بقلم: زياد جيوسي
رحلة شعرية جميلة تأخذنا فيها الشاعرة التونسية جودة بلغيث في ديوانها الجميل "نافلة الحلم" عبر ستة وثلاثين نصا و93 صفحة من القطع المتوسط، من إصدار الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع، قدم لها القاص والروائي التونسي ابراهيم درغوثي سادرا في عباب الديوان بكل احترافية وجمال، وغلاف جميل بلوحة فنية بلون أزرق جمع بين التقاء الأزرقين البحر والسماء وبينهما امرأة جميلة تحلق في فضاء الحلم، ومركب شراعي يتجه للبعيد ناشرا اشرعته في فضاء الحلم، وعنوان متميز وجميل يشير الى التحليق فيما وراء الحلم حيث الحلم أمر واقع ومفروض، ولكن نافلة الحلم قرار ذاتي تحلق فيها الشاعرة متعبدة في فضاء الجمال والشعر، ومن خلال نافلة الحلم وجولات ما بين دفتي الكتاب انتقيت عدة نصوص حلقت روحي بها، عبرت هذه النصوص عن الأفكار التي جالت في روح الشاعرة، والتي وجدتها في ثلاث أفكار أساسية كانت في ثنايا روحها وعبرت عنها شعرا وهي:
فكرة الرحيل "الموت": الموت حلم أنيق تحلم به وترى أن الحياة تكون به وفيه، ففي نصها: "سدرة الشوق" تقول: "أموت، يا حلمي الأنيق"، هذه الحالة التي تكررت بصور مختلفة في نصوص جودة حول الموت وتصويره بهذه الجمالية، يثير في روح القارئ أكثر من سؤال؛ فهل الشاعرة وصلت إلى مرحلة من رفض الحياة بحيث صار الموت هو الحلم الأجمل لها تحلم به وتنتظره، أم أنها وصلت إلى مرحلة من التصوف والانسلاخ عن الحياة الدنيوية، بحيث أصبح الحلم بالموت والانتقال إلى الحياة الأخرى هو المبتغى الذي أصبحت تحلم به كما يحلم به النساك المتصوفين؟
وإن كان العنوان لنصها: "رؤياي" إضافة إلى ما ورد في العديد من نصوصها الأخرى، يجعلني أكثر ميلاً لفكرة المتصوفين، فهم من يتماهون من خلال التعبد بالذات الإلهية كما قرأنا في أشعار عمر بن الفارض ورابعة العدوية وغيرهم من المتصوفين المشهورين، فجميعهم كان الموت بالنسبة إليهم حلماً جميلاً للوصول إلى العالم الآخر ضمن رحلة تحف بها الملائكة والنور، ففي نصها "رؤياي" و كما أرى في نصوص الشاعرة الجميلة والمثيرة للتساؤل، نجد دائماً حلماً ولوحات مرسومة بالكلمات وفكرة وراء الحلم، ولكن وفي أكثر من نص نجد الشاعرة تبحث في رحلة الرحيل الأخيرة وكأنها تتمناها "أبلغ المنتهى"، نجدها تصورها بشكل جمالي؛ وكأن هذه الرحلة رحلة انتقال عروس حلمت بالزواج بعد حب فانتقلت من الوحدة إلى الزواج، ونلاحظ في هذا النص أن الشاعرة صورت الموت بـ "زهرة برّيّة يتضوّع عبيرها"، ووجود كلمة "برية" يحمل دلالات كثيرة وأهمها أنها أكدت أن الموت فعل خارج عن إرادة الإنسان ومساهمته به كما الزهرة البرية، وفي نفس الوقت شبهت الموت بالزهرة الجميلة عبقة العبير، وترى نفسها خلال عملية الرحيل/ الموت، كهالة من نور تحف بها ملائكة النور بموكب مهيب تعبر فيه المجرات، وتحرسها النجوم حتى تصل الروح إلى نهاية الرحلة، والغريب أيضاً إصرار الشاعرة على تصوير الموت وكأنه حالة من عشق يغشاها: "وأبلغ المنتهى.. عشقاً يغشاني"، وتقول أيضا: "أراني هالة من نور".
