الشريط الاخباري

حرب داخل حرب : صراع المرضى من اجل العلاج و البقاء في قطاع غزة … تقرير خاص

نشر بتاريخ: 14-01-2025 | سياسة , PNN مختارات , الصحة
News Main Image

غزة /PNN تقرير.  روند التتر - في غزة ، حيث يُخيم الألم كضيف دائم، خاضت والدتي معركة مزدوجة ضد السرطان والحرب. بينما كان جسدها المنهك يقاوم المرض، فرضت الحرب عليها نزوحاً مستمراً ،متنقلة بين أماكن غير صالحة للعيش ومنازل الأقارب ،في رحلة لانهاية لها بحثاً عن الأمان.

منذ أن تم تشخيص والدتي بسرطان الغدة قبل عشرسنوات ، كانت تعتمد على جلسات العلاج الكيميائي في أحد المستشفيات الخاصة بمعالجة السرطان. ورغم الألم الذي كان يثقل كاهلها ،كانت تبذل جهداً كبيراً لمواصلة العلاج . لكنها لم تكن تعلم أن الصراع مع المرض سيكون أسهل من مواجهة الجوع والحرب . ففي كل مرة كان يقترب فيها الخطر، كنا نضطر إلى مغادرة المنزل الذي يأوينا على عجل، تاركين وراءنا كل شيء، بما في ذلك أدوية والدتي التي كانت في أمسّ الحاجة إليها.

كانت تسير بخطى متعثرة، تحمل على عاتقهاجسداً انهكه المرض وروحاً أثقلها الألم، بيد واحدة تمسك بوشاحها المتدلي على كتفيها .وبالأخرى تتشبث بيدي . لم تكن المسافة طويلة ،لكنها بدت كأنها تمتد بلا نهاية، وكل خطوة كأنها تسرق من عمرها عاماً أخر.

كانت تتوقف بين حين وآخر لتلتقط أنفاسها المتقطعة،التي بالكاد تُسمع وسط أصوات القصفوالانفجارات، ومع كل توقف كانت تنظر حولها بعينيها المنهكتين كأنها تبحث عن مكان آمن تستريح فيه .

صورة للحافلة التي كانت تقل مرضى السرطان لتلقي العلاج بعد ان تعرضت لقصف اسرائيلي 

تصف والدتي بنبرة حزينة ، وهي تروي عن تلك الليالي الطويلة في أحد المنازل الذي لجأت اليها :"كان المنزل مهجوراً منذ زمن طويل ،يفتقر لأدنى اساسيات العيش ،من شبابيك تقي البرد او ابواب تخفينا عن عيون المارين ،وارضية اسمنتية لا يستطيع الانسان الجلوس عليها فكيف هو حالنا عند النوم!؟"

في فصل الشتاء، كان البرد القارس يزيد من آلام أمي ،حيث لم يكن المكان يضم أي وسيلة للتدفئة ،ولا حتى فراش مناسب. وكان جسدها الهزيل يرتجف تحت بطانية خفيفة، بينما كان الالم يتفاقم مع كل ليلة تمر بلا علاج.

نقص الأدوية وانقطاع التيار الكهربائي بسبب استهداف الاحتلال جميع محطات توليد الكهرباء ،كانا كابوساً يومياً ،الأدوية الأساسية لعلاج السرطان لم تكن متوفرة دائماً بسبب الحرب على قطاع غزة ومنع الاحتلال الإسرائيلي دخولها ،وعندما تتوفر، تكون أسعارها مرتفعة جداً. 

توقفت جلسات العلاج الكيمائي أكثر من مرة بسبب عدم توفر المواد اللازمة في المستشفيات أو انقطاع الكهرباء لفترات طويلة.

تروي والدتي بألم:" القصف والبرد جعلا العلاج يبدو وكأنه رفاهية لا أستحقها، لا أريد سوى الدواء. الحرب ليست فقط قنابل؛ الحرب هي أن تُحرم من العلاج وأن ترى جسدك ينهار أمامك، وكأنك تموت في كل لحظة ببطء".

أذهب كل فترة لأحد المراكز الطبية لأُحضر لهاالعلاج، لكن دون جدوى، فهنالك علاجاتتتطلب طبيباً مختصاً ليصف لهاالجرعات، ولا أجد الطبيب ولا العلاج.

محاولاتي للحصول على العلاج باءت بالفشل ،بحثت في كل الصيدليات والمستشفيات ،لكن الأدوية إما نفذت أولم تكن متوفرة ،وإن توفرت تُباع بأسعار مرتفعة تفوق قدرتنا المالية .

كل ذلك لم يكن مجرد ضغطا جسدي ؛فالضغط النفسي الناتج عن النزوح والفقد والخوف من القصف المستمر جعل حالتها أسوأ. كل يوم كانت تسألني:" هل سأعيش لأرى يوماً ينتهي فيه هذا الألم ؟" .

المعاناة التي عاشتها والدتي ليست استثناء ،بل صورة لما يعيشه مئات المرضى في غزة .

