بقلم/ سليمان زهيري
مخيم نور شمس
قنير، القرية المُهَجَّرة المُدَمَّرة، بأبنائها وأشجارها ومواشيها وطيورها وتنوع فصولها، قد لا تكون معروفة لأحدٍ في أقصى الغرب، أو أدنى الشرق، لكنها وكمثل أية قرية ريفية كانت بيوتها تتشبث بالأرض الطيبة وتشد بعضها أزر بعض. فهي النموذج الحي للقرية الفلسطينية بجلالها وجمالها وبهاء شمسها وخضرة حقولها ورائحة خبزها وصفاء مائها ونقاء هوائها وزرقة سمائها وسحر ليلها وتلأليء نجومها، كانت تضم بين جنبات بيوتها شباب متقدين بجذوة آمال عريضة لا تخبو، وشابات تتوشح بوهج نور أحلام لا تنطفيء، ورجال بعزيمة لا تكل ونساء بهمة عالية لا تمل. كانت قرية قنير الحيفاوية التي انتمي اليها، تنتشر على جوانبها البساتين والمزارع ذات الطبيعة الساحرة، وتحف دروبها الأشجار الوارفة كالسنديان والبلوط والكثير من عرائش العنب التي تستظل بها البيوت الطينية العتيقة، وتتحلق حول ينابيعها وضفاف أوديتها الأعشاب ذات الأزهار الجميلة، وكانت في الغالب تنام بعد العشاء غارقة في الظلام الساحر، فلا تسمع فيها الا صدى السكون أو نباح الكلاب أو أزيز صراصير الليل أو ضحكة مكتومة أو همسا خافتاً أو دعاء من تجافى جنبه عن المضجع فقام الليل متهجداً ومستغفراً، فالسمة الغالبة على أهل القرية هي الفلاحة، وبوصلة الفلاح الفلسطيني تؤشر دائماً الى الحقل الذي يسري إليه مع عناق القرية لأول خيوط الفجر بعد أن ودَّعت اخر رمق من هزيع الليل. في هذه القرية وعلى بوابتها الغربية، شجره بلوط ضخمة تتوسط البيادر شهدت في الفاتح من نيسان بكاء الحياة الأول الذي رافق ميلاد الشاعر العظيم علي فودة، حيث كان ينام تحت ظل بلوطة جدة في مهد خشبي متواضع وهو ما يزال بأشهره الأولى أثناء إنشغال والديه في أعمال الحصاد على بعد أمتار منه في نهاية ربيع عام 1946م، وفي موسم الحصاد التالي حملته أمه إلى ذات المكان وقد بدأ يخطو أولى خطواته المتعثرة، ليلعب تحت ظلها حتى يغلبه النعاس فيغفو، بعد أن تلفح محياه الغض نسمات منعشة بحرية المنشأ عليلة رطبة تهب غربية، وبكل تأكيد لن يحالفه الحظ للاستمتاع باللهو واللعب في موسم الحصاد القادم، فلم يكد يفتح عينيه على معالم قنير ولم يكد يحفظ وجوه أطفالها، ولم يكد يتقن لفظ اسمها حتى حلت به وباسرته وأبناء قريته وشعبه ام النوازل وأفظع النكبات بعد عامين من مولده، فإقتلعته وزلزلته وهو طفل رضيع وألقت به في مهاوى الغربة واتون اللجوء، لتزداد غربته ألما وقسوة بوفاة والدته منبع العطف والحنان. لقد أمضى ربيعين من عمره في قنير فيما كُتِبَ له أن يقضي الأربع وثلاثون ربيعاً الباقية من عمره، في خيمات النزوح ومخيمات البؤس واللجوء حيث تقوده الأقدار إلى الأردن ثم العراق قبل أن ينتهي به المطاف فيستقر في بيروت، فيترجل الفارس البطل هناك ليسقط شهيداً في سن السادسة والثلاثين.
