الشريط الاخباري

مشنقة على كتف دولة بقلم عيسى قراقع

نشر بتاريخ: 14-12-2025 | أفكار
News Main Image

كشف مقطع فيديو يوم 8.12.2025 وخلال جلسة للجنة الأمن القومي في اسرائيل المخصصة لمناقشة قانون اعدام الاسرى الفلسطينيين، ارتداء وزير الأمن القومي الاسرائيلي المتطرف ابن غافير وعدد من أعضاء حزبه جاكيتا وعلى كتفه دبوسا على شكل حبل مشنقة، يلمع كأنه شبح من القرون الوسطى، خرج من ظلام تلك العصور الهمجية، وعى إثر ذلك بدأ الجنود الاسرائيليين يضعون على بزاتهم العسكرية رمز المشنقة.

لم يكن الدبوس زينة، بل كان إعلانًا: أن الموت يمكن أن يتحول إلى شعار رسمي، وان اعدام الفلسطينيين قد تحول إلى احتفالات رسمية وجماهيرية، وتسلية ومتعة وزينة، وان البربرية يمكن أن ترتدي ثوب القانون، الخيط الرفيع بين القانون والجريمة يمكن أن يُقطع بحركة إصبع على مسدس، او على حبل مقصلة، أو قنبلة تحول الناس إلى أشلاء في غزة.

جلس الوزير وهو يستعرض مشنقته كما لو أنها وسام شجاعة وبطولة، بينما كانت القاعة تناقش “قانون الإعدام للأسرى الفلسطينيين“وانجع الوسائل للقتل: الكرسي الكهربائي، الشنق، السم، اعدام بالرصاص، التعذيب حتى الموت، وقد احضر أعضاء الجلسة تقاريرا حول خبرات وتجارب الإعدامات في السجون الاستعمارية، وطرحوا كافة الأفكار الدموية التي تشبع نشواتهم وغرائزهم العدوانية.

بدا المشهد وكأن أوروبا تعود من جديد بوجوه جديدة، كأن ساحات القرون الوسطى أُعيد بناؤها داخل قاعة البرلمان الاسرائيلي، وكأن الحبل القديم عاد ليلتفّ على أعناق جديدة، لكنه هذه المرة حبل قانوني، مكتوب بمداد سياسي، ومسكون بتاريخ استعمار لا يتحدث الا بلسان الموت والحقد والكراهية.

كان الحبل دائمًا هناك قبل ان يشرّعوه، في السجون واقبية التحقيق، في الشوارع وفي كل مكان، في المداهمات والاعتقالات، الإعدام الميداني خارج نطاق القضاء أصبح قاعدة وليس استثناء، كل اسير فلسطيني قنبلة موقوتة يجب تفجيره، وما جرى في المعتقلات منذ الحرب على غزة كان إبادة جسدية وروحية أشد من الاعدام، قتل مباشر و ممنهج وبتعليمات رسمية، مشاهد مرعبة وبشعة، وتصفيق للجلادين واعتبارهم أبطالا قوميين، لا محاسبة ولا حدود لهذه الوحشية التي تعتبر عارا على جبين الإنسانية.

منذ النكبة  وحتى الان لم يكن الفلسطيني بحاجة إلى قانون ليُقتل: كان يُعدم في الطريق، على الحاجز، في السجن، في الزنزانة، تحت التعذيب، تحت القصف، كانت المشنقة تُنصب دون حطب وخشب، يكفي قرار عسكري، يكفي جندي واحد، يكفي أن يتنفس الأسير بطريقة لا تعجب الحارس، وكل جندي هو قاض ومحكمة متحركة، أصبح قتل الفلسطيني ثقافة وسلوكاً وعقيدة ومؤسسة.

لذا بدا القانون الجديد الذي عنوانه المشنقة بلا معنى أو لعل معناه الحقيقي ليس الإعدام، بل إعلان الإعدام لكل من يقاوم الاحتلال، ويبحث عن حريته وكرامته وحقه في الحياة الحرة الشريفة، إنه ليس قانونًا للقتل، بل قانونًا لشرعنة ما قُتل، وتنظيف ايادي المجرمين من الدماء، وجعل العنف عملا مقدسا، وإبادة الفلسطيني قرار من السماء.