الموت ورحلة الرحيل تكررت في نصوص الشاعرة، فنجدها في نص يحمل اسم: "التداعي"، نجدها أيضاً تقول: "تتخطى الحجب ملائكة السماء، تتلقفها، ..شعاعا إلى سدرة المنتهى"، وفي نص آخر يحمل اسم: "حنين وشجن"، نراها تحلم بالرحلة والغرق فتقول: "الغرق يحنّ لي،اللّجة الهاربة عروس بحر تُردّد ألحان أعماقي"، وفي نص "لهيب الذاكرة" تقول: "و.. أستسلم للحلم لصخب الصّمت"، بينما في نصها: "نار الحرف"، تقترب أكثر من الفكرة حين تهمس: "على أعتاب الآلهة أتلقّى المعنى" وتكمل: "فتتلقّفني ملائكة الرّوح، تعرجُ بي إلى سماوات، آلهةُ الشّوق" بينما في نصها: "الروح تدخل الغياب في حضورك"، تكون أكثر قرباً لفكرة الموت والهدف منها حيث تقول: "صلاة في معبد الحرف، إلى سدرة المنتهى ترفعني"، وفي معظم نصوص جودة نجد فكرة الرحيل والحلم بها تتكرر بشكل أو بآخر، ففي نصها: "شرنقة الحياة" تقول: "شرنقة تضج بالحياة، تسعى للحريق"، وفي نصها: "محراب الصمت" تتجلى الفكرة الصوفية بقولها: "أدمنت عشقك سيد الكون"، وهذا ما نراه في العديد من النصوص مثل: سحابة/ لغة طوفانية/ أكتبك أكتبك/ معزوفة لقاء/ حنين وشجن/ لهيب الذاكرة/ نار الحرف/ الخطوات تنتعل المسافات/ دهشة وسراب/ صدأ الثواني/ صلاة عاشقة/ للوقت ظل/ حورية الحلم.
الحب: مشاعر نجدها أيضا في جنبات الديوان، ففي نصها "مشطي و قلم الرّصاص" نجد خمسة لوحات تتالت بخروج عن المألوف حين تقسيم النص، فبدأ النص برباعية لينتقل إلى ثلاثية فخماسية ويعود لثلاثية ويختم بسداسية، وفي المقطعين الأولين نجد بطلة النص تتحدث عن نفسها ووصف الحالة التي تمر بها، فتصف الرجفة التي تعتريها حتى تصل بها إلى منبع النور، إلى حيث الموت المشتهى، فتصور الموت وكأنه رغبة روحية بدون خوف منه، وإلى الصلب بسبب الرجفة على أعمدة الريح، فتضعنا بصورة مرسومة بجمال بعيدا عن الخوف البشري المعتاد من الموت.
هذه المقدمة تدفع القارئ للتساؤل: لما هذه الرغبة واشتهاء الموت والصلب على أعمدة الريح؟ لنجد في المقطع الثلاثي الذي يلي الجواب، فهناك حزن تريد أن ترى "ظلال الرّوح ترقص مُنتشية"، ومنتشية على "على آخر وتر للحزن"، وهذا ما يعطينا الجواب وسر الاشتهاء والرغبة للرحيل والموت، فهناك حزن شديد حتى أن ظلال الروح سترقص على آخر وتر لهذا الحزن قبل أن تعلن رحلة الرحيل.
ومرة أخرى يكون القارئ في حالة سؤال: من أين أتى هذا الحزن الذي يجعل هناك رغبة الموت؟ وبدون أن توضح سيدة النص نجد في المقطع الخماسي الثالث بالترتيب مخاطبة للحبيب الذي تحلم أن يكون ناظم حياتها بل ناظم للحياة، ولكن يظهر من خلف النص أن المخاطب ابتعد تماما عن هذه الرغبة بحيث أن سيدة النص تصرخ: "عدوى الجنون تُصيبني"، وتكمل همسها لنفسها تصف الحالة "و أذهل عنّي" حتى تصل من الذهول أنها تصل لمرحلة تصفها "تتبعثر أشيائي الصّغيرة".
