رام الله / PNN - في كل يوم سبت، تمرّ أغنام يملكها مستوطنون يهود عبر بساتين الزيتون التي اعتنت بها عائلة رزق أبو نعيم لأجيال، فتكسّر الأغصان وتُضعف الجذور. يقود المستوطنون المتطرفون المسلحون، وأحيانًا المقنّعون، قطعانهم للشرب من مصادر المياه الشحيحة التي تعتمد عليها الأسرة، فيما يراقبهم أبو نعيم من خيام بدائية في قرية المغيّر وسط الضفة الغربية، حيث يقيم مطلًا على الوادي.
أتوسل إليكم، أتوسل. يا الله، دعونا وشأننا، يتذكر أبو نعيم قوله للمستوطنين خلال مواجهة حديثة. اذهبوا فقط. لا نريد مشاكل.
يقول إن المستوطنين الإسرائيليين استولوا على مساحات واسعة من أراضي عائلته المزروعة بالقمح، بعدما أقاموا بؤرًا استيطانية غير قانونية على التلال القريبة.
يقول مايكل دي شير، ودانيال بيريهولاك، وليان أبراهام، وفاطمة عبد الكريم، في تقرير بصحيفة نيويورك تايمز، إن طرقا جديدة شُقت عبر الأراضي التي كانت ترعى فيها أغنام أبو نعيم، ويضيف أن المستوطنين يسرقون الحيوانات مرارًا. وقبل ستة أشهر، اقتحم مستوطن مقنّع ومسلّح منزله عند الثالثة فجرًا، بحسب روايته. كما وصف مداهمة أخرى في ديسمبر الماضي، حين مزّق المهاجمون الخيام وسرقوا الألواح الشمسية من منزل ابنه القريب.
تتناوب العائلة الحراسة ليلًا لحماية الأغنام من اعتداءات المستوطنين. وفي أحد الأيام، وجدناه مستلقيًا على وسائد، واضعًا مذياعًا صغيرًا على أذنه، يتابع أخبار المنطقة.
اذهبوا. ارحلوا من هنا. غادروا، يقول أبو نعيم إن المستوطنين يكررونها عليه باستمرار. ويردّ عليهم: عمري 70 عامًا، وعشت هنا طوال حياتي. أنتم جئتم أمس، والآن تريدونني أن أرحل. هذا بيتي.
قد يبدو مصير مزارع يحاول انتزاع رزقه من أرض تنتشر فيها قطعان الأغنام وأشجار الزيتون المعمّرة منذ العصور التوراتية بعيدًا عن عالم اليوم المزدحم بصراعات القوى العظمى.
لكن هذه التلال والقرى النائية تقع عند خط تماس صراع جيوسياسي مستعصٍ.
ففي الوقت الذي استحوذت فيه الحرب في غزة على اهتمام العالم خلال العامين الماضيين، كانت الوقائع على الأرض تتبدّل في الضفة الغربية، مع تصاعد المعركة للسيطرة على أراضي بيت لحم وأريحا ورام الله والخليل.
بالنسبة لكثير من الفلسطينيين، تمثّل هذه الأراضي قاعدة دولتهم المستقبلية، وأساس أي سلام ممكن. أما بالنسبة لكثير من اليهود، فهي وطن يُنظر إليه على أنه حق تاريخي.
يشكّل المستوطنون اليهود المتطرفون والمزارعون الفلسطينيون جنود الصف الأول في هذا الصراع الممتد، وهو امتداد لحرب عام 1948 التي رافقت قيام إسرائيل. ومنذ هجوم 7 أكتوبر 2023 الذي شنته جماعات فلسطينية من غزة على إسرائيل، احتضنت الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة سياسة توسيع الاستيطان في الضفة الغربية، محوّلة المنطقة تدريجيًا من فسيفساء قرى فلسطينية مترابطة إلى تجمعات أحياء إسرائيلية.
وتتكوّن الحملة العنيفة المتواصلة التي يقول منتقدون إن الجيش الإسرائيلي يتسامح معها إلى حد كبير، من مضايقات وحشية، وضرب، وحتى قتل، فضلًا عن إغلاقات طرق واسعة النطاق وإغلاق قرى بأكملها. ويترافق ذلك مع تصاعد حاد في مصادرة الأراضي وهدم القرى، لدفع الفلسطينيين إلى ترك أراضيهم.
كثير من المستوطنين شبّان متطرفون تتجاوز أفكارهم حتى أيديولوجية الحكومة اليمينية المتطرفة. وهم لا يتحركون غالبًا بأوامر مباشرة من القيادة العسكرية، لكنهم يدركون أن الجيش يتغاضى عن أفعالهم كثيرًا، بل ويسهّلها في حالات عديدة.
وفي كثير من الحالات، يكون الجيش نفسه هو من يجبر الفلسطينيين على الإخلاء أو يأمر بهدم منازلهم بعد أن يدفعهم المستوطنون إلى الفرار.
حاولنا التحدث إلى مستوطنين قرب قريتين في الضفة الغربية تعرضتا لهذا النوع من الضغوط، لكن أحدًا لم يوافق على الحديث معنا.
