكس قضية ملحة في المجتمعات الحديثة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضايا التنمية، والديمقراطية، والعدالة، والتخلص من الاستعمار، ونيل الاستقلال الوطني، وبناء الأمة، والوحدة الوطنية، ودور الأحزاب السياسية، ودور السلطة، التي تؤكد جميعها البعد الاجتماعي الهام لمفهوم المشاركة.
لا تتجاوز عمر الدراسات التجريبية لظاهرة المشاركة السياسية أكثر من ثمانين عاماً، ركزت الدراسات المبكرة على تفسير: لماذا يختار بعض الناس التصويت في الانتخابات ويمتنع آخرون عنه؟. تدريجياً بدأ البحث في المشاركة السياسية يتناول موضوعات في السلوك السياسي، مثل: المشاركة في النشاطات، تقديم المساهمات المالية، حضور المقابلات والندوات...، معظم هذه المواضيع توسعت وتعمقت في مجال البحث في المشاركة السياسية التي اهتمت بداية وخصوصاً بدراسة السلوك الانتخابي، كان معظمها في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم امتدت إلى عدد كبير من البلدان الإضافية، في الموضوعات ذاتها، وتكرر الشكل الأساسي للأسئلة في نفس الخطة وتصميم استمارة البحث، وتشابه تقسيم المشاركة السياسية إلى أنماط رئيسية، وُجِدت في دول مختلفة في تقاليدها الثقافية ونظامها السياسي، كما وُجِدت ذات النماذج أيضاً في العديد من الدراسات التي جرت بشكل مستقل اعتبرت بعيدةً عن مراكز البحث المسيسة، من هذه النماذج (التصويت، الحزب ونشاطات الانتخابات، موظفي الاتصالات، المعارضة، الاعلام والدعاية..)
حاول الباحثون الذين درسوا المشاركة السياسية الكشف عن أي العناصر والدوافع التي تكمن وراء السلوك، وتفسر بشكل أفضل: لماذا يشارك بعض الأفراد ولا يشارك آخرون؟. فظهر تصنيف لدوافع السلوك، دوافع ترتبط بالثقافة السياسية والآراء السياسية والإيديولوجيا للفرد القائم بالتصويت، ودوافع الانتماءات الطائفية والاثنية والقبلية، والانتماء الجغرافي وأهمية التقسيم الى مناطق انتخابية، والاستعدادات النفسية المسبقة لدى الفرد، ومواقفه واتجاهاته ازاء القضايا العامة في المجتمع، ودوافع شخصية تتعلق بمواقف وسمات ومعتقدات لها تأثير قوي في قرار المشاركة أو عدم المشاركة، هذه العناصر الشخصية تُكتسب بواسطة التنشئة والتعلم عن طريق البيئة التي يعيش فيها الفرد وتفاعله معها لفترة كافية، لكن تصنيف دوافع السلوك لا تظهر كيف ترتبط هذه العناصر ديناميكياً، لكي تصنع قرار الشخص بالمشاركة أو عدمها، لأن خطة لدراسة معمقة لهذه التداخل العلائقي الديناميكي سيؤدي إلى دراسة مطولة ومعقدة وصعبة، نفسية اجتماعية متنوعة متشابكة، حتى العام 1977 قدمت دراسة مختصرة عن هذه العلاقات المتبادلة والديناميكية، فالبيئة الاجتماعية تعتبر أساسية لفهم السلوك السياسي.
توسع المفهوم لينتقل من المشاركة السياسية إلى المشاركة بالمعنى العام، حيث يدل مفهوم المشاركة على المساهمة أو التعاون في أي وجه من وجوه النشاط، وهو نشاط يقوم به المواطنون باندفاع ذاتي طوعي ليساهموا في قضية حيوية من قضايا مجتمعهم، فالمشاركة تعني الإقدام على النشاط، أما الامتناع والإحجام عن النشاط، فيشير إلى ظاهرة نقيضة للمشاركة هي ظاهرة اللامبالاة، فالمشاركة تقع بين حدود الواجب الذي يؤديه الفرد، إما بحكم القانون أو العرف، هذا من جانب، ومن جانب آخر حد اللامبالاة، فالمشاركة هي تصرف اختياري، ناجح أو فاشل، منظم أو غير منظم، وقتي أو مستمر، يرتكز على أساليب شرعية أو غير شرعية، ويهدف إلى التأثير في قضية حيوية من قضايا المجتمع الذي ينتمي إليه المواطنون.
