مثل كثيرين من أبناء جيلي، جيل الثمانينيات، والذين يعيشون اليوم في سوريا، تمتلئ مخيلتي بصور عما كان عليه حال العديد من المدن والقرى والمناطق السورية، لنقل قبل خمسين عاماً. يخبرني أهلي وكثيرون من كبار السن، عن غوطة دمشق الغنّاء، ونهر بردى المتدفق، والأشجار التي كان يمتلئ بها الطريق بين مدينتي حماه وسلمية وصولاً إلى أطراف البادية، والبحر وافر الأسماك، والغابات والمحميات التي تستضيف حياة برية غنية قد لا يصدق البعض أنها موجودة في هذا البلد.
الدفاع عن حقنا ببيئة سليمة صحية وحياة أفضل لا يكتمل من دون صحافة بيئية حقيقية.
لا أنكر أن منبع هذه الصور قد يكون رومانسياً مفرطاً وخادعاً أحياناً، ننظر بها إلى الماضي هرباً من واقع قاتم نعيشه، لكن المؤكد هو أن معظم تلك المشاهد اختفت، لتحل مكانها أراضٍ شبه جرداء، وأنهار بات الجفاف والتلوث سمتها الأساسية، وغابات أكلتها الحرائق والتحطيب، وبحر أنهكه الصيد الجائر والمخالف. تغيّرات مناخية وسوء إدارة للموارد الطبيعية، تبعتهما حرب طاحنة كانت كفيلة بأن تدمّر أجزاء واسعة من البيئة في سوريا، لتغدو استعادتها أشبه "بالمهمة المستحيلة".
هل هذا ما دفعني قبل نحو ثلاث سنوات لأن أتجه نحو "الصحافة البيئية"؟
سؤال يُطرح عليّ في مناسبات عدة. مرات، أبتسم وأقول إنّ مقالاً قرأته في عدد من جريدة سورية رسمية يعود تاريخه لأوائل التسعينيات ويتحدث عن "قطع آلاف الأشجار في غوطة دمشق الشرقية من أجل التوسع العمراني غير المدروس"، كان هو محركي الأساسي لأبدأ بالبحث والكتابة في مجال البيئة.
مرات أخرى، أفكر في مشهد يحزنني كثيراً، وهو سُبل المياه العامة التي تنتشر في شوارع دمشق، والتي ترتبط بكثير من ذكريات سكان المدينة، لكن معظمها توقف عن العمل في السنوات الأخيرة لأسباب عدة، وأشعر بأننا نفقد معها جزءاً من ثقافتنا. ومرات، أتذكر إحدى زياراتي لمدينة حمص عام 2020، حين أمسكني والد صديقتي من يدي وقال لي: "تعالي أريد أن أريكِ شيئاً مخيفاً ومحزناً"، وذهبنا لزيارة أحد مواقع نهر العاصي في حي الوعر فرأينا "مستنقعاً" من المياه الراكدة والملوثة ذات الرائحة الكريهة.
العمل في مجال الصحافة البيئية أضاف إلي الكثير، وأعتقد بأنه جعلني أفهم المكان الذي أعيش فيه بشكل أفضل، وفي الوقت نفسه أتعلق بالطبيعة وما تمنحه لنا من سكينة وصحة عقلية وجسدية، وأصرّ أكثر فأكثر على الدفاع عنها
صور كثيرة من سوريا، ومن العراق الذي جفت أنهاره وأهواره لنرى حيوانات تموت من العطش، ومن اليمن الذي يعاني من فيضانات وسيول يعجز عن التعامل معها، والصومال حيث تتدهور الزراعة بشكل مرعب وهي مصدر دخل أكثر من نصف السكان، وغيرها الكثير، كانت دافعاً لي لأخوض غمار مجال غيّر الكثير من حياتي المهنية والشخصية.