ابن غافير قائد التوحش في السجون ليس فردا، أنه هذه الدولة التي تضع على كتفها المشانق والصواريخ، وتدفن البشر تحت الانقاض، أنه رئيس مافيا ارهابية تسمى دولة، عضو في الأمم المتحدة، دولة اصبحت آلة عنف عارية، رافعة للقتل وعصابة مقننة، صك غفران يقول: نحن دولة قانون حتى عندما نقتل، وما زلنا أعضاء في المجتمع العالمي رغم ارتكابنا الابادة، وان الجريمة واجب وطني لحماية الدولة الوحيدة التي أصبح شعارها حبل المشنقة.
يحلم ابن غافير بقانون يقتل الأسير لا لأنه خطر، بل لأنه فلسطيني، فالاسير فكرة، والفكرة يجب أن تعدم، لهذا يحمل مشنقة تبحث عن عنق الحقيقة، أنه خائف يحتاج إلى مشنقة كي يشعر بالامن، يخشى مزيدا من انهيار عالمه الأخلاقي من الداخل، يحتاج إلى قانون يبيح القتل ليصير جزءا من هوية سياسية، وكأنه يقول: الخوف من الأسير اكبر من المجتمع الدولي، المشنقة تكشف قلق الجلاد وهشاشة قوته العسكرية.

في أوروبا القديمة كان الإعدام مسرحًا للعامة والفرجة والتصوير والمشاهدة كما هو الان في اسرائيل:

حين كانت المقاصل ترتفع في باريس، والمشانق في لندن، ومحاكم التفتيش في مدريد، كان الحكّام يعرفون معنى العرض في ساحات تقطيع الرؤوس وخنق حركات التحرر، أن يرى الناس الجسد وهو يتدلى، أن يعرفوا أين تقف الدولة وأين يقف الفرد، نحن نملك الحياة والموت وانتم تشهدون، الطاعة والخضوع حياة، والعصيان فناء، والاعدام هنا محاولة لقمع الوعي قبل الجسد وإنتاج الخوف، المشنقة  ليست خشبة وحبلا، بل لغة استعمارية مستمرة حتى اليوم.

لا تختلف الصورة كثيرًا عما جرى في تلك العصور المظلمة، المشنقة التي يضعها ابن غفير على صدره هي امتدادٌ لتلك العروض الكبرى، الخلع والصلب والحرق والشنق واالتقطيع كعروض مثيرة، والعرض الاسرائيلي الان ليس دعوة لإعدام الأسير فحسب، بل دعوة لعرضٍ شامل وواسع ذات أهداف بنيوية وايديولوجية:

أن يرى الفلسطينيون حبلًا يتدلى فوق رؤوسهم جميعًا، أن يشعروا بأن الموت ليس عقوبة، بل سياسة ودستورا ونظاما يقول لكل جندي وسجان: اقتل وافعل ما تشاء، المؤسسة معك، لن تحاسب، فالحبل بيد الدولة وليس بيدك، وان اعدام الاسرى هو عرض للقوة السيادية، القانون هنا أصبح قفازا حريريا تخفي بداخله يد من حديد.

منذ بداية الاحتلال تحولت المحاكم الاسرائيلية الي قاعات لإعدام الاسرى، احكام رادعة، زج الاسرى في االمؤبدات، اعتقالات إدارية مفتوحة على المجهول، اعتقال الاطفال والنساء وتشريع التعذيب ونسف البيوت ونهبها، التمييز العنصري وغياب العدالة، وقد أصبح القضاء الاسرائيلي اكبر مشنقة لسحق إنسانية الإنسان تحت غطاء القانون، وقناعا لتكريس القمع والاحتلال.

البرلمان الاسرائيلي سن عشرات القوانين المعادية لحقوق الاسرى ولمواثيق حقوق الانسان، قوانين موت، وتجريد الاسرى من حقوقهم الاساسية، تجريم نضال وكفاح الشعب الفلسطيني المشروعة، وأصبح البرلمان الاسرائيلى برلمانا مهووسا ومبدعا ومتفوقا على كل برلمانات العالم في تشريع القوانين العنصرية حتى أطلق عليه: برلمان المشنقة.

ليس مفاجئة هذا القانون، فالاعدام ينفذ، وأكثر من مائة اسير فلسطيني أعدموا في السجون منذ حرب الإبادة على غزة،  وصار سجن سدي تيمان مسلخا ومقصلة ومقبرة، عنوانا للمعدومين والمختفين قسرا، العشرات اختفوا، الجثث سجنت في الحاويات الباردة، أو ألقيت تحت الرمال في غزة، وما ابشع الإعدام هناك: تجويع وضرب وأمراض واعتداءات جنسية واغتصاب، سحل ودعس وإذلال وتعرية، يموت الأسير الف مرة، ليس فقط موت الجسد، وانما موت الروح والهوية، وقد شاهد الجميع فنون  التعذيب على أجساد الشهداء الذين اطلق سراحهم، التشويه والحرق والتحطيم والبتر والخلع، اصابع مقطوعة، بطون مبقورة، اياد مكبلة، اضراس مكسورة، وعيون مقلوعة، حتى الاحياء الذين نجوا فقد أعدموا نفسيا ووجدانيا، هياكل عظمية، ملامح شاحبة، واجسام ظلال هزيلة. 