في المقطع السداسي الأخير والخامس بمقاطع النص تواصل سيدة النص الحديث عن ما كانت تحلم به، الحياة المشتركة والمتكاملة، ترتيب أشيائهما معا، دفاتره ودفاترها، مشط وفرشاة ألوان، عطرها وحروفه، وفي هذا المقطع نجد إشارة لطبيعة الآخر، فهو فنان تشكيلي لأنها تتحدث عن فرشاة ألوانه، وهو كاتب أو شاعر، فهي تشير لحروفه، وفي نفس الوقت يتضح من خلال النص ونهايات المقطع والنص، أن الفراق كان قد مضى عليه فترة من الوقت، فالشاهد على رغباتها هو قلم الرصاص، وهذه الشهادة تعني بوضوح أنها كتبت الكثير من الرسائل والرغبات بقلم الرصاص الذي يمحوه الزمن، لكنها لم تتلق جوابا، فكان حلمها بالرحيل بعد أن تسبب لها هذا الفراق الكثير من الحزن.
وهذا الحب نراه في نص: "زمن الحكاية" بقولها: "نعيد الحكاية، آدم وحواء واله الحب، نعيد قصة الخلق الأولى"، ويظهر واضحا في نصها: "أنت" بقولها: "مطر الروح أنت، عبير اللحظات، أنت كفري وإيماني"، ونلمس الحب في العديد من النصوص مثل: ثورة الماء/ حروف السماء/ أقلب فصول ذاكرتي الممنوعة من الشمس.
الحلم والأمل: وهو فكرة أخرى تجلت في ديوانها فنرى الألقة جودة تواصل رحلة البحث في الذات للوصول إلى الحلم/ الفجر، بروح صوفية تفكر وتحلم، ففي نصها "بصيرة الليل" تحاول أن تخرج من الذات إلى إشراقة تبحث عنها "هذا ليلي قد أزف"، وترى اللحظة تتجسد في بياض الفجر "على تخوم بياض الفجر"، هذا البياض المستسلم لجمر الصباح الذي تبشر به الشمس، فهي ترى بالفجر ما يمكن أن تسقط روحها عليه كحالة في رحلة بحثها عن الاندغام الروحي ، فهو الآت بعد عتمة "الفجر يهطل نوراً"، وهي لحظة تحاول التقاطها قبل أن يفر الصباح من بين الأصابع التي تحاول أن تمسكه، فيفر في لحظة هلامية وزئبقية.
فارق بين إشراقة النور في الفجر وبين الصباح حين تكون الشمس قد حسمت أمرها وأشاحت عن نورها لحظات التسلل الخجلة التي تهطل النور من قلب العتمة كشلال انبثق فجأة، فلحظة الفجر هي التي تنقي الروح للحظات ما قبل الصباح "حارقة عصافير شهوتي"، وهي اللحظات التي تشهد ذروة التأمل الروحي لدى الروحانيين والصوفيين، فهي لحظة الذروة لانصهار العابد بالمعبود، انسلاخ الروح النورانية عن الجسد المادي والشهواني، ولحظات التألق للوصول إلى ذروة العشق الإلهي.
ويبقى الحلم والأمل يراود الشاعرة ففي نصها: "الليل يكتظ بي" تقول: "دموع قاسٍ ملحها، ونسيت أن.. (لابد لليل أن ينجلي)."، وفي نصها "العلامة" يكون الحلم والأمل في الوطن بقولها: "يزرعني، ياسمينة عاشقة، في حضن وطني، وطني النائم على المرج والماء"، ويتألق الوطن مرة أخرى في نصها: "كأنني على الجمر حافية أسير" فتهمس: "آآآآه.. الحلم وطني، وطني، وأنت إمتداده"، ونرى الحلم والأمل والوطن في العديد من نصوص الديوان مثل: أثر الحلم/ رائحة الوقت/ سجادة من ورق/ حزينة يا.. أنا/ رجاء/ زمن هارب/ مواسم الذكرى/ الصدى يقرع طبول الخواء.
حين نقيم الديوان نجده امتلك مميزات النصوص الشعرية النثرية من حيث الرمزية واللوحات والصور، امتلك الجرس الشعري والنغمة الموسيقية بشكل لا بأس به، كان مكثفا باللغة ولم تلجأ الشاعرة لتشتيتنا بالسرد الذي يخرج النص عن أفاقه، فكان هذا الديوان يحتوي نصوصا يمكنها أن تشد القارئ الذي يخرