بقلم: مروان اميل طوباسي
إن عملية تجريد الشعب الفلسطيني من حقوقه وصلت اليوم إلى منعطف فارق ، حيث بدأت أسطورة "أرض بلا شعب" كجزء من عقيدة تأسيس دولة الأستعمار الاسرائيلي ، فخلال أحداث جريمة النكبة عام ١٩٤٨، كانت هذه المهمة واضحة عندما تم اقتلاع القرى والمدن الفلسطينية من الأرض وتنفيذ التطهير العرقي في حملة ارهاب استيطانية منهجية ، ولا تزال سياسات إرهاب الدولة التي أصبحت اليوم توصف بدولة الابرتهايد وعصاباتها من القتل والتدمير والاستيطان تجاه شعبنا الفلسطيني الذي فاق هذا العام أي مؤشرات سابقة من عشر سنوات تأكيدا على إرادة الإلغاء والمحو والأحلال الاستيطاني في محاولاتهم وخططهم اليوم لاقامة دولة أو مملكة يهودا والسامرة ، او إسرائيل التوسعية الكبرى بضم مناطق اخرى بمعنى الجغرافيا السياسية، بل وحتى للتمدد إلى دول اخرى وفق الرؤية التوراتية وما جاء فيها، اعتمادا على اتفاقيات التطبيع المجاني الذي ابرمته عدد من الدول. مستفيدين بذلك من واقع الصمت بل وأشكال الغطاء الدولي الغربي وسياسات كافة حكوماتهم الإسرائيلية السابقة التي أُسست وفق الإجماع الصهيوني من علمانيين ومتدينين ونفذت مراحل مشروعهم منذ البدايات.
لكن "الاقتلاع والمحو والتطهير والأحلال " ليس السياسة المادية الوحيدة لمحاولاتهم الغاء وتغييب وجود فلسطين والفلسطينيين فحسب ، بل ويتم ايضا من خلال السياسات الغير مادية المتعلقة بثقافة الأحتلال الاستعماري ذات الفوقية اليهودية والعنصرية الهادفة الى تزوير رواية التاريخ وإعادة سرد أحداث الماضي وفق ادعاءاتهم وسرقة وتزوير حقائق التراث الثقافي وتشريع القوانين العنصرية ومحاولة إعادة صياغة شكل نظامهم الأستعماري بمنحى ديني. وتلعب ثقافة الحركة الصهيونية ومؤسسات دولة الاحتلال الإسرائيلي دورًا نشطا في هذا الجهد الثقافي الأستعماري بمساندة حلفاؤها وخاصة في روايتهم حول الهولوكوست واشاعة فزاعة معاداة السامية ، رغم ان الصهيونية هي العدو الأساس للسامية التي ننتمي نحن الكنعانيين لها.
وتعود ملامح هذه الخطة في الرؤيا الصهيونية الهادفة إلى السيطرة على كامل أرض فلسطين إلى تيودور هيرتسل ، وهي خطة أميركية – إسرائيلية تتحدى مبادئ تقرير المصير المبني على العدالة. كما أنها تعكس الانحياز الأميركي الكامل في دعم الأهداف الإسرائيلية التوسعية العنصرية ، في مخالفة مفضوحة للأعراف الدولية ومعاهدات و قرارات الأمم المتحدة.
فالغرب المنحاز بنفاقه والدول الاستعمارية لا يزعجهم كثيرا استمرار الأحتلال الأستيطاني في فلسطين كما استمرار أي شكل من أشكال الأستعمار الجديد المتبقي في عدد من الدول كأفريقيا مثلا التي ينهبون ثرواتها ، طالما هذا الأستعمار الذي عاد لها بثوب اقتصادي ، او الأحتلال الذي لا يشكل نوعا من الخطر او التهديد أو الكلفة على مصالحهم المتعددة دون دفع الثمن .
فمنذ فترة من الزمن ورغم تقارير ممثلي دول الأتحاد الأوروبي بالقدس ورام الله المرفوعة لحكومات دولهم ولبروكسل حول جرائم الاحتلال ، وقرارات البرلمانات الأوروبية بضرورة الاعتراف بدولتنا المستقلة الأمر الذي لم تنفذه الحكومات ، الا ان في معظم المناسبات يتسابق مسوؤلين الاتحاد الأوروبي الرسميين من معظم دوله التي يصعد اليمين واليمين الشعبوي السياسي فيها على تعزيز الشراكات مع إسرائيل في قطاعات مختلفة وأحياء الأحتفالات في "ذكرى تاسيسها ال ٧٥ " مؤخرا . كما وفي إدانة كفاح شعبنا بأشد العبارات ، الذي يستهدف مستوطنين او جنود الأحتلال أن كان بالقدس المحتلة أو بمدننا ومخيماتنا الأخرى ، وبكل معاني ازدواجية المعايير والتنكر لمواقفهم هم أنفسهم في زمن كفاح شعوبهم ضد الوحش النازي والإرهاب وبعض مظاهر الديكتاتوريات العسكرية في عدد من دولهم الأوروبية اوائل سبعينات القرن الماضي وفي مقاطعة نظام الابرتهايد في جنوب افريقيا سابقا، وفي التنكر لقيم المقاومة باشكالها المختلفة التي وفرتها لشعب مُضطَهد ومُحتَل كافة المواثيق الدولية كحق طبيعي ، كانوا هم انفسهم طرفا بالتوقيع عليها .
