إن مهمة النقد في الأنظمة الديمقراطية والتنظيمات الديمقراطية مهمة أساسية لتقدم العمل والبناء، فمتى ما تدخل مقص الرقيب أو فزاعة السلطة أو هيبة السلطان أو القائد الرباني أو القائد الجهبذ أو مقلاع الدين في وجه الناقد فعلى الدولة أوالتنظيم (الحزب) السلام.
إذ لا تنظيم ديمقراطي أو (شوروي) بلا نقد، نقد مسؤول ونقد إيجابي، ونقد بقصد الإصلاح والتوجيه، نقد نحو المسلك الخاطيء والموقف الخاطيء والسياسة الخاطئة
فلا قداسة لأحد
ولا تنزيه لأي شخص
ولا حصانة
ولا صواب مطلق.
وإن كان لكل مقام مقال بالطبع بمعنى اختيار التوقيت والمكان والجُملة والشخص المناسب والوسيلة المحددة فإن هذا لا يلغي بتاتًا فكرة النقد.
لطالما ناقشنا فكرة النقد والمراجعة وأدب الاختلاف، وربطناها بالإبداع وتقديم العمل.
أي أن تحمل بيدك اليسرى ما تريد نقده بأدب الحوار، والنقد بلا تشنيع ولا شتم ولا تكفير ولا تخوين، وتحمل بيدك اليمنى المقترحات والتوصيات والتوجهات التي يجب ألا تكون بعيدًا عنها، بمعنى أن تنخرط أنت بالفعل بالمجهود بالعمل الابداعي فلا تكون ناقدًا سوداويًا وإنما ناقدًا مشرقًا.
نتحدث الآن في خضم العدوان على فلسطين من خلال رئتها الجنوبية أي قطاع غزة ورئتها الشمالية أي الضفة الغربية لنعلن بوضوح أن منع التفكير ومنع الانتقاد وكتم الأنفاس في ظل الهجمة الشرسة على الشعب الفلسطيني لا يعد من مقومات الحوار أو أدب الاختلاف، أو الحكم أي حكم، فلا يجب منع أي كان في قول كلمته أعجبتنا أم لم تعجبنا، مهما كان التجييش والتحشيد والتهييج الفضائي الموجّه سيد الموقف كما هو حاصل الآن.
وقفت عديد الفضائيات في هذا العدوان الفاشي ضد فلسطين وغزة، وإن هيأت النظر بغير ذلك، ومنها فضائيات منافقة متجارة معروفة تحتاج لنقد شديد ما نراه بالتالي فإن احتملت النقد فلها وإن لم تحتمل أو مؤيدوها المتهيجون فهذا شأنهم.
-عمدت الفضائيات على استخدام مصطلح "حرب"! والقائم هو عدوان بشع فاشي إرهابي ضد شعبنا في القطاع والضفة.
-عمدت الفضائيات على التجييش بتصوير القتال في غزة وكأنه بين جيشين عظيمين عملاقين! متماثلان بمستوى القوة المادية وهذا إدخال خطير لعقول الناس تجعلهم يأملون ثم يخيب أملهم مع كل تغيير يحصل.
-عمدت الفضائيات على استخدام المصطلحات الصهيونية بلا خجل مثل "وزير الدفاع الإسرائيلي" وهو وزير الحرب، ومثل "العملية او المناورة البرية" وهو اجتياح همجي وعدوان على الأرض والشعب...الخ
- الفضائيات العربية بتكرار عرضها للمشاهد الدموية للشهداء أشاعت جوًا من الألم والخضوع والخنوع وكأن المدنيين هذا قدرهم (مجرد أرقام ولهم الجنة، والله يرحمهم! وكفى!؟) فيما البطولة في مكان آخر، ويستطيعان أن يتجاورا دون أن ينظر أحدهم للآخر فينقذه مثلًا أو يتعاطى معه.
-كان الأولى الاحتفاظ بالمشاهد البشعة لبثها للفضائيات الأجنبية، ولمخاطبة العقل الأجنبي، وليس الجماهير العربية التي تعيش تناقضها التجييشي بين التصفيق للبطولة والتهليل والتقديس! في مقابل البكاء أو الدعاء لضحايا المذبحة وكأنه واجبهم وقدرهم!؟.
