الشريط الاخباري

حمدي فرّاج يكتب : كانت امي تخشى ان تسرق الاربعينية احد اولادها

نشر بتاريخ: 16-12-2019 | أفكار
News Main Image

حمدي فرّاج

تم التعارف عليه ، أجيال وراء اجيال ، ان "الاربعينية" هي الفترة الاكثر برودة خلال السنة وخلال فصل الشتاء . كلمة كانت تثير القشعريرة في نفوسنا و أجسادنا الصغيرة ، ربما يكون السبب وجودنا في الخيام خلال الحقبة الاولى التي اعقبت قيام "اسرائيل" نهاية الاربعينيات وامتدادها الى اواسط الستينات الفترة التي سبقت احتلالها بقية فلسطين.

فترة الخيام التي امتدت عقدا كاملا ، افتقدت لكل مقومات الحياة الآدمية ، وكانت امي تردد : الشتاء ضيق ولو انه فرج ، فلا دفء ولا كهرباء ولا ملابس ولا أغطية ولا حتى اطعمة تسقط بعض الدفء في احشائنا ، والامر مسحوب على الخيمة وما بعد الخيمة ، تلك المنازل الصغيرة التي شيدتها وكالة الغوث لمئات الاف اللاجئين . المدارس ايضا مكان تتسمر فيه عدة ساعات في محاولة لاستجلاب بعض دفء الزملاء حين يتم رصّنا كل اربعة في درج خشبي بارد ، ولكن هيهات . الشوارع من البيت الى المدرسة وبالعكس ، عبارة عن طرقات ترابية يغوص الاولاد في طينها واحيانا يتطلب الامر عمليات انقاذ من كبار السن لمساعدتهم في تخليصهم منها.

على مشارف الاربعينية ، في مثل هذه الايام قبل خمسين الى ستين سنة ، كنت ألحظ مسحة بؤس على محيا امي ، تخاف على اطفالها من ان تسرق الاربعينية احدهم  ، كانت تستنفر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، "طواريء" ، ترسل شقيقتيّ الى الجبال المحيطة لجمع بعض ما تبقى من حطب الذي خلال سنوات اصبح شحيحا ، فتستعيضان عنه بالنتش ، وتجدها على فترات أطول تقوم باصلاح بعض من الملابس الثقيلة القديمة التي جادت بها الوكالة من ملابس بالية اعتدنا على تسميتها بالبكجة ، كانت الجرابين شيئا غير متعارف عليه في تدفئة اقدامنا ، ربما لأن المتبرعين بملابسهم القديمة لا يعيرونها الاهتمام الكافي لضآلتها ورخص سعرها مقياسا بالبنطلون او الجاكيت ، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة لنا ، لأنه في الاصل ليس لدينا الاحذية الشتوية المناسبة لمثل ذاك الاختراع.

كانت الاربعينية التي تمتد على مدار اربعين يوما ، آخر عشرة ايام في كانون اول وثلاثين يوما في كانون ثاني ، تعني ان امطارا غزيرة ستهطل ودرجات الحرارة تنخفض و بروق ورعود وعواصف وريح شرقية عاتية وربما ثلوج وسيول ، في انتظار ان تنتهي على خير فيحل شهر شباط "يشبط ويخبط ورائحة الصيف فيه" فيخرج الناس ليهنئوا بعضهم بعضا من مرور الاربعينية بخير وسلام.

اليوم ، تاهت الاربعينية ، وضلت طريقها ، فما زال البعض من معارفي يلبسون "نصف كم" والبعض يتسامرون ليلا بين السماء والطارق ، وحين يضل "الزمان" طريقه ، فلا بد ان يكون هناك "ضلالا" ما في المكان ، لقد ضلت غزة طريقها الى الضفة وضلت الضفة طريقها الى غزة و في البحث عن معالم القدس العتيقة ، تكاد معالم نابلس والخليل ان تختفي.

شارك هذا الخبر!