في تصريحات هؤلاء المسؤولين الأوروبين الذين تغيب مواقف ادانتهم الواضحة لجرائم الأحتلال اليومية ضد ابناء شعبنا واجراءات القمع الوحشي ضد الأسرى في مخالفات واضحة لاتفاقيات جنيف ، باتوا يساوون بين الجلاد والضحية ويوفرون لدولة الأحتلال نوعا من الغطاء و "الشرعية الدولية" بتبرير ما يسمونه ، "حقها بالدفاع عن نفسها " ويقدم بعضهم الحماية الدبلوماسية لها بالمحافل الدولية بعدم تقديمها للمحاسبة او عقابها ، وهم قد كرروا وما زالوا مواقفهم بأهمية أمن إسرائيل الذي يشكل بالنسبة لهم اولوية قصوى ، غير مدركين أو لا يريدون أن يدركوا عمدا وهو الأصح باعتقادي ، أن أمن إسرائيل لا يتوفر من خلال ممارسة احتلال بشع وتميز عنصري وجرائم يومية ترتقي إلى شكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد الشعب الفلسطيني الذي يتوق للسلام القائم على الحرية والعدالة في أرضه التي أصبح يحكمها نظام الفصل العنصري الاستعماري .
لكن الشعوب ومناصري الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان في هذا العالم وتحديدا بالقارة الأوروبية التي انتصرت سابقا على كل أشكال الاستعمار و النازية وحققت أهدافها بالتحرر الوطني والاستقلال ، يقفون اليوم تضامناً مع فلسطين ، ويدعمون حق شعبنا الفلسطينيين في استخدام كل أشكال الطرق المشروعة في مقاومة الاضطهاد والتمييز العنصري، بما في ذلك المقاومة الشعبية وفي النضال من أجل المقاطعة الاقتصادية ، الأكاديمية، الثقافية وغيرها من الأشكال. وسحب الاستثمارات ، وفرض العقوبات على إسرائيل كدولة احتلال وفصل عنصري ، الأمر الذي يجب البناء عليه من جانبنا وتطوير أشكال الشراكة الشعبية والرسمية معهم خاصة مع تطور ادائهم وادوارهم اليوم .
فهذه الطرق شكلت أدوات نضالية استخدمها بنجاح الإيرلنديون والهنود وشعوب جنوب أفريقيا في نضالهم العادل ضد الاستعمار والطغيان والابرتهايد ، كما وتُستخدم هذه الوسائل النضالية اليوم من جانب الأميركيين السود في دعوتهم إلى مقاطعة المؤسسات التي تساهم في اضطهادهم وقمعهم وفق عنصرية الفوقية البيضاء.
إن من دعم ويدعم هذه الحركات حول العالم يفترض به دعم كفاح الشعب الفلسطيني وحقه في استخدام كل الطرق المشروعة في نضاله ضد توحش الأحتلال الإسرائيلي المستمر ونظام الفصل العنصري كمكروه انساني في سلب أراضيه والاستيطان فيها ومنعه من ممارسة حقوقه القومية .
أن الكفاح ضد الأحتلال العنصري الاحلالي من خلال مقاومته المشروعة التي تتضمن كل أشكال المقاومة الشعبية والسياسية والدبلوماسية الرسمية والشعبية العامة والثقافية التي ما زال شعبنا يخوضها يتوجب تصعيدها ، وهو ما يرفع كلفة الاحتلال التي يجب أن تكون باهظة الثمن بكل المعايير حتى يشعر المجتمع الإسرائيلي بأن الديمقراطية التي يطالبون بها اليوم في وجه استبداد نتنياهو والصهيونية الدينية ، لن تتحقق لهم باستمرار اضطهاد شعبنا ومصادرة حقوقه المشروعة .
