تجاوز الاعتراف الإسرائيلي بصومالي لاند في ديسمبر 2025 حدود الخطوة الدبلوماسية البسيطة إلى بابٍ يُفتح على تحولات جيوسياسية مهمة في قلب القرن الإفريقي، ففي مشهد سياسي وإقليمي يشهد تصعيدًا وتنافسًا بين قوى دولية وإقليمية، قد تعيد هذه الخطوة رسم خطوط النفوذ، واستنهاض النقاش الدولي حول مفهوم الاعتراف بالدول، والشرعية، والمعايير القانونية الدولية.
هذا المقال يقدم قراءة سياسية تحليلية متوازنة تعتمد معطيات رسمية حديثة وتقف على مستجدات الواقع، بعيدًا عن التوظيف المتحيز، لتأمل أثر هذه الخطوة على الساحة الإقليمية والدولية، والمسارات الجيوسياسية المحتملة.
جغرافيا وصياغة النزاع
تقع صومالي لاند في الزاوية الشمالية الغربية من الصومال التاريخي في قرن إفريقيا، وتطل على بحر العرب وخليج عدن، تبلغ مساحتها نحو 176,120 كيلومترًا مربعًا، ويقدّر عدد سكانها بنحو 6.2 مليون نسمة تقريبًا (حسب بيانات حديثة 2024)، اقتصادها يعتمد بشكل رئيس على الزراعة وتربية المواشي، إضافة إلى التجارة عبر ميناء بربرة الذي يُعد شريانها التجاري الأساسي.
كان الإقليم مستعمَرًا بريطانيًا تحت اسم الصومال البريطاني حتى 26 يونيو 1960، حين نال استقلاله وأصبح كيانًا منفصلًا لفترة وجيزة قبل أن يتوحد مع الجنوب (الصومال الإيطالي) لتشكيل الجمهورية الصومالية، أثارت تلك الوحدة توترات متفاقمة في العقود التالية، انعكست في نشوء حركات انفصالية، كان أبرزها حركة صومالي لاند.
في مايو 1991، أعلن زعماء صومالي لاند استقلال المنطقة عن الصومال بعد انهيار الحكومة المركزية في مقديشو، معتمدين على إرث تاريخي وإداري متفاوت ومستوى عالٍ من الاستقرار والأمن المحلي مقارنة ببقية أنحاء الصومال ومع ذلك، ظل هذا الكيان غير معترف به رسميًا من قبل أي دولة عضو في الأمم المتحدة حتى نهاية سنة 2025.
صومالي لاند قبل الاعتراف: سلطة مستقلة بلا اعتراف دولي
رغم مضي أكثر من ثلاثة عقود على إعلان الانفصال، لم تحصل صومالي لاند على اعتراف رسمي كامل من أي دولة أو منظمة دولية بحلول ديسمبر 2025، المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي تدعم وحدة التراب الصومالي، انطلاقًا من مخاوف تتعلق باستقرار القرن الإفريقي والإقليم القاري بشكل أوسع.
إدارة صومالي لاند نفسها تعمل بنظام حكم شبه ديمقراطي ولو كان نظرياً، حيث حصلت فيه على انتخابات متعددة الدورات، وقوات أمن محلية مستقرة نسبيًا، فضلاً عن بنية مؤسساتية معتبرة مقارنة بمحيطها، إلا أن غياب الاعتراف الدولي الكامل جعَلها خارج دائرة العديد من الاتفاقيات الدولية الرسمية، وعزّلها عن المنظومات الاقتصادية والسياسية العالمية بدرجة ما.
الاعتراف الإسرائيلي: خطوة تاريخية وتوقيتٍ محسوب
في 26 ديسمبر 2025، أعلنت الحكومة الإسرائيلية رسميًا اعترافها بصومالي لاند كدولة مستقلة وذات سيادة، مما يجعلها أول دولة تقدم على هذه الخطوة تجاه الإقليم المنشطر منذ 1991.
جاء الإعلان عن علاقات دبلوماسية كاملة بين تل أبيب وصومالي لاند، بينما أجريت مراسيم توقيع اتصالات واعتمادات دبلوماسية على أعلى المستويات بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتياهو وبين الرئيس الصومالي لاند عبد الرحمن محمد عبد الله.
وقالت إسرائيل في بيان رسمي إن الاعتراف يستند إلى “حق الشعوب في تقرير مصيرها ورغبة في تعزيز الاستقرار والتنمية في القرن الإفريقي”، وهنا حق الشعوب في تقرير مصيرها بين قوسين تزامن ذلك مع الإعلان عن تعزيز التعاون في مجالات الزراعة، الصحة، التعليم، والتكنولوجيا.
