بقلم/ د.حنا عيسى – استاذ القانون الدولي
كما ان خطر التطرف الطائفي فلا يقل عن خطر التطرف الديني، فالحركات الطائفية تعيد كتابة تاريخ الوطن والأمة لتبني تاريخاً أسطوري الأبعاد يقوم على الخطاب الإنفعالي ويستنفر الصراعات ويشعل المحن ويعلي من شأن الطائفة على حساب الوطن ويدمر النسيج المجتمعي ويشيع الفوضى والخراب. فقد غابت الهوية الجامعة التي تتقبل الإختلافات وتجعلها مصدر قوة وتتأسس على جدل معرفي بين اللغة والدين بأبعاده الحضارية، وحلّت الهويات الفرعية أو الهويات القاتلة، على حدّ تعبير أمين المعلوف، بديلا عنها. والهوية ليست معطى جاهزاً أو جامداً، إنها تبنى وتتغير وتغتني بمركبات جديدة، كما أنها تتحول على امتداد رحلة الفرد المعرفية، لكن الهويات الفرعية تنطوي على أبعاد طائفية مدمرة.
الانعكاسات الخطيرة للتطرف:
تتجلى انعكاسات التطرف الديني على مستويات متعددة، خاصة المرتبطة بالمجال الأمني والاجتماعي، حيث أن تأثيراتها تخلف آثارا سلبية، تمكن من تغلغل التعصب بين فئات المجتمع، الشيء الذي يؤدي إلى اتساع هوة تماسك بنياته الاجتماعية، فيهدد بذلك أمنه الاجتماعي، فضلا عن شرخه لاستقراره الأمني العام.
الأثر الاجتماعي:
إن تهديد السلم الاجتماعي داخل المجتمع، ليس رهينا بانتشار الجريمة ومظاهر العنف وحدها، بل أيضا وجود تنظيمات دينية متشددة، تطلق فتاوى وآراء وأحكام دينية، تزرع معها الفتنة والرعب داخل المجتمع، خاصة مع فتاوي القتل وتكفير المواطنين وما يترتب عنها من حلية دمهم ومالهم، والتشدد في تفسير الأحكام الإسلامية، وفرضها بشكل فردي أو عن طريق جماعة دون الرجوع للحاكم والنظام السياسي. فيؤدي ذلك إلى نخر السلم الاجتماعي وضرب مقوماته.
إن الآثار السلبية بتهديد السلم الاجتماعي داخل أي مجتمع، نتيجته واضحة وصورته جلية، فهو من الأكيد لن يحافظ على تعاضده وتزكية حالة الوئام داخله، بل مصيره التفرقة والنزاع. لذلك فإن التطرف والتشدد الديني، هو خطر على المجتمع ومصالحه، فلا يمكنه أن يخدم تطوره واستقراره، بل هو يسهم في تدهور الأمن فيه وزعزعته. فالأمن العام يحقق الطمأنينة في النفوس، وترتفع به الهمم.
الأثر الأمني:
يشكل التطرف السلوكي، أكثر أنواع التطرف الديني سلبية، من خلال تحوله من التطرف الفكري المبني على الأفكار والآراء، إلى تطرف مبني على العنف والإرهاب، من أجل فرض تلك الأفكار بالقوة. وهذا النوع من السلوك، هو الذي يجر أخيرا إلى الخطر الأمني، من خلال تهديد أمن وسلامة المجتمع والدولة، عبر التخطيط للعمليات المسلحة، والتفجير والقتل، انطلاقا من أفكار جهادية، بغية الوصول إلى إقامة الدولة الإسلامية، أو إعلان الولاء لتنظيمات إرهابية خارجية.