-تم الاستعاضة عن الفعل الملموس دعمًا لفلسطين بالصيحات والشتائم والاتهامات بدلًا من الاتجاه للتنوير والتفكر الذاتي والمشترك للخروج من المأزق الكبير، والخروج من مأزق الاخلاقيات والسلوكيات المهتزة.
-لم تألُ بعض الفضائيات المنافقة جهدًا في توسيع شقة الخلاف الفلسطيني، بل وتوجيه التهم بفظاظة لطرف عوضًا عن تسخيفه وازدراؤه، والمغالاة بمدح الآخر وتنزيهه، لتجنيبه النقد بالتقصير في أي من المواقف، وكأن الفتنة أحد أهدافها المركزية، وها هي تحلّ محل الوطنية والاستقلالية الفلسطينية التي بذل الفلسطينيون لتحقيقها الكثير.
إن هناك الكثير مما يمكن ملاحظته من إساءات مقصودة وتقوم بها وسائل الاعلام العربية أوالاسلامية –وعلى دربها عديد المواقع ووسائط التواصل التي لا ضبط لها وتعيش بين حفر الاتهام وجبال التشكيكات والاتهامات-التي تدعي دعمها لفلسطين وأهلها. ولا تقدم بالمقابل الا التمنيات وبعض الدعم المادي البسيط أو السخيف، وتقدم الرغبات والفخر بدور "الوساطة"، وكأن جلّ المطلوب من العرب بعد التهييج الإعلامي حسب ما يطلبه المشاهدون! هو أن يكونوا مندوبين عن القاتل الإسرائيلي أوممثلين له وللآخر الفلسطيني في سباق على من يمثل قِبلة الحوار والوساطة أويمثل مقعد الاعتدال بالمنطقة! ولو على دماء كل الشعب المغبون بقيادته، وبتربّح المعتدلين والوسطاء (أمراء الحرب) على حسابه.
وإذا أضفنا لما سبق فإن وسائل الدعاية (البروباغندا) العربية، وبعض وسائط التواصل، قد أثقلت المشاهدين بضخ وشحن أنفسهم بما لا يمكن تحقيقه عبر محلليها أو مستضافيها المنتقين لتزرع في المُشاهِد إرتباطًا أيديولوجيًا بعيدًا عن التفكير والتأمل أو المراجعة والنقد لما يقوله هذا الاعلام ذو الوجهين بالحقيقة حين يلتقي العدو والصديق. يلتقي الطرفين بادعاء نصرته للمقاومة، وهو ذاته الوسيط فاتح الأذرع لقَتَلة الشعب والمقاومة وبابتسامات عريضة؟!
إنه تناقض عجيب يتقبله الجمهور المأسور لتلك الفضائية أو أختها في استسلام كامل يدمر العقل لما تضخه وتهيّج به العالم خدمة لأغراضها.
وضمن "الفضيلة" التي تلعب عليها الدعائية (البربوغندا) العربية وخاصة الأيديولوجية التقديسية أي أيديولوجية الإرهاب الفكري وقهر العقل بمنعه من التفكير والاختلاف والنقد فنحن نعطيك كل شيء! إضافة ل"فضيلة" النسيان والمجاراة والإمعية (التي نهى عنها سيد الخلق: لا تكونوا إمعة)، والجهالة (خلق الانسان جهولًا).
إن علو الصوت نحو قضية ما، أو نحو فكرة ما بمنطق القضاء على الصوت المختلف وإسكاته بل وأحيانًا إرهابه هو ما نشاهده اليوم بالفضائيات العربية، والمصفقون لها في ظل عدوان "نتنياهو" وزمرته الفاشية على فلسطين، فإن تكلمت ضد الجوّ الذي صنعته بمنطق التضليل أوالصدق ولكن ضمن التهييج وإحلال العواطف مكان العقل فلك –حين المخالفة-أن تحمل تُهمك وتلبس كفنك عند جيش المشاهدين المستسلمين.