تتعدد الدلالات في فهم معنى المشاركة من شعب إلى آخر بحسب طبيعة المرحلة التاريخية، والظروف المحيطة، وأهداف هذا الشعب أو ذاك، فليس هناك مدلول واحد مشترك، وظروف المجتمع الفلسطيني تحتم ربط المشاركة بظروف الاحتلال، وما ينجم عنه من جهة، وما تتطلبه أهداف إنهاء الاحتلال من أشكال مشاركة مناسبة، تشكل المصلحة الوطنية وارتباطها بالمصالح الطبقية والفئات والشرائح الاجتماعية للشعب الفلسطيني الدافع الأساسي للمشاركة في النضال الوطني، بينما تشكل القيم والاتجاهات والميول دوافع مكملة وهامة، هذه القيم يكتسبها الانسان عبر التنشئة السياسية الهادفة لبناء شخصية لها قيم وتوجهات ومعايير ذات أبعاد سياسية، وتعتبر أدوار المؤسسات الاجتماعية في عملية التنشئة متداخلة، من الأسرة إلى المدرسة إلى مؤسسات المجتمع الأخرى، كما تتأثر بطابع الحياة العام الذي يتمحور حول جانبين متناقضين : الأول هو ممارسات سلطات الاحتلال التعسفية، والثاني: هو المشاركة في النضال الوطني من قبل الشعب الفلسطيني، هذان الجانبان يشكلان جزءاً أساسياً من البيئة ذات الخصوصية التي تتفاعل الجماهير معها وتطبع شخصيتهم، فالأخلاق الثورية هي أخلاق نوعية تختلف عن الأخلاق والقيم المسلكية، يكتسبها الفرد عن طريق مؤسسات اجتماعية، لكنها تصقل من خلال المشاركة في النضال الوطني كمحك عملي لهذه القيم، كما أن هذه القيم تنتشر وتعم من خلال المشاركة وآليات التفاعل.
تخضع المشاركة في النضال الوطني إلى تغيرات عديدة في الكم والنوع، كما في الأسلوب والأدوات، نتيجة أسباب عديدة، المؤشرات تدل أن التطور في المشاركة تصاعدي منذ بدء الاحتلال الاسرائيلي حتى الآن، بما يتضمنه من حدوث قفزات أو تراجعات تصاعد أو خمود في النشاط السياسي الوطني والثوري، إلا أنه يمكن القول إن المنحى العام للرسم البياني الذي يوضح مسيرة النضال الوطني الفلسطيني هو خط متصاعد متنامي.
نلاحظ في فترة زمنية ازدياد أعمال المقاومة بحيث تشكل هذه الفترة مرحلة متميزة عما سبقها أو تلاها، هذه المرحلية تدل على أن المشاركة لم تبق على حال واحدة، فلكل مرحلة طبيعتها، وأسبابها التي دعت إلى تبدل أشكال المشاركة، وعواملها التي تحدد اتجاهات تطور المشاركة، فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين التي بدأت فيه ظهور القضية الفلسطينية من خلال استقدام مئات الألوف من المستوطنين اليهود وبناء المستوطنات، قد استدعى تهيئة واستعداد مناسب لتأدية أدوار تحتاجها طبيعة المرحلة ( احتلال بريطاني واستيطان يهودي صهيوني)، والانتقال إلى مرحلة تاريخية أخرى تتطلب شكل مشاركة مناسبة، لكن التطور الحاصل لا يفقد المشاركة والتنشئة كل خصائصهما بل تبقيا محافظتين على أهم السمات الأساسية، وقد حدث تغير مهم في مرحلة ما بعد النكبة وما بعد النكسة، وفي مرحلة الانتفاضة الأولى، تكشف كل مرحلة تغيراً أو تطوراً وتقدماً على صعيد المشاركة في التصدي للاحتلال، والذي يدل بشكل أو آخر على تطور في التنشئة مرافق لتصاعد النضال وتطوره.