لقد نجا علي من مجازر التطهير العرقي وهو رضيعاً لتلاحقه طائرات الحقد والبغي الصهيونية إلى بيروت وهو في ذروة الشباب وعنفوان الثائر، وجرأة الشاعر وصلابة المقاتل، حيث إستشهد وهو يحمل صحيفة الرصيف التي كان يحررها. لقد تعلق قلب الفدائي المُلهم، شاعر الثورة والحياة، بقريتة قنير وعشق ترابها وشجرها وطيورها وطرقاتها.. فقال وهو يصف قنير: فلسطيني... بلادي جنة الدنيا قناديل الحياة آهٍ، و " قنير" الصبية قريتي خالٌ برأس الخدّ مشهود الصفاتْ الأرض فيها واحةٌ والعشب أغنية الرعاة والنسر فيها يسمع الحسُّونَ والعقاب تسرح والقطاه اطفالها سود العيون، ويعشقون الأرض والثمرا ودنيا الليل والقمرا: ويهوون القراءة والكتابة والاقاصيصا وقرآناً وانجيلا ورباً ينزل المطرا... لقد عَشِق قنير حتى غازلها كحبيبة إبتعد عنها قهراً وظلماً وإجباراً، فبكاها ورثاها وحزن حزناً شديداً على فراقها، فكان لقريته حضوراً لافتاً في حياته؛ ساهم إلى حد كبير في تشكيل وعية وبناء شخصيته ولربما ساهم ذلك بإختياره درب الكفاح وطريق النضال وسيلة للتعبير عن هذا الحب الروحي السرمدي والارتباط الجسدي الأزلي .. فقال في وصفها أعذب الأشعار وبكى على فراقها بكاء مراً وتمنى العودة لترابها لو ميتاً يدفن تحت ثراها ليعانق جسده جذور أشجارها، فقال: قريتي كانت مع الزيتون تبكي للزغاليل وأبراج الحمام وتقاسي من خريف الشمس فيها وخفافيش الظلام أنت الأزهار تغتال الندى في قريتي - من غريب حط فيها- فأحال الورد شوكاً وقلوب الناس غارت في الحطام شقشقات الطير باتت كالنعيق وفروع التين والخروب باتت في الركام وعيون الشر ما نامت وما نام نداء الناس من أجل السلام: ...... ...... آه يا "قنير"، يا حبي الكبير آه، اني إبنك المغدور، لكن لن أبالي و"قفا نبك..." على الأطلال ليست شيمتي والغدر والنسيان ليست من خصالي فأنا باق مع الأشجار والأطيار، كالنسر على صدر الرياح باق أنا فوق الجبال بيدي الموت: مهري ثم قلبي والسلاح! منذ صباه تعلق قلبه بحقيقة العودة للقرية؛ موطن الأجداد في الماضي والأحفاد بالمستقبل ... للمدرسة، لخروبة جده لبئر الماء والجدول.. لطين وشجر وطير الحقل، للمحراث والمعول.. للطيون للدفلى للعوسج، لسنابل القمح تغازل المنجل.. لقد كبر ونضج وثار في وجه الطغيان وبدأ يقرض الشعر فأتقنه وبرع في بعث الحياة في الحروف فأبدع أروع الروايات وخط أروع القصائد وكتب كلمات أعذب الأغنيات.. فقال في شوقه لتراب الوطن المسلوب: وطني .. قلبي يناديك وصوتي وأخي في ديرة الأغراب يبكيك وأختي. من عيون الموت في تلك البلاد. من بوار الأرض فيها. من أناس فقدوا الحس فباتوا كالجماد. وطني .. أواه يا أحلى وطن لو يغطينا لحاف واحدٌ يوماً فَنُنْفى في السرير لو يرى النور الضرير لو تراني وأراك آه ما أحلى صباك! وطني كم أنت وفيٌّ يا وطن وأنا كنت، وما زلت وفيّا فأنا كالعهد فيّا أبداً ما زلت أفديك طفلاً وصبياً وعجوزاً سوف أفديك فأنت الأهل والخلان في قلبي اليتيم أنا مفتاح لقيدي و أنا العبد الذميم أنت كل الناس عندي أنت في لحمي ودمي وطني .. بأبي أنت وأمي لم يكن اللجوء من قنير في شعر علي مجرد فصلاً في رواية عاطفية ولا حلقة في مسلسل درامي أو مشهد في فيلم خيالي، بل تناول النكبة واللجوء على أنها الرواية الحزينة بُرمّتِها والمسلسل بكل مساحته، ومشاهد أليمة مستمرة يراها العالم في نهارهم وليلهم وحتى في أحلامهم بكل ألوان الطيف منذ سبعين عاماً ولم يحرك ذلك في وجدانهم ساكناً.. فضاقت في عيني علي حياة اللجوء وبؤس النزوح والوقوف في طوابير طويلة امام خِيَم الإغاثة في مخيم نورشمس شرق مدينة طولكرم لتناول وجبة طعام أو كأس حليب مجفف.. فكان يعتبر اللجوء عار، حيث قال: أخي.. قُلْ ما تريد: أنا الغريب أنا الشريد أنا أنا رب اللصوص اذا اردت وسارق المنبر أخي.. قل ما تريد: أنا الجبان أنا الضعيف أنا فقلبي دائماً أكبر من الكلمات والشكوى فقُلْ.. قلْ كيفما تهوى أنا أطهر وسمعة قريتي أروع اتعرفُ قريتي؟ "كلاّ" إذن فاسمع: أنا من قرية لا تعرف الغرباءَ والانذال والجوعى ولا الجبناء تعرفهم ولا الأذياب في المرعى وأنت .. وأنت منذ الآن ضيفي آه لو تنزل بنا ضيفاً إذنْ فالليل قنديلٌ بِوادينا وفي "قنير" أعراس اللقا صيفاَ ....... ولكني أخي في العارْ كما تعلم .. غريب الدّار ***** انا من أُمّةٍ تدري بأن القيد يَصْدأ فوق أيدي العبد إن لم يكسر القيدا وتدري أن للبارود كبريتاً يُفجِّره وأن السيف دوماً رائع النبضات يفهم حدّهُ الردّا أنا من أمةٍ أيامها تشهد مفاخرها وعهد النصر في تاريخها يشهدْ فمدّوا يا أحبائي أياديكم لِتُنْزَلَ جثة المصلوب في المعبد وندفنه لعل الروح قد تصعد لاتلوا أية فيكم وعهد الله والزيتون يا "قنير" إنَّ دمي سيروي الجرح حتى تزهر الصلبان من حممي لأطمس غربتي في ذمّة الزمنِ وأعدو ثم أعدو ظافر القدمِ الى الوطنّ ... الى الوطنِ .. ....... ولكني اخي في العارْ كما تعلم .. غريب الدّار.. لم يتعامل علي مع مسقط رأسه "قنير" كحيز جغراقي معزول عن باقي مكونات واجزاء الوطن، إنما وجد فيها الجزء الأصيل الذي يعكس انتمائه الوطني وكيانه الانساني، ليُعَبِّر من خلال تعلقه بقريته عن حبه لوطنه وترابه المقدس واستعداده لبذل روحه رخيصة في سبيلة. فتغزل بكل تفاصيل الوطن، بهوائه ومائه وشجره وطيوره وكرم اهله وبديع فصوله، وروعة تضاريسه، فأعلن تقديسه لسهوله وجباله وتلاله وأوديته وسحر نسمات فجره. فكانت "قنير" على الدوام تمثل - في شعره وخياله - النافذه التي يطل من خلالها على ربوع الوطن ويناجي عبرها بلدات فلسطين بأشجى الألحان، فنظم أروع القصائد وأجمل الأغنيات تعبيراً عن شوق مزلزل لثرى الوطن، ومطلقاً العنان لعواطفه الجياشة لترسم الإرادة الصلبة والعزيمة القوية للاستمرار على درب النضال والكفاح تجسيداً لحق العودة للديار كهدف قريب المنال. لقد نقش حروف قصائده بالنور والنار على صفحات الزمان، حيث أعلن فيها عن نيته الاتحاده والالتحام جسدياً وروحياً وفكرياً مع تراب الوطن – حبا وطواعية -، ليبقى قلبه -دائم الخضرة وان بان في عينيه الأسى -، فتحققت أميته في بيروت - العزة والبطولة– فتخلد شهيداً محلقاً فوق ذرى المجد - سراً وعلانية-، فحفر اسمه عميقاً في ذاكرة الأجيال، ورسم بفلسفة الرفض والتحدي، معالم درب العزة والشموخ والإباء لقوافل الثوار، فحفظوا عن ظهر قلب كلماته، وبرعوا في استخراج الحِكَمَ الثورية من ايماءاته فساروا على هدى ترانيم قصيدة، وليكن الفنان الكبير مرسيل خليفه استثناءً، فلم ينتظر طويلاً قبل أن يغني رائعته التي ملأت الأرجاء ثورة وصخب، و – رشاش عنف وغضب- : أني اخترتك يا وطني إني اخترُتك يا وطني حُبّا وطواعية إني اخترتك يا وطني سِراً وعلانية إني اخترتك يا وطني فليتنكّر لي زمني ما دُمْتَ ستذكُرني يا وطني الرائع يا وطني دائمُ الخضرة يا قلبي وإن بان بعَيْنَيَّ الأسى دائمُ الثورةِ يا قلبي وإن صارت صباحاتي مَسا جئتُ في زمن الجزْرِ جئت في عز التعب رشاش عنف وغضب صاغ أجمل قصائده في ساحات الاشتباك الملحمي وميادين البطولة والفداء وفي خنادق الصمود والتحدي في بيروت تحت جحيم المدافع ونيران البنادق.. يتدفق من نبع قصائده ونصوصه تفاصيل كل مراحل الثورة الفلسطينية الخالدة ويحولها إلى صور شعرية جميلة حية ومدهشة.. توقع الاستشهاد فرحب به، استشعر الغدر ولم يأبه، تنبأ سوء المآل ولم يتراجع، فقال في قصيدة دم الشاعر:
أمهلوني قليلاً.. ألا تستطيعونْ؟ ! مُصّوا دمي .. إنّما قطرةً قطرةً علّني أشهد البرق وهو يُغنّي بمرج ابن عامرَ أو في الجليلْ بعدها .. فلأكنْ أوّل الشهداء وآخرهم ولأمتْ في البراري قتيلْ ! **** أمهلوني قليلاً.. تعبتُ فها هو سهمٌ بقلبي وسهم بساقي وسهم هناك وسهم هنا آه.. كيف اختلفنا على ذلّنا؟ كيف باشرنا الدخول، الخروجَ - وكيف ابتدأتمُ مُطاردتي؟ كيف كانت بداية رجمي؟ وفي أيّ عاصمةٍ؟ أيّ دغلٍ؟ وأي القبائل قد حاصرتْني؟ وأيّ القبائل قد ناصرتْني؟ كأنّي عميتُ .. كأنّي نسيتُ الذي ليس يُنْسى كأني شُفيتُ من الطعنة الحاقدهْ إنما.. آهِ كم أشعر الآن أني غريبٌ عن اللهجة السائده آه.. كم هي قاسية هذه اللحظة الفاسدهْ فالبناديق يأتمرون بأمر الصناديقِ ينهونَ أو يأمرونَ وقد يَعزلونَ وقد يَقتلونَ وقد .. يا بلادي الحبيبة.. انهم السمّ في المائدهْ وفواتيرهم أبداً .. تطلب الفائدهْ ! **** أمهلوني قليلاً.. فلي بينكم وردةٌ أحمرٌ، أحمرٌ، أحمرٌ لونها أرأيتم دمي.. نازفاً تحتها نازفاً فوقها نازفاً حولها أرأيتم؟ إذن أمهلوني قليلاً .. ألا تستطيعونْ؟ ! لقد تمنى علي بأن يُدفن في مسقط رأسه قنير .. في مقبرة القرية التي تقع على بعد امتارٍ قليلة إلى الشرق من شجرة البلوط الشامخة بعظمة وبهاء وعُنفوان في أرض جدِّه على البوابة الغربية للقرية، وكأنها تنتظر طلائع الأهل العائدين طال الزمان أم قَصر.. في قصيدته " فلسطين أمي"، نادى لحشد السواعد وناشد الضمائر الحية واستنهض الأمة العربية لاطلاق ثورة عارمة يفجرها كافة فئات الشعب وفي مقدمتهم العمال والفلاحين لتقود جموع العائدين إلى ديارهم حيث قال: بعيداً عنك يا " قنير " إني لم أنَمْ ابداً ولم أحلمْ فعمري كله سقرُ وفي الاسفار لم أنعمْ فمن قُطْرٍ الى قُطْرٍ أسوحُ أسوحُ في الارض الخراب - كنملةِ عرجاءَ - قد أُعدم مع الغربان قد امشي مع الجرذان والديدان والثعلبْ فصاروا كلهم صَحْبي ... وما أشأم ! أيا ربي.. حرام أن أموت بغربتي فارحم، وخذني حبة القمح التي بحواصل الأطيار قد نامت وفي قنيّر وادفني فلن أندم وخذني نسمةً في العصر صيفيّة تمرُّ بسطح منزلنا تصافح ثوب أمي من على حبل الغسيل وشالها الاحمرْ ومنديلا لجارتنا وسروالاً وكوفية. وخذني وردة ً بيضاء جورية تدغدغ قلب عاشقةٍ فيزهر حزنها شوقاً لأمسيّة مخبأأة بجفن الهر منسية وخذني في سلال التين والعنبِ كأوراق بسطح السلّ مَرْميّة وخذني روعة الغضبِ من العمال في المصنعْ من الفقراء في النُوَبِ وخذني لقمة الرشّاش والمدفعْ فلن أدمعْ ولن أشكو من التعبِ فذاك دواء دائي .. آهِ ما أنجعْ ! وخذني شهوة النيران للحطبِ تثورُ تثورُ لا تسمعْ وتوقدُ ثورة العربِ فجاءت إرادة الرحمن لتحقق نبوءته فيرتقي شهيداً بشظايا صاروخ غدر صهيوني، لكنه سيبقى حياً فينا ينتظر معنا لحظة التحرر والانعتاق، اصطفاه المولى شهيداً أي حياً لا يموت يحُثنا على النضال اذا خبت جذوة الأمل فينا ويدعونا للاستمرار حتى العودة اذا تعبنا ويذكرنا بحتمية انتصار المظلومين اذا ضعفنا.. لقد أصيب بجرح قاتلة من طائرة صهيونية غادرة .. أصيب بشظية اسكتت معها ثورة بركان عطاء فدائي، وحرقت حدائق ابداع ثوري، ومزقت رئة تنفست يوماً من هواء قنير.. لقد تنبأ بمصيره وتفاصيل نهايته فقال: "فلتذكروا يا أصدقاء فلتذكروا حين تمرّ الذكريات بأن ثائراً عاش غريباً، وغريباً مات تذكريه يا فلسطين ... ولتذكروا يا أصدقاء بأنه كان يحبّكم يحبّكم يحبّكم حتّى البكاء ثمّ قضى فلتشهد الوردة والطلقة والسيدة العذراء والدم في الحقول/ والنجم في السماء". وقد وصف الروائي المبدع إلياس خوري في روايته "باب الشمس" أولى لحظات وصول علي إلى المشفى مضرّجاً بدمائه قبل اسبوعين قبل ان يرتقي شهيدا، حيث قال: "أذكر أنه جاء جريحاً إلى المستشفى، جلبوه مع جريح آخر، وكان الدم يغطيهما، الجريح الأول كان شبه ميت، ودمه متجمد على جسده اليابس. لا أعلم من كشف عليه وأعلن وفاته. فتمّ نقله إلى براد المستشفى تمهيداً لدفنه. ثم اكتشفوا أنه حيّ، فنقل على عجل إلى غرفة العناية الفائقة، وهناك اكتشفنا أنه كان شاعراً. الصحف التي صدرت في بيروت أثناءالحصار، نشرت عنه المراثي الطويلة. وعندما استيقظ الشاعر من موته، وقرأ المراثي شعر بسعادة لا توصف. كان وضعه الصحي ميؤوساً منه، فقد أصيب في عموده الفقري وتمزقت رئته اليسرى، لكنه عاش يومين، وهو ما كان كافياً ليقرأ كل ما كتب عنه، قال إنه سعيد، ولم يعد يهمه الموت، فلقد عرف اليوم معنى الحياة، من خلال الحب المصنوع من الكلمات. كان علي - وهذا هو اسمه- الميت السعيد الوحيد الذي رأيت في حياتي كأن كل آلامه امّحت. عاش في سريره، وسط أكوام المراثي، يومين جميلين، وحين مات، كان كل شيء قد سبق أن كتب عنه، فنشر نعيه الثاني في أسطر قليلة في الصحف". هكذا كانت حكاية مولد وطفولة وصبا وشباب وموت علي، إنها تلخص مسار حياة الفلسطيني المنكوب الممزوج بالأمل من لحظة ولادته حتى مماته.. انها تصوير حي لحياة الشعب الفلسطيني عشية النكبة وإبانها وبعدها، لم يدع الاحتلال الاستيطاني فوارق بين ابناء الشعب الفلسطيني المنكوب لا باللون أو الجنس أو السن أو العرق أو الثقافة أو الدين، لقد كان عادلاً في نشر شره وفظائعه على جميع الفلسطينيين المنكوبين بالتساوي فمارس في إقتلاع شعبنا من أرضه كل أشكال الظلم والقمع والعدوان على الجميع بنفس القدر وبلا استثناء وبدون تردد او استحياء.. نعم ، ارتقى شاعر الثورة والحياه شهيداً في معركة حصار بيروت بتاريخ 20/08/1982، ستبقى وصيت علي فودة بالعودة لقنير منقوشة على صفحات الزمان ومحفورة في الوجدان لتحمل أجيال النصر رفاته الى قنير المستقر الاخير، ستعود الى قنير لتتحقق أمنيتك وتنفذ كلماتك التي خططها بدمك النازف من جراحك حيث قلت في قصيده "فلسطيني كحد السيف" : ولكنا عرفنا كيف نكتب بالدم الغالي وصايانا وكيف ستزهر الاشلاء طوفانا... بلادي موطن الطوفانِ مقبرة الغزاةُ الله ما أحلى الممات ! قنير يا قنير آت.. ألف آتٍ رغم أنفاس الحياةُ..