هذا الغرب الأستعماري عِبر تاريخه وهؤلاء الأوروبين بالغرب لا يريدون النظر إلى واقع الأمور الحقيقية بعدالة ويصرون على عدم تحمل مسوؤلياتهم الاخلاقية والسياسية بل والقانونية في انهاء هذا الأحتلال الأستعماري الذي لا يستهدف شعبنا الفلسطيني وحقه في تقرير المصير كمبداء سامي للشعوب فقط ، وانما لميثاق هيئة الأمم المتحدة والقانون الدولي وحتى مبادئ نشؤ اتحداهم الأوروبي نفسه ، كما يستهدف ايضا الأمن والسلم الدوليبن خاصة في منطقتنا ، ويبدوا انهم لا يريدون العمل الجاد من أجل الأمن والاستقرار الذي يتحقق فقط من خلال إنهاء هذا الأحتلال الإرهابي وتداعياته اليومية التي يجب أن تحظى باولوية ادانتهم العملية وفرض عقوباتهم كما فعلوا مع عدد من الدول ويفعلون الآن مع روسيا التي يحاولون محاصرتها وتقويض دورها ومؤخرا بحق النيجر ودول أخرى .
لكنه انحيازهم والنفاق السياسي الذي تستوجبه مصالحهم وتبعيتهم لسياسات الهيمنة الأمريكية وثقافتهم الاستعمارية القديمة بل وما تسببوا هم فيه من عدم حل المسألة اليهودية بمجتماعاتهم وتصديرها من خلال موجات الاستيطان الى وطننا . هذا في وقت ترفض الشعوب الأوروبية واحزابها التقدمية واليسارية الصديقة ، بل وحتى منظمات امريكية تقدمية وكنائس كثيرة ويهودية ايضا تلك السياسات والمواقف الرسمية الاميكية والأوروبية الاطلسية التي تكاد أن تكون منحازة بشكل فاضح أن لم تكن كذلك فعلا منذ البدايات أمام تلك الوقائع .
من جهتها الولايات المتحدة الامريكية كأدارة بالبيت الابيض او بالكونغرس وهم الداعم الأساس لدولة الاحتلال بل وصاحبة مشروعها الاستيطاني منذ نشاتها تساند وتعطي الغطاء الدولي لنظام الأحتلال الاستيطاني بكل المعايير المالية ، العسكرية ، الامنية الاقتصادية والدبلوماسية . وهي اي الولايات المتحدة لم تنسحب من المنطقة كما يعتقد البعض ، فبالإضافة إلى مهمتها الاستراتيجية في حماية اسرائيل على الارض وبمجلس الأمن والاعتماد عليها في تنفيذ رؤيتها ، فهنالك ما تبقى من محاولات لها لترتيبات في مواجهة التمدد الصيني والروسي ولتنفيذ مشروعها القديم حول الشرق الأوسط الجديد من جهة .
ومن جهة اخرى ، في مسعى للأبقاء على النظام الدولي احادي القطب ودورها المركزي الذي تعتقده في تحديد مستقبل المنطقة رغم افول هيمنتها ، ومحاولة واهمة تنفيذ رؤيتها بايجاد "الإنسان الفلسطيني الجديد" الذي "يجب" أن يرى في "إسرائيل" مشروع حليف له أو أن يقبل هذا الإنسان الجديد بالتعايش مع الأحتلال تحت مسميات مختلفة كما يرغبون هم بمخططاتهم ، وبما يهدف طبعا بالنتيجة إلى عدم تحقيق انهاء الأحتلال كاملا كطريق لسلام حقيقي يقوم على تلبية الحقوق التاريخية السياسية والوطنية لشعبنا ، وإنما من خلال محاولة ابرام صفقات لا تلبي الحقوق السياسية كاملة لشعبنا ، بل فقط لنشر خدع جديدة من السراب تشكل امتدادا لصفقة القرن التي رفضها شعبنا وقيادتنا ، ولسياسات الولايات المتحدة القديمة لكن تحت مسميات جديدة أن تمكنت من إيجاد الشركاء والنجاح بذلك أمام المتغيرات الإقليمية والدولية والتموضعات الجديدة لعدد من دول الإقليم ومجريات الأحداث الجارية في المجتمعات غير المتجانسة في دولة الأحتلال الإسرائيلي اليوم التي تهدد وحدتها وقوة ردعها ، بل وربما تقسيمها .
لقد استفادت دولة الأحتلال الإسرائيلي منذ توقيع اتفاقيات أوسلو التي تنكرت هي نفسها لها لاحقا ، من ما اتيح لها بتقديم نفسها امام المجتمع الدولي كشريك في عملية سلام "جارية" ، واستعادت بذلك العديد من العلاقات الدبلوماسية مع دول كانت قد قطعت معها تلك العلاقات سابقا كدولة أحتلال . لقد كان من الخطاء بأننا لم نعترض نحن بشكل جوهري على ذلك أمام تلك الدول اعتقادا من البعض منا بأن عودة تلك العلاقات ستشكل عامل ضغط على إسرائيل للألتزام بالقرارات الدولية وستساهم في احياء عملية السلام المفترضة ، مما ساهم في تدني كلفة الأحتلال واستمرار بقاء دولة الاحتلال فوق القانون الدولي كدولة مارقة ايضا دون كلفة حقيقية .