تشير تقارير وزارة الصحة الفلسطينية إلى أن أكثر من60% من أدوية مرضى السرطان غير متوفرة فيمستشفيات القطاع، ومع تدمير قصف الجيشالاسرائيلي العديد من المرافق الصحية ، اصبح الوصول إلى العلاج مهمة شبه مستحيلة . حتى الباص الذي لطالما كان مخصصا لنقل المرضى المقيمين في مناطق بعيدة إلى هذه المستشفى، استهدفه الجيش الاسرائيلي بالقصف  أيضاً.”

هذه ليست مجرد قصة والدتي ؛انها قصة الكثيرمن المرضى في غزة .

في طابور طويل أمام أحد المراكز الطبية، جدران متهالكة ،يغطيها الغبار، وأثر الشظايا واضح علىالأسطح ،تتقاطع نظرات المرضى. بعضهم يستند إلى جدران المبنى المتهالك ،والبعض الآخر يجلس على الأرض منهكاً من الانتظار أطفال يمسكون بأيدي أمهاتهم ،وشيوخ يقفون بصعوبة ،وأمهات يخفين دموعهن ، مشهد الانتظار ليس مجرد طابور طويل ؛إنه لوحة إنسانية مليئة بالآمال المكسورة .

تقف أم مازن، سيدة في الستينات من عمرها، تعلووجهها ملامح التعب التي عجزت السنين عن إخفائها. عيناها مليئتان بمزيجٍ من الألم والصبر، كأنهما تحكيان قصة عمر من الكفاح مع المرض والظروف الصعبة. 

أم مازن ليست مجرد مريضة تنتظر دورها في العلاج، بل تكافح مرضاً خطيراً في القلب وسط ظروف صعبة فرضتها الحرب.

أم مازن ؛ هي أم، وجدة، وامرأة حملت على عاتقها أعباء الحياة، لكنها اليوم تحمل في يديها وصفة طبية، وفي قلبها رعب من ألا تجد الدواء الذي يبقى نبضات قلبها مستمرة. 

تقول  بصوت خافت ممزوج بالوجع: " حين أقف هنا تحت الشمس الحارقة، وأحيانا اقف بالبرد القارس، أشعر أن جسدي ينهار. لكن الأصعب من الألم الجسدي هو هذا الإحساس بالخذلان، أنني لا أستطيع الحصول على ما أحتاجه من دواء للحفاظ على حياتي ." 

تتابع بحزن يملأ صوتها : " أحياناً أنتظر ساعات طويلة ،للحصول على علاج ضروري لا يمكن الاستغناء عنه ،فقط لأسمع أن الدواء غير متوفر." 

هذا الانتظار الطويل ارهق جسدها لكنه أيضاً يشعل في داخلها شعوراً بعدم الأمان الصحي ،خاصة مع تدهور حالتها الصحية التي تحتاج الى عناية مستمرة .

في زاوية أخرى من هذا الواقع المؤلم، تواجه السيدة رنا ، ام لثلاثة أطفال  تبلغ من العمر 42 عاماً، معاناة مضاعفة تجمع بين قسوة المرض وظروف الحياة في ظل الحرب. تعيش في منزل صغير سقفه من الزينكو (لوح معدني)، تصدع بسبب القصف وأثار الدمار المحيط به، لايقي من البرد أو الأمطار بشكل كافٍ . داخله مظلم وبسيط، ذو إضاءة خافتة ،نابعة من مصباح صغيريعمل بالبطاريات بسبب انقطاع التيار الكهربائيالمستمر منذ بداية الحرب ،وبداخل غرفة صغيرةتحوي سريراً بسيطاً ومفرش مهترئ ،والهواء ثقيل برائحة الغبار والرطوبة ،وفيه زاوية صغيرة تستخدم كمطبخ مؤقت، بها بعض الأواني البسيطة التي بالكاد تكفي لإعداد وجبة. 

بوجه شاحب وهزيل، تجلس رنا في صمت ،تحمل في داخلها  ألم المرض وألم الحرب معاً ،تحاول التشبث بالأم لرغم كل شيء بينما تحيط بها أصوات الطائرات الحربية الاسرائيلية والانفجارات التي تضاعف من معاناتها النفسية والجسدية.

تقول رنا :" اكتشفت اصابتي بمرض سرطان القولون قبل ثلاث سنوات ،حين اخبروني أنني مصابة لم أصدق ؛فكرت أولاً في أطفالي :من سيرعاهم؟ كيف سأخبرهم؟ كيف سأعيش وأنا أعلم أن العلاج هنا شبه مستحيل؟".

رنا تحتاج لمتابعة متواصلة من طبيب مختص ، توفر هذا قبل الحرب وكان أحد أسباب الطمأنينة بالنسبة لها ، اليوم وفي ظل الحرب القاسية لم يكن بإمكان رنا متابعة حالتها لدى طبيب مختص وهذا بحد ذاته تحد كبير الى جانب الاف التحديات الاخرى.

تقول رنا : " أحتاج إلى فحوصات دورية وعلاجمتخصص، لكن في غزة لا توجد إمكانيات لذلك ،أحياناً أشعر أنني أحارب المرض وحدي ." 

وأضافت : " الطابور أما م المراكز الطبية مرهق،حيث أقف لساعات طويلة وأنا أشعر بالدوار والهزلان بسبب المرض . وفي النهاية ،يقولون لي إن الطبيب غير موجود أو أن الأدوية نفدت، تخيلي أن تضطري للوقوف هكذا وأنتِ تعلمين أن كل دقيقة تأخير قد تعني نهاية أقرب لحياتي."   

يذكر ان هناك ما يقارب 350.000 مريض مصابون بأمراض مزمنة في قطاع غزة حرموا من تلقي الرعاية الصحية اللازمة . كما يعيق نقص الأدوية الأساسية والمستلزمات والامدادات الطبية من امكانية الحصول على أدنى الخدمات الصحية.

للبقاء على قيد الحياة بالإضافة إلى إغلاق مستشفى الصداقة التركي للسرطان الوحيد المتخصص لعلاج المرضى في وسط قطاع غزة.

حدثني الدكتور عبد العزيز أبو سمرة ،أخصائي القلب والأمراض الباطنية في جمعية الهلال الأحمر في غزة عن الوضع الصحي الكارثي الذي يعيشه المرضى، وخاصة المصابين بأمراض مزمنة مثل السرطان وأمراض القلب .

يقول الدكتور عبد العزيز:  " الوضع الصحي في غزة كارثي ويزداد مأساوية  يوما بعد يوم بسبب الحرب . نقص الأدوية والمعدات الطبية الأساسية أصبح واقعاً يومياً يعيق تقديم الرعاية الصحية ،حتى للحالات الحرجة التي لا تحتمل التأخير ." 

وأضاف " يحتاج مرضى السرطان الى رعاية دقيقةومتواصلة تشمل جلسات علاج كيماوي وهذا متوفر فقط في عيادة واحدة في شمال قطاع غزة للحالات الطارئة جداً وغير متوفر باستمرار ، كما يحتاجونلأدوية متخصصة وفحوصات دورية لتقييم تطور الحالة . هذه أمور أساسية في رحلة علاج المرضى وكلها للأسف غير متوفرة في أغلب الأحيان في ظل الحرب بسبب نقص الكوادر  الطبية المتخصصة والأجهزة الضرورية بالإضافة لمنع اسرائيل دخول الكثير من الأدوية ما يجعلنا كأطباء عاجزين عن تقديم العلاج المطلوب، وهذا يؤدي إلى تدهور الحالة الصحية للمرضى بشكل سريع و يؤدي بالنهاية إلى الوفاة."  

ويستكمل الدكتور عبد العزيز :" أما الأمراض الأخرى مثل القلب والسكري وغيرها  فهؤلاء يحتاجون إلى متابعة طبية دقيقة وأدوية منتظمة، لكنهم يواجهون عقبة الطوابير الطويلة التي غالباً ما تنتهي بخبر محزن : العلاج غير متوفر . مرضى القلب على وجه الخصوص ،يتعرضون لخطر كبير إذا لم يحصلوا على علاجهم بانتظام ."  

يتحدث الدكتور عبد العزيز عن الأوضاع في المستشفيات قائلاً : " معظمهم تعمل بأقل من طاقتها بسبب نقص الوقود والكهرباء والمستلزمات الطبية و وتدمير الاحتلال لهذه المستشفيات، فيما الأجهزة  الطبية المعقدة مثل جهاز الموجات الصوتية للقلب "ايكو دوبلر"  وأجهزة علاج الأورام، إما غير متوفرة أو معطلة نتيجة اقتحام الاحتلال الاسرائيلي الى المستشفيات وتدميرها بشكل متعمد. حتى الطواقم الطبية تعاني من ضغط شديد بسبب الأعداد الكبيرة من  الجرحى فيما قتلت اسرائيل أكثر من 980من الطواقم الطبية خلال حرب الابادة واعتقلت آخرين ." 

واختتم حديثه: " أكثر ما يؤلمني وزملائي ليس قلةالإمكانيات فقط، بل آلام المرضى ونظراتهم التي تتشبث بنا للنجاة. 

 أرى نساءً ورجال يبكون في صمت، أو يحاولون التماسك أمام أطفالهم. نفقد كل دقيقة أرواحا كان بالإمكان انقاذها لولا هذا الشلل المتعمد من قبل الاحتلال الاسرائيلي للمنظومة الطبية، نحاول جهدنا كطواقم طبية فعل كل ما باستطاعتنا لكننا نشعر بعجز لا وصف له".

تم انتاج هذا التقرير ضمن مشروع التكليف الصحفي للصحفيات المستقلات في غزة . والذي يضم ٣٠ صحفية تم اختيارهم لانتاج قصتين انسانيتين عن اثر الحرب والابادة في اطار برنامج تابع للمنظمة العالمية للنشر وصانعي الاخبار Wan ifra بالتعاون مع نقابة الصحفيين الفلسطينيين والاتحاد الدولي للصحفيين.

 

شارك هذا الخبر!