في زمن الاستعمار خرجت المشانق من أوروبا إلى العالم وتحولت في تل ابيب الى حضارة:

في الهند، كانت المشانق البريطانية تقتل الثوار كما تُقطع الثمار من شجرة.

في الجزائر، كانت المقصلة الفرنسية تعمل بانتظام كأنها آلة اقتصادية.

في الكونغو، لم يحتج البلجيكيون إلى المقصلة، فقد كان قطع الأيدي كافيًا.

وفي فلسطين، جاء الإنجليز بمشانقهم، ثم جاء الاحتلال الحالي بما هو أسوأ من المشانق:

الحصار، القصف، القتل البطيء، الموت داخل السجن، كأنه جرافة تقتلع الوجود الفلسطيني، وتعتبر الشعب الفلسطيني مجرد جثث معلقة.

اليوم، حين يناقش الكنيست قانون الإعدام، فإنه لا يخترع جديدًا، بل يعيد نسخة قديمة من تاريخ طويل اسمه: القتل الاستعماري، الات الهيمنة والسيطرة، وقهر الشعوب وتحويل أحلامها إلى رماد.

الغاية من هذا القانون ليست الجسد، بل ما يمثّله الجسد، الأسير الفلسطيني ليس رقمًا في السجن، بل ضمير شعب، حين يقف الأسير، يقف معه تاريخ كامل من المقاومة والصمود،

وحين يُطلب إعدامه، لا يُراد قتله هو، بل قتل ما يمثّله:

العناد، القدرة على الاحتمال، الرفض، الكرامة، الذاكرة، الامل، الحرية، الخلاص، الايمان، لذلك تبدو المشنقة التي يرتديها الوزير أكبر من حقيقتها المعدنية الصغيرة، إنها محاولة لقتل الفكرة والرواية والرمز لا الإنسان، هي محاولة لخنق الصوت الذي لا تستطيع السجون كتمه، ولا تستطيع البنادق إسكات نبضه.

هذا هو النص الحقيقي الذي يختفي خلف قانون المشنقة،

أن يقال لكل فلسطيني: نحن نملك رقابكم،
"إذا قاومت سنعدمك
وإذا استسلمت سنعدمك
وإذا ظللت صامتًا سنعدمك
وإذا بقيت حيًا سنجعل الموت يمر عليك كل يوم".

إنها سياسة لا ترى المستقبل إلا حين يكون خالياً من الفلسطينيين، سياسة تريد أن تجعل من المشنقة جزءًا من الحياة اليومية، من التفاصيل، من الهواء، حتى يختنق الحلم وحده، إعادة تعريف الفلسطيني بأنه قابل للاعدام وتفريغ المقاومة من شرعية التحرر الوطني، وتحويل كل فعل مقاوم إلى جريمة تستحق الموت.

لكن المشنقة الموسومة على كتف هذه الدولة لم تنتصر يومًا، في كل تاريخها الطويل، كانت المشنقة تنتصر في اللحظة الأولى، ثم تخسر في اليوم التالي عندما ينهض الشهداء من الذاكرة.

المقصلة لم تمنع الثورة الفرنسية من الاستمرار، مشانق بريطانيا لم تنهِ ثورة الهند، مشانق الاستعمار الفرنسي لم تطفئ روح الجزائر، ومشانق إسرائيل لن تُطفئ روح فلسطين، منذ قرون، لم يكن الحبل يومًا أقوى من الفكرة، ولم يكن الموت أقوى من الذين يحلمون ويصعدون باحلامهم حجرا وانتفاضة وشمسا وصلاة.
في النهاية، لا يبدو دبوس المشنقة الذي يحمله ابن غافير وعصابته رمز قوة، بل رمز فزع، فمن يحتاج إلى تعليق مشنقة على صدره ليشعر بالأمان هو شخص خائف، لا شخص قوي.

والدولة التي تحتاج إلى قانون للقتل هي دولة فقدت شرعيتها الأخلاقية، والسلطة التي تشرّع الإعدام، بعد أن مارسته أكثر من سبعين عامًا دون قانون، تعترف ضمنيًا بشيء واحد:

أن الأسير الذي يريدون إعدامه أقوى منهم، وأن الشعب الذي يريدون تخويفه يزداد شجاعة واصرارا، وأن القضية التي يريدون قتلها لا تموت، وكما قال شاعرنا سميح القاسم: انا لا احبك يا موت، ولكني لا اخافك.

شارك هذا الخبر!