أن مراجعة وتقييم هذا الأمر بشكل موضوعي ونقدي أصبح اليوم ضروريا امامنا للمساهمة في تحديد رؤيتنا الإستراتيجية وخطوات عملنا التي تحتاج إلى برنامج وادوات واضحة تفضي الى عزل ومقاطعة دولة الأحتلال وملاحقتها بالمحاكم الدولية والجنائية وعقابها ، ولاعادة صياغة شكل العلاقة مع الأحتلال من طرفنا ، كما ولمطالبة المجتمع الدولي من جهة ثانية بمراجعة واعادة دراسة تلك العلاقات معها وما تؤدي له من نتائج سلبية على مسار الضرورة لانهاء الأحتلال ونظام الفصل العنصري اولاً ، ومن أجل الاعتراف بدولة فلسطين من خلال العلاقات الثنائية مع تلك الدول كما وفي هيئة الأمم كدولة كاملة العضوية التي نسعى الى إنجازها قريبا.
فقط هذا النوع من الإجراءات والاَليات سينجح في فرض تكلفة باهظة على دولة الاحتلال وفي جعل استمرار الأحتلال مكلفا سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا ، وسينجح ربما في مجابهة المخاطر التي تهدد السلام والأمن الدوليين والمتأتي من الرؤية الصهيونية الامريكية ومناصريها حول العالم ، خاصة مع ما يجري من نهاية للنظام الدولي احادي القطب.
وبغض النظر عن مضمون واهداف اية اتفاقيات يجري النقاش حولها حاليا بين عدد من الدول برعاية أمريكية ، والتي لسنا طرفا مباشرا فيها ، فعلى هذه الاطراف أن تدرك بأن الأوان قد حان ولو متأخرا بأن تلتزم الأسرة الدولية بشكل فعلي وعملي بالعمل معاً على المساهمة في تعزيز الخطوات اللازمة لتأمين حل عادل لصراعنا مع دولة الأحتلال الإسرائيلي الاستعماري ، وربما إسقاط ورفض الاحتكار الأمريكي المنحاز اصبح ضروريا من حانب الأشقاء العرب ، والاستناد بدلا عن ذلك بالمبادرة الصينية الأخيرة ذات النقاط الخمس المقدمة الى الأخ الرئيس ابو مازن في اذار الماضي . بحيث يؤدي اي اتفاق بخصوص السلام الذي يتم الحديث عنه بعيدا عن التطبيع ولكن من خلال الأعتراف بالحقوق القومية الجماعية والفردية لشعبنا الفلسطيني وفي مقدمتها حق تقرير المصير على تراب وطننا بما في ذلك انهاء الأحتلال الأستيطاني اولاً وحل قضية اللاجئين حلاً عادلاً وفق القرار ١٩٤ بجدول زمني واضح وفق المبادرة العربية التي بادرت لها المملكة السعودية وتم اعتمادها عربيا في قمة بيروت والتي تفتح في حال تطبيقها الى علاقات يتفق على شكلها لمن اراد ذلك من الدول . فهذا هو فقط الطريق للسلام العادل دون ذر رماد بالعيون ، وهو ما يجب أن تقوم عليه أي اتفاقيات دون تجاوز أصحاب القضية فيها والمتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد لشعبنا الفلسطيني مع الاخذ بالاعتبار اهمية وضرورة تفعيل وتطوير وتوسيع القاعدة الجماهيرية لهذا الإطار الجبهوي الوطني الذي حمل قضيتنا وكفاح حركتنا الوطنية منذ عام ١٩٦٤ ، حتى لا نُترك وحدنا كما تُركنا زمن جريمة النكبة عام ١٩٤٨.
فهنالك أمثلة كفاحية مضيئة واتفاقيات لأنهاء مراحل الأستعمار متعددة ماثلة أمامنا بالتاريخ قد خدمت هدف حرية شعوبها وتحررها او قد حققت سلاما بين الشعوب يجب الاسترشاد بها رغم اختلاف الظروف ، طالما نحن ما زلنا في معركة تحررنا الوطني الديمقراطي ، وهو ما يجب أن يكون معيار رؤيتنا وثقافتنا التحررية ذات البعد الانساني والمضمون الكفاحي حتى نحقق الحرية والأستقلال الوطني . ولِنكن أنفسنا ، فقد أتخذ الجميع أدوارهم.