وتبع الإعلان خطوات عملية تشمل خططًا لإقامة بعثات دبلوماسية، واتفاقيات تجارية واستثمارية، وتعاون في مجالات أمنية وتقنية.
ردود الفعل الدولية والإقليمية: مواقف معقدة ومتباينة
أحدث الاعتراف الإسرائيلي موجةً من ردود الفعل عبر الساحات السياسية الدولية، فبينما رحّبت بعض الجهات به بوصفه “تحركًا يعزز مبدأ حق تقرير المصير”، جاءت ردود أطراف أخرى أكثر تحفظًا أو رفضًا، مدفوعة بمخاوف تتعلق بالشرعية الدولية ومبدأ احترام السيادة الوطنية لوحدة الصومال.
الحكومة الفيدرالية للصومالية
أعلنت مقديشو رفضها القاطع للاعتراف، معتبرة أن صومالي لاند تشكل جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، ووصف بيان رسمي هذه الخطوة بأنها “انتهاك صارخ للسيادة والتزامات إسرائيل تجاه القانون الدولي”، داعية المجتمع الدولي إلى توفير الحماية لوحدة الصومال.
الاتحاد الأفريقي ومنظمات إقليمية
أعرب الاتحاد الأفريقي عن قلقه من “المسار الذي يفتح الباب أمام دعوات انفصالية في بلدان أخرى”، ودعا إلى الحفاظ على الوحدة الإقليمية للبلدان الأفريقية، مشيرًا إلى أن الأمر قد يزعزع استقرار قرن إفريقيا القريب الحساس بالفعل.
الموقف الفلسطيني: رفض وتحليل نقدي
من أبرز ردود الفعل الإقليمية كان استنكار فلسطين ووزارة الخارجية الفلسطينية لهذا الاعتراف، معتبرين أن خطوة إسرائيل في الاعتراف بصومالي لاند تفتح بابًا لتقويض معايير الشرعية الدولية لصالح حسابات نفوذ جيوسياسية ضيقة.
وأشارت البيانات الفلسطينية الرسمية إلى أن الاعتراف الإسرائيلي بهذا الكيان في إفريقيا بينما لا يزال يرفض الاعتراف بدولة فلسطين — رغم أن منظمة التحرير الفلسطينية أعلنت قيام دولة فلسطينية منذ اتفاقيات أوسلو في تسعينيات القرن الماضي، والذي اعترفت به 147 دولة حتى 2025 — يُظهر ازدواجية واضحة في السياسة الإسرائيلية تجاه الاعتراف بالأمم والدول.
وفعلًا، بينما قامت أكثر من ثلاثة أرباع دول العالم بالاعتراف بالدولة الفلسطينية (بحسب إحصاءات عام 2025)، تظل إسرائيل غير معترفة بالدولة فلسطينية على الرغم من اتفاقيات أوسلو والاعتراف المتبادل حينها بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، ما يسلّط الضوء على ازدواجية المعايير التي تُستخدم في سياق الاعتراف الدولي.
لماذا الآن؟ حسابات النفوذ الإقليمي الإسرائيلي
يتطلب فهم هذه الخطوة من إسرائيل قراءةً في السياقين الإقليمي والدولي:
الموقع الاستراتيجي لصومالي لاند
تقع صومالي لاند على مضيق باب المندب الذي يعتبر واحدًا من أهم الممرات المائية في العالم، حيث تمر عبره نحو 12% من التجارة البحرية العالمية، بما في ذلك كميات كبيرة من النفط والغاز، ما يجعل السيطرة أو النفوذ في هذه المنطقة يكون ذا قيمة استراتيجية خاصة للدول التي تسعى لضمان خطوط تجارة آمنة، والتعاون مع دول حاضنة للموانئ.
التنافس في القرن الإفريقي
القرن الإفريقي أصبح ساحة تنافس بين قوى إقليمية ودولية كبرى تشمل الإمارات، تركيا، إثيوبيا، السعودية، إيران، وكذلك القوى الغربية، إسرائيل دخلت هذا الحلبة بشكل أكثر وضوحًا في السنوات الأخيرة، في محاولةً لأن تكون جزءًا فاعلًا في الساحل والصومال واليمن عبر تحالفات غير مباشرة وبرامج تعاون تنموية، حتى لو كانت هذه التحالفات مع أقاليم منفصلة.