وفي بيان، قال الجيش الإسرائيلي إن قوات الأمن ملتزمة بالحفاظ على النظام والأمن لجميع سكان المنطقة، وتعمل بحزم ضد أي مظاهر عنف ضمن نطاق مسؤوليتها.
لم تُخفِ الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة هدفها: إفشال ما يسميه الدبلوماسيون حل الدولتين، إسرائيلية وفلسطينية، جنبًا إلى جنب. وقال وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش مؤخرًا: “كل بلدة، كل حي، كل وحدة سكنية، هي مسمار آخر في نعش هذه الفكرة الخطيرة”.
وحذّرت الأمم المتحدة والولايات المتحدة ومعظم العالم الغربي منذ سنوات من أن التوسع الاستيطاني المتواصل سيجعل إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا أمرًا مستحيلًا في نهاية المطاف.
في أنحاء الضفة الغربية، يسود اليأس بين القرويين والمزارعين الفلسطينيين وهم يشاهدون الاستيلاء على أراضيهم بوتيرة غير مسبوقة. ويتزايد الخوف من أن هذه التحولات باتت بالفعل غير قابلة للتراجع.
أمضينا أكثر من شهرين في نحو 12 قرية في الضفة الغربية، التقينا خلالها عائلات فلسطينية ومسؤولين محليين ومزارعين من البدو، ونشطاء حقوق إنسان شبابًا، كثير منهم قدموا من الخارج. وشاهدنا مجموعات من المستوطنين الإسرائيليين الشبان يدخلون القرى الفلسطينية لمضايقة السكان أو ترهيبهم.
التقينا عائلة في طولكرم استشهدت ابنتهم رهف الأشقر، البالغة من العمر 21 عامًا، في فبراير إثر انفجار تسببت به قوات إسرائيلية داهمت منزلهم مدعية أنها تبحث عن إرهابيين.
وشاهدنا سياجًا بطول خمسة أمتار مغطى بأسلاك شائكة، أُقيم هذا العام في بلدة سنجل، ويفصل الآن وليد نعيم عن بساتين عائلته.
ورأينا مستوطنين يغلقون الطريق ويحاولون منع مزارعين فلسطينيين من مغادرة أراضيهم بعد قطاف الزيتون في أكتوبر.
وفي أكتوبر أيضًا، وبعد أن اقتحم مستوطنون وجنود بوابة مزرعة مشير حمدان في قرية ترمسعيا، قرر إخلاء أغنامه وماشيته ودواجنِه حفاظًا على مصدر رزقه.
ودرست صحيفة نيويورك تايمز بيانات خرائط وأوامر قضائية توثّق توسع مطالب الحكومة الإسرائيلية بأراضٍ كانت طويلًا في حوزة الفلسطينيين. كما صوّرنا إنشاء حواجز إسرائيلية تهدف إلى تقييد حركة الفلسطينيين، ورأينا إقامة أسوار تقطع المزارعين عن أراضيهم.
الهجوم الإسرائيلي قضى فعليًا على أي وجود فلسطيني حر في الضفة الغربية. فبينما تحكم السلطة الفلسطينية جزءًا منها، يبقى الجيش الإسرائيلي القوة المحتلة على كامل الإقليم، وتعلو القوانين العسكرية على سلطة الحكم المحلي.
ولا توجد إجراءات قانونية حقيقية، ويعيش القرويون الفلسطينيون تحت رحمة مستوطنين مسلحين وجنود يمتلكون سلطة شبه مطلقة. ونادرًا ما يُحتجز المستوطنون -الخاضعون للقانون المدني الإسرائيلي بدلًا من الولاية العسكرية- بسبب أفعالهم العنيفة، في حين يعتقل الجيش الفلسطينيين بشكل روتيني دون تفسير واضح.
وفي أواخر نوفمبر، أطلق الجيش الإسرائيلي عملية قال إنها لمكافحة الإرهاب في مدينة طوباس، واعتقل 22 فلسطينيًا. وفي 10 ديسمبر، وافق مسؤولون إسرائيليون على بناء 764 وحدة سكنية في ثلاث مستوطنات. وقبلها بيوم، اقتلع الجيش نحو 20 دونمًا من أشجار الزيتون جنوب نابلس.
كيف تُفرَّغُ قرية من سكانها؟
تتجلى حملة عزل الفلسطينيين ودفعهم عن أراضيهم بوضوح في قرية المغيّر، على بعد نحو 20 ميلًا شمال القدس. ما كان يومًا قرية فلسطينية مزدهرة، أُحيط الآن بالمستوطنات اليهودية، وحُشر سكانها في مساحات تتقلص باستمرار، مقطوعين عن أراضيهم ومصادر رزقهم.
وتُعدّ المغير واحدة من عدة قرى فلسطينية صغيرة في وسط الضفة الغربية، تعرضت جميعها خلال الأشهر الأخيرة لاستهداف مكثف من المستوطنين والحكومة الإسرائيلية.
يبدأ الأمر بمطالبات بالإخلاء، ثم بنصب حواجز حديدية ضخمة تقطع القرى عن بقية الضفة الغربية.
ومع مرور الوقت، تنمو البؤر الاستيطانية، وغالبًا ما تُشرعن رسميًا. يبني المستوطنون منازل ومدارس وطرقًا لاستيعاب مئات ثم آلاف العائلات اليهودية. وفي القرى الفلسطينية يحدث العكس: تُغلق المدارس، ويُحرم المزارعون من أراضيهم، وتُهدم البيوت.
بدأت الحملة فعليًا بعد عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2022، وتسارعت بعد اندلاع الحرب. وخلال عامي 2024 و2025، أقام الإسرائيليون نحو 130 بؤرة استيطانية جديدة، أكثر مما أُقيم خلال العقدين السابقين مجتمعين، وفقًا لمنظمة السلام الآن.
الوجه الآخر للبناء هو التدمير. في عام 2025 وحده، دمّر المستوطنون والجيش أكثر من 1500 منشأة فلسطينية، أي ضعف المعدل السنوي في العقد الذي سبق الحرب.
بدأ تفكيك قرية شرق معرجات بعد وقت قصير من هجوم للمستوطنين. ففي 3 يوليو، اقتحم مستوطنون بمساندة جنود إسرائيليين بيوت القرية التي سكنتها عائلات بدوية لأجيال في تلال الأغوار شمال أريحا.
وبعد سنوات من المضايقات، قرر السكان الفرار ليلًا عندما وصل عشرات المستوطنين المقنّعين، بعضهم مخمور، على دراجات رباعية الدفع، ملوّحين بالأسلحة، ومطوّقين النساء والأطفال.
دهسوا البيوت بالمركبات ونهبوها وهم يصرخون بالشتائم. كان المشهد أشبه بمجمع كامل من الصراخ، قال محمد مليحات، أحد السكان: “كنا نخشى أمورًا لا يمكن وصفها”.
وقال الجيش الإسرائيلي إن جنوده وصلوا بعد بلاغات عن احتكاك، لكن لم يتم رصد حوادث عنف.
غادر السكان تلك الليلة، وتحوّلت القرية لاحقًا إلى ركام. تعيش عائلة مليحات الآن في خيام بلا ماء أو كهرباء، على بُعد أميال قليلة من قريتهم السابقة.
مضايقات لا تنتهي
تصاعدت هجمات المستوطنين المتطرفين خلال العامين الأخيرين، وبلغت ذروتها في أكتوبر، بمعدل ثماني هجمات يوميًا، وهو الأعلى منذ بدء توثيق الأمم المتحدة قبل عقدين. وتزامن ذلك مع موسم قطاف الزيتون، وهو موسم حاسم لآلاف العائلات الفلسطينية.
شهدنا اعتداءً على يوسف فاندي وشقيقه في حوارة صباح 9 أكتوبر. طوّقهم مستوطنون مسلحون، أحدهم على ظهر حصان. أخذوا هواتفهم، وأجبروهم على الاستلقاء أرضًا، وانهالوا عليهم ضربًا. ظننت أنهم سيطلقون النار علينا، قال يوسف.
وبحسب الأمم المتحدة، أُصيب 151 فلسطينيًا منذ 1 أكتوبر في 178 هجومًا على قاطفي الزيتون.
وحين وصل الجيش، طرد المستوطنين، لكنه منع الفلسطينيين من العودة، مشهرًا أمرًا عسكريًا يمنع دخول المنطقة لمدة 30 يومًا. هذه أرضي، احتج يوسف فاندي، لديّ وثائق تثبت ذلك.
مواجهات قاتلة
بالنسبة لسيف الله مسلّت، شاب فلسطيني أمريكي يبلغ 20 عامًا، انتهت إحدى المواجهات بالموت.
في يوليو، هاجم مستوطنون مسلحون مزارعين قرب قرية سنجل. دهست شاحنة مجموعة فلسطينيين، ثم تعرّضت سيارة إسعاف للرشق بالحجارة.
قُتل مسلّت ضربًا، وقُتل شاب آخر هو محمد شلبي (23 عامًا).
ووصف السفير الأمريكي لدى إسرائيل، مايك هاكابي، الحادثة بأنها عمل إجرامي وإرهابي، داعيًا إلى تحقيق جدي.
وخلال ثلاث سنوات فقط، قُتل أكثر من 1200 فلسطيني في الضفة الغربية، أي ضعف العقد السابق، وفق الأمم المتحدة.
هجمات متجددة
لم تتوقف التهديدات ضد رزق أبو نعيم. في 7 ديسمبر، هاجم ثمانية مستوطنين مقنّعين خيام العائلة ليلًا، فأُصيب ستة، بينهم حفيده البالغ 13 عامًا. ثم عاد المستوطنون بعد أيام، وتبعهم الجيش الذي أعلن المنطقة أنها عسكرية مغلقة.
ومن حافة الجرف، يراقب أبو نعيم أغنامه والمستوطنات الجديدة، محاولًا تحذير عائلته. الحرب في غزة كانت نقطة تحول، قال. لكن هؤلاء مختلفون تمامًا.
المصدر / القدس العربي / نيويورك تايمز