العمل في مجال الصحافة البيئية لا يعني فقط أن نهتم ونكتب عن ارتفاع درجات الحرارة والتنوع الحيوي والتصحر والتلوث وإعادة التدوير وأنظمة الطعام الصحية، بل يعني أن نفهم الكثير من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحكم حياتنا وبلداننا والعالم بأسره، وأن نكون أكثر وعياً لديناميكيات نزاعات ومصالح تؤثر على مجمل تفاصيل حياتنا، كالمياه التي نشربها، والخضروات التي نأكلها، والسيارات التي نفكر في شرائها، وأن نستخدم قوة الإعلام لنتحدث عن انتهاكات تحدث كل ساعة بحق بيئاتنا، وبحقنا وحق أولادنا والأجيال المقبلة، واعين تماماً أن ذلك قد يشكل علينا خطراً لا يقل عن خطر فضح أي نوع آخر من الانتهاكات.
الصحافة البيئية أساسية لتسليط الضوء على حكايات من هم متضررون أكثر من غيرهم من تلك الانتهاكات، ومعرفة ما لديهم من مشكلات وما يطرحونه من حلول تناسب بيئاتهم وسياقاتهم المحلية. الصحافي البيئي، عندما يكون متمكناً من أدواته الإعلامية والعلمية والبحثية، هو القادر على إعلاء أصوات الناس والخبراء وخلق جسور تواصل بينهم وبين صناع القرار، ووضع اليد على مكامن الخلل والمتسببين الأساسيين بالأضرار، أملاً في إحداث ما نحتاج إليه من تغيير في القضايا البيئية الملحّة.
أخبرتكم أيضاً بأن العمل في مجال الصحافة البيئية غيّر الكثير من حياتي على المستوى الشخصي؟ الصحافة البيئية تعني العمل الميداني، والاحتكاك بشكل يومي مع فلاحين يكافحون لتبقى أراضيهم على قيد الحياة بوجه تغيرات مناخية وصعوبات اقتصادية وهياكل إدارية مترهلة، ومع صيادين يقلقهم ما آل إليه حال البحر والثروة السمكية فيه، ومع مزارعات يعملن من الصباح حتى المساء تحت أشعة الشمس الحارقة ليكسبن قوت يومهن من دون أن يعرفن ربما كم يؤثر ارتفاع درجات الحرارة على أجسادهن، ومع مربّي أغنام يستمرون في التنقل وهم يبحثون عن المياه الكافية والأعشاب النضرة الطرية لقطعانهم.
العمل في مجال الصحافة البيئية لا يعني فقط أن نهتم ونكتب عن ارتفاع درجات الحرارة والتنوع الحيوي والتصحر والتلوث وإعادة التدوير وأنظمة الطعام الصحية، بل يعني أن نفهم الكثير من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحكم حياتنا وبلداننا والعالم بأسره
كل هذه الخبرات الغنيّة أضافت إلي الكثير، وأعتقد بأنها جعلتني أفهم المكان الذي أعيش فيه بشكل أفضل، وفي الوقت نفسه أتعلق بالطبيعة وما تمنحه لنا من سكينة وصحة عقلية وجسدية، وأصرّ أكثر فأكثر على الدفاع عنها.
في اليوم العالمي للبيئة، وهو يوم يحتفل به برنامج الأمم المتحدة للبيئة في الخامس من حزيران/ يونيو من كل عام بهدف التوعية بأهمية الحفاظ على البيئة ومعالجة الكثير من القضايا الملحة والخطيرة مثل الاحتباس الحراري والتصحر والتخلص من النفايات البلاستيكية، أفكر في أن هذه التوعية وهذا الدفاع عن حقنا ببيئة سليمة صحية وحياة أفضل، لا يكتملان من دون صحافة بيئية حقيقية، فهي الوسيلة الأقوى والأهم لنشر ما نريده من رسائل على أوسع نطاق، ومطالبة الجميع، من أصغر شخص حتى أكبر شركة وحكومة، بما يحتاج إليه كوكبنا من أفعال لا تحتمل التأجيل لحمايته.