كما وأن الأثر الأمني، يمتد خطره إلى كل المستويات الأخرى، حيث أن زعزعة استقرار الدولة وأمنها، تكون عواقبه وخيمة على الاقتصاد الوطني من خلال هروب المستثمرين ورؤوس الأموال خوفا على مصالحهم الاقتصادية، إضافة إلى ضعف المردود السياحي، فانتعاش قطاع السياحة في أي بلد، هو بالضرورة رهين باستقرارها. ثم أيضا الأمن والسلم الاجتماعي بانتشار الخوف والفزع بين الناس، الخوف من حرية التنقل، والخوف من أي مصير نتيجة عمل وسلوك إرهابي. كما ولا يسلم من ذلك مؤسسات الدولة وغيرها، خاصة ذات البعد الخدماتي، والتي غالبا ما تكون عرضة للهجمات الإرهابية، فتقضي على مصالح المواطنين والخدمات المقدمة لهم.
مكافحة التطرف تستدعي:
1. الخطاب الديني، وذلك عن طريق تصدي المؤسسات الدينية للمفاهيم التي تروج في المجتمع خاصةً بين الشباب، وفي مقدمتها التفسيرات المشوهة لمفهوم الجهاد والردة ووضع المرأة، مع فتح أبواب الاجتهاد والمعرفة الأصيلة بمقاصد الشريعة والاعتراف بالمنظور التاريخي للتشريع وتطويره للتلاؤم مع مقتضيات العصر.
2. الجانب الثقافي، وذلك من خلال مراجعة القوانين واللوائح والممارسات الإدارية على النحو الذي يعزز الانطلاق الحر للفكر والإبداع في المجتمع، ويزيل العقبات التي تحول دون حرية الرأي.
3. التوسع في إصدار الكتب والمؤلفات التي تدعم العقلانية والاستنارة، وتنشر الفكر النهضوي.
4. تشجيع الأعمال الفنية الراقية التي تهدف إلى النهوض بثقافة النشء وتنمية المواهب وصقلها في المؤسسات التعليمية والثقافية بشكل منهجي منظم وتيسير الوصول إلى المنتج الثقافي من خلال التوسع في إنشاء المكتبات والمراكز الثقافية والأندية الأدبية، وكذلك مراكز الفنون التعبيرية والتشكيلية والموسيقية، والاستفادة من النشر الإلكتروني.
5. تدشين مواقع التواصل الاجتماعي بين الشباب لمحاصرة التطرف، وثقافة العنف.
6. ضرورة توحيد نظم التعليم، ومنع الازدواجية بين تعليم مدني وآخر ديني أو أجنبي، وتحديث النظم التعليمية لتعزيز قيم التعددية والتعايش الإنساني، مع التأكيد على أهمية "التربية المدنية" في برامج التعليم، خاصة قبل الجامعي، ووضع برامج لتطوير القدرات الإبداعية في التعليم مثل: الموسيقى والتصوير والشعر والمسرح والأدب وغيرها، لبناء جيلٍ مبدع يسهم في تعزيز البناء الثقافي للمجتمع، ووضع برامج لتطوير المكتبات المدرسية، وتنقية برامج التعليم الديني من الأفكار التي تشجع التطرف، والعنف، أو تستند إلى فهم خاطئ للنصوص الدينية، وذلك لمحاربة انتشار التطرف عن طريق التعليم.
7. حث المؤسسات الإعلامية على الالتزام بالمواثيق المهنية والأخلاقية، والتي تتضمن الابتعاد عن الخطابات المتعصبة.
8. إطلاق مبادرة عربية لمراجعة المعايير المهنية والأخلاقية وسنّ التشريعات التي تجرّم نشر المواد الإعلامية التي تبث الكراهية وتحرِّض على العنف، وتدشين برامج إعلامية مشتركة بين وسائل الإعلام العربي تفند فكر التطرف، وتهتم بقضايا العلم والتنوير.
داعش... جوهر التطرف:
تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، الذي يُعرف اختصاراً بـداعش، هو تنظيم سلفي وهابي مسلح، يُوصف بالإرهاب يتبنى القسم العسكري منه الفكر السلفي الجهادي. يهدف أعضاؤه إلى إعادة "الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة"، ينتشر بشكل رئيسي في العراق وسوريا مع أنباء بوجوده في مناطق دول أخرى هي جنوب اليمن وليبيا وسيناء وأزواد والصومال و شمال شرق نيجيريا وباكستان. زعيم هذا التنظيم هو أبو بكر البغدادي ... وانبثق تنظيم داعش من تنظيم القاعدة في العراق وهي التي شكلها أبو مصعب الزرقاوي في عام 2004، وابتداءً من عام 2014 وتحت قيادة زعيمها أبو بكر البغدادي، نمت داعش بشكل ملحوظ، وحصلت على الدعم في العراق بسبب التمييز الاقتصادي والسياسي المزعوم ضد السنة العراقيين العرب، وتم لها وجود كبير في المحافظات السورية من الرقة وإدلب ودير الزور وحلب بعد الدخول في الحرب الأهلية السورية، إلا أن هذا التقدم توقف بعد إنشاء تحالف من عدة دول لمحاربة التنظيم، وما بين أغسطس 2014 و أبريل 2015، خسر داعش ما بين 25% إلى 30% من الأراضي التي يُسيطر عليها في العراق.
اما الفكر الذي تتبناه هذه المجموعة فهو فكر التطرّف الموجود في كل زمان ومكان باختلاف الجماعات والتجمعات لذلك ربطهم بالإسلام ربط زائف مغاير للحقيقة ومغاير لحقيقة الاسلام، ففكر واجندة واساليب هذه المجموعة تقوم على اهدار مقدارت الأمة وحرق خيرت شبابها في أتون حروب عرقية إثنية دينية طائفية واهدار مقدراتها لذلك وجب التصدي لهذا الخطر الداهم الذي يهدد الحدود والوجود، حيث يحتاج ذلك الى وقفة من رجالات الدين والثقافة تحدد مناطق الخطر والخلل وترسم خارطة الحل والامل ترتكز على مقدرات الأمة ليكون هذا التنوع الاثني والعرقي اللغوي واللوني الجغرافي والاقتصادي مصدر قوة للأمة لا مصدر ضعف. مصدر اجماع لا مصدر خلاف وذلك على ارضية المواطنة للجميع.
وظهور داعش على مسرح الأحداث في السنة الماضية كان ليس نتيجة استنباطات واستنتاجات فكرية ومنهجية محضة، وإنما هو حالة نفسية واجتماعية فرضتها ظروف معينة، صاحبها نوع من التبرير والتعليل الذي غالبًا ما يكون مستندًا إلى نص شرعي أو قياس فقهي أو ربما حالة تاريخية لها حضورها، وفي معظم الحالات يوازي ذلك عملية نشوء جماعة أو حزب أو حركة تكون بعض المفاهيم التي تستطيع من خلالها القيام بعملية الحشد الشعبي، والتي هي ركيزتها الأولى ولا وجود لها إلا بها، حيث لا يتم ذلك إلا استنادًا على المرجعية الثقافية للمجتمع، وهي في الحالة العربية على سبيل المثال دينية بالدرجة الأولى... فذلك الفكر ليس وليد اللحظة، وإنما وجد وتغير وازداد عبر عشرات السنين ليبلغ قمته ويتخذ شكله الحالي، وعامل آخر لعبت عليه داعش لتتخذ لها الشرعية اللازمة، وهي أنها توجت حالة التطرف تلك بإعلان الخلافة، ونستطيع أن نقول هنا إنها أدارت حالة التطرف بشكل جيد، فالخلافة هي الهدف الذي دعت وتدعو إليه كل الجماعات والحركات الإسلامية خلال المئة سنة الأخيرة، فحاولت أن تقطع الطريق عليهم جميعًا، وهم يستدلون في ذلك بأدلة شرعية متعلقة بشرعية الأسبقية بالبيعة.