تأتي ذكرى إعلان الاستقلال الفلسطيني كل عام بصورة مختلفة قليلاً، لكنها تحمل المفارقة ذاتها: دولة أعلنت استقلالها منذ 1988، بينما ما تزال أرضها خاضعة للاحتلال، وحدودها مرسومة على الخرائط أكثر مما هي مرسومة على الأرض.
الواقع الفلسطيني اليوم يجعل سؤال “كيف نحتفل بالاستقلال ونحن بلا سيادة؟” سؤالًا مشروعًا وليس استفزازيًا.
في الضفة الغربية تقطع الحواجز أوصال المدن والقرى، وفي القدس تتسارع عملية تهويد المدينة ومحاصرة أهلها، أما غزة فتعيش حصارًا ممتدًا وحروبًا متكررة، وفي الشتات ينتظر مفتاح العودة.
ومع ذلك، يستمر الاحتفال لأن الإعلان لم يكن مجرد مناسبة سياسية، بل محاولة لانتزاع هوية وطنية وسط ظروف تُفكّك الجغرافيا وتستنزف الإنسان.
الاستقلال الفلسطيني كان فعلًا دفاعيًا قبل أن يكون إعلانًا رسميًا. جاء ليقول للعالم إن غياب الدولة على الأرض لا يعني غياب الحق، وإن الاحتلال مهما اشتد لا يمنح شرعية للبقاء. لكن التحدّي الأكبر هو أن هذا الاستقلال بقي رمزًا أكثر مما أصبح واقعًا، فالدولة التي أعلنت على الورق لم تنجح القوى الدولية في حمايتها، ولم يسمح الاحتلال بتحققها.
ومع الزمن تبيّن أن الفلسطيني يعيش بين عالمين: عالم قانوني يعترف بدولته، وعالم واقعي يضعه تحت سلطة احتلال يتحكم في تفاصيل يومه؛ من حركة البضائع إلى حركة البشر. هذه الفجوة بين الاعتراف الدولي والواقع اليومي ليست مجرد خلل سياسي، بل هي حالة فراغ تعيش فيها الدولة “نصف موجودة” و“نصف غائبة”.
لكن المفارقة تحمل جزءًا آخر من الحقيقة: الفلسطيني لم يتعامل مع ذكرى الاستقلال كطقس رسمي، بل كمساحة يذكّر فيها نفسه والعالم بأن القضية لم تُنهك رغم محاولات محوها. وفي كل عام، يصبح الاحتفال فعل رفض للواقع القائم، وتأكيدًا أن الدولة ليست مجرد حدود وسيادة سياسية، بل قدرة شعب على البقاء رغم كل ما يُفرض عليه.
الاستقلال الفلسطيني لا يشبه الاستقلالات التقليدية التي أعقبت نهاية الاستعمار في دول العالم. إنه استقلال تحت ضغط مستمر، تُختبر مشروعيته يوميًا في الشارع الفلسطيني، بين الحاجز والبيت، وبين التصريح والكرامة، وبين ورقة الاستقلال وحقيقة الاحتلال. ولهذا، يبقى استقلالًا معلّقًا؛ حيًا في الوعي، متعثرًا في الجغرافيا، لكنه لم يتحول يومًا إلى ذكرى منتهية.
وفي نهاية المطاف، لا يُحيي الفلسطيني ذكرى الاستقلال لأنه يملك دولة ناجزة، بل لأنه يملك حقًا لا يريد العالم الاعتراف بتوقيته. هو يحتفل بما يجب أن يكون، لا بما هو قائم، ويمسك بالحلم كي لا يسقط في قسوة الواقع. هذا الإصرار وحده هو ما يحافظ على معنى الاستقلال المؤجّل، ويحوّله من حدث إلى وعد مستمر في وجه الاحتلال.