ينتهي عامٌ آخر، ويقف العالم على عتباته يلتقط أنفاسه، فيما نقف نحن—الفلسطينيين—على حافة زمنٍ يشبهنا: متشظّيًا، مُثقلًا، لكنه لا ينكسر.
يمضي العام ليترك خلفه ندوبًا لا تُرى إلا بتقويم الروح؛ ندوبٌ ليست علامة ضعف، بل توقيعٌ يقول إننا كنّا هنا، وواجهنا، ولم نتراجع.
فلسطينيًا، لم يكن العام صفحة تُطوى…كان سؤالًا مفتوحًا يتجاوز التاريخ إلى معنى الوجود ذاته. لقد كان اختبارًا للفكرة التي تحدّث عنها كبار الفلاسفة: أن الإنسان ليس ما يحدث له… بل ما يفعله بما يحدث له.
ونحن، كما يصف نيتشه: "نحمل جراحنا كما يحمل المحارب رايته".
وكما يرى محمود درويش: "نكتب دمنا بالحبر نفسه الذي نكتب به قصائدنا".
مع نهاية هذا العام، لا نقف على حدود الوقت كغيرنا؛ فالفلسطيني لا يبدّل السنوات كما يبدّل صفحات التقويم، بل يحمل على كتفيه زمناً يكاد يكون أثقل من الجاذبية. نحن أبناء أرضٍ يعرف العالم جغرافيتها، لكن لا أحد يعرف عمق جراحها. جراحٌ بحجم الأرض، لا تُخاط ولا تندمل، لأنها ليست مجرّد ألم؛ بل ذاكرة، والذاكرة —كما يقول بول ريكور— ليست شيئاً ننساه، بل شيئاً نعيد تأويله كي نبقى قادرين على الحياة.
نودّع عاماً لم يحتمل هشاشتنا، واستقبلنا بفتوحات الألم، وكأن الجرح كان يسير أمامنا ويملي علينا الطريق. ومع ذلك، لم نغب، "فنّ الحضور" الذي تحدّث عنه هايدغر، يمارسه الفلسطيني دون أن يتعلّمه؛ نحن نجيد أن نحضر بأجساد منقوصة، بأحلام مبتورة، ببيوت بلا أسقف… لكن بحضور كامل لا يستطيع الغياب أن يبتلعه.
نقف اليوم في نهاية العام، ليس لنعدّ الخسارات، بل لنرى ما تبقّى منّا، وما نجونا به. فالنجاة هنا ليست فعلاً جسديًا؛ إنها، بتعبير كامو، "تمرّد هادئ أمام العبث". تمرّدٌ نمارسه كل يوم حين نفتح نوافذنا، حين نقول صباح الخير، حين نصلّي، نكتب، ندفن شهداءنا، ونواصل السير فوق الركام وكأن الأرض تُعاد كتابتها بأقدامنا.
ولأننا فلسطينيون، نفعل ما لا يستطيع غيرنا فعله:
نحوّل الألم إلى معنى.
نحوّل الغياب إلى حضور.
نحوّل الدمار إلى بداية جديدة.
وكما نفعل دائمًا، لم نستسلم للحصار ولا للخراب؛ واجهنا القهر وحدنا، وتقدّمنا في عامٍ كان العالم فيه بعيدًا عنّا. قاومنا ليس لأننا نهوى المقاومة، بل لأن لنا حقاً في الهواء الذي نتنفسه، وفي الليل الذي نحلم فيه، وفي الوطن الذي ينادينا كنداء أوّل للخلق.
إن كان العالم يرى فينا شعباً يتألم، فنحن نعرف أننا شعب يتجاوز الألم. وإن كانت السنوات تتعاقب كاختبار، فنحن لا نترقب عاماً أخفّ، بل نتجه إليه كمن يذهب إلى قدره بثبات. فالفلسطيني —كما يقول نيتشه عن الإنسان القادر على النهوض— "لا يُهزم، لأنه يعرف كيف يحوّل السقوط إلى خطوة جديدة."
عامٌ ينتهي، ولكن الروح لا تنتهي. وعامٌ جديد سيأتي، وسيحمل معه سؤالنا القديم: كيف نواصل؟ وكيف نستحق هذا الوطن كل يوم؟ نواصل لأننا نعرف، كما عرف محمود درويش، أن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
ونستحق الوطن… لأننا ما زلنا نقف، وما زلنا نحضر، وما زلنا نسمّي أبناءنا "وطن" و"كرمل" و"حرية".
ولذلك، سنمضي؛ ولو كان الجرح أوسع من الجسد.