الدوافع الأمنية والاقتصادية
إسرائيل لها اهتمام كبير بتأمين خطوط بحرية وأمنية بعيدة عن حدودها التقليدية في الشرق الأوسط، ومع صعود الصين في الممرات البحرية وزيادة الدور التركي في القرن الإفريقي، ربما ترى تل أبيب في صومالي لاند نقطة تكامل استراتيجي مع مصالحها في المنطقة.
حسابات صومالي لاند: الاعتراف مقابل التفرد ببناء الدولة
من منظور صومالي لاند، فإن الاعتراف الإسرائيلي يأتي في سياق بحث مستمر عن فتح الباب أمام الاعتراف الدولي والدعم المؤسسي، بعد ثلاث عقود من الحكم الذاتي، يسعى الإقليم إلى تقوية مؤسساته، وجذب الاستثمارات، وتثبيت كيان مستقل قادر على إدارة شؤونه داخليًا وخارجيًا.
ومن وجهة نظرهم فإن الاعتراف الإسرائيلي قد يفتح بابًا أمام استثمارات خارجية، ودعم في مجالات تكنولوجية وزراعية، وتعزيز البنية التحتية، وهو ما تفتقده البلاد بسبب عزلة سنوات على الساحة الدولية.
لكن في المقابل، يخشى البعض أن يكون هذا الاعتراف مدخلًا لتحويل صومالي لاند إلى منصة نفوذ خارجي أكثر منه لمحاولة السعي لأن تكون مستقبلاً دولة تحافظ على استقلال قرارها إذا ما حذيت باعتراف من المجتمع الدولي، لا سيما إذا تبين أن تساؤلات كثيرة حول الجدوى الاقتصادية الفعلية والالتزامات الإقليمية ستُلزمها باتجاهات بعيدة عن مصالح مواطني الإقليم المنقصل.
ردود فعل دولية أوسع: بين التشجيع والتحفظ
تباينت المواقف الدولية بين:
• دول رحّبت بتحرك إسرائيل باعتباره تقدّمًا في دعم حق تقرير المصير!!
• وأخرى عبرت عن تحفظ خشية أن يكون اعترافًا انتقائيًا يفتح الباب أمام تفكك دول أخرى.
• ومجموعة ثالثة ربطت القرار بمصالح إسرائيل في مواجهة قوى إقليمية أخرى بدلًا من المعضلات المحلية.
الشرعية الدولية: قراءة في القانون الدولي والمعايير
القانون الدولي لا يحدد معيارًا واحدًا واضحًا للاعتراف بالدولة. يعتمد في كثير من الأحيان على معايير مثل:
• ثبات الحكم الداخلي
• سيطرة على الأرض
• قدرة على الدخول في علاقات دولية
• اعتراف دول أخرى
في حالة صومالي لاند، يتوفر لديها ثبات نسبي وسيطرة على الأرض، لكن غياب الاعتراف الدولي حتى ديسمبر 2025 مثّل عقبة بنيوية أمام قدرتها على أن تصبح جزءًا من المنظومة الدولية الرسمية، وهنا لا يمكنها أن تكون دولة مستقلة بدون الحصول على هذا الإعتراف الدولي، أما الاعتراف الإسرائيلي فجاء بعد سنوات من العلاقة غير الرسمية على المستوى الأمني والسياسي، ما يطرح تساؤلات حول المعايير الانتقائيةفي السياسة الدولية، وكيف يمكن للمعايير أن تتغيّر تبعًا للمصالح والاستراتيجيات.
قراءة جيوسياسية في مسار جديد
الاعتراف الإسرائيلي بصومالي لاند لا يمكن وصفه بأنه حدث عابر في الساحة الدولية،إنه خطوة جيوسياسية تحمل دلالات أوسع من مجرد علاقة بين دولتين؛ فهي تمس بشكل مباشر بمعايير الاعتراف الدولي، وإعادة ترتيب الحسابات في القرن الإفريقي، وتعيد طرح السؤال نفسه: ما الذي يدفع الدول إلى الاعتراف بدولة دون أخرى؟ وهل يتوقف الاعتراف على معايير موضوعية أم على موازين القوى والمصالح الجيوسياسية؟
في نهاية المطاف، يظل السؤال مفتوحًا حول قيمة هذا الاعتراف لصومالي لاند في واقعها المستقبلي، وما إذا كان سيفتح باباً إلى تشجيع الاعتراف من أطراف أخرى سواء بصومالي لاند أو أقاليم إنفصالية بأماكن أخرى، أم سيشكل سابقة دولية في ملف معقد طال أمده.