· أنت تتساوق مع إعلام الاحتلال
· أنت من الطابور الخامس
· ليس عليك أن تشير للخطأ او للتقصير أبدا
· مرفوض أن تدعو للمراجعة والتأمل والتفكر مطلقا
· ليس لك أن تنتقد موقف فلان أو علان فهم قد هُيء للعالم أنهم مقدسون
· المصارع (الذي يخوض الصراع مباشرة) غير معني بمراجعة نفسه ولو في خضم عدوان همجي يستدعي منه التوقف دومًا والنظر في موقعه وواجبه الأكبر تجاه أهله وشعبة، وأولوية حمايته بكل السبل.
· المصارع وقد تسميه أنت المناضل أو المكافح أو المقاوم أو الثائر أوالفدائي ليس معنيًا بمراجعة نفسه ولو غمر غمرًا بسيل الانتقادات، ولو ارتكب السبع الموبقات.
· ليس لك أن تفكر بمنطق العمل السياسي يحصد، ولا بمنطق الخطة والنتيجة، ولا بمنطق الوحدة بقرار الحرب والسلم، ولا بمنطق الوحدة الوطنية سبيلنا للفوز، وليس لك أن تفكر إلا بما يعرض عليك من وجبتين متناقضتين يوميًا (البطولة والكارثة معًا)
· إن من المصطلحات ما أصبح مقدسًا كما هو الحال مع التنظيمات وكما هو الحال مع بعض القيادات فارتقوا (وللاعلام الموجّه والمسيّس والمؤدلج والمضلل كل الدور) لمصاف الآلهة! فهل لك أن تنتقد الإله؟
· ليس من حقك أن تبدي الألم والوجع أو التفجع حتى لشعبك، فيما أنت تنقد سياسات أو تكتيكات أو سلوكيات سيئة أو مواقف داخلية، لأن البطولة تجبّ كل الألم والحق بالحياة كما تجُب المراجعة والنقد!
· يتم تحطيم نظرتك الثورية الأساسية في كل الثورات بالعالم التي تعتبر مهمة الفدائي أو المناضل أن يحب شعبه ويفديه ويقدمه على نفسه ويحميه أولًا، ويتم التلاعب بعواطفك الجياشة أنت كمتابع أو مشاهد في جهة فتدمع عيناك لنكبة الشعب (الأرقام)، وترتفع معنوياتك بجهة أخرى رافعا شارة النصر!؟ فتعيش تناقضك فرحًا مرحًا شاكرًا جذلًا!
إن التقصير وارتكاب الخطأ بالمواقف السياسية او السلوكيات سمة إنسانية. والاعتراف به هو الفضيلة الحقيقية. والتقصير مقرون بالعمل، فمن لا يعمل لا يخطئ، ولذا وجد النقد والمراجعة وأدب الاختلاف، وحُسن التعبير عن الاختلاف والتجاور. (فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون-كما قال سيد الخلق)
إن العمل أو الانجاز أو الفعل أي كان ومهما فعلت الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي الموجهة والمضللة والمسيسة فعلها، فإنها لا ولن تستطيع أن تخلد الأضاليل والأكاذيب والاسقاطات النفسية والاجتزاءات الكثيرة، خاصة متى ما تحلّى المرء بعقل حصيف، وبعيون مفتوحة وبقدرة على الرؤية من زوايا مختلفة، ومتى ما امتلك أيمانا حصينا بحقه بالمراجعة ومطالبة الآخرين بها حتى في أتون الاشتباك أو العدوان.
إن المواقف السياسية أو غير السياسية متغيرة، والسعي لنقدها أو طلب مراجعتها او رفضها أو لتحسينها لا يخضع للتنزيه، أوالإرهاب النفسي والعقلي بما يتم ضخه قسرًا في وسائل التجييش والتهييج الإعلامي، كما لا يخضع للقداسة المسبغة التي تمنع العقل من الخروج من قوقعة الرؤية المحدودة أو المضللة أو الناقصة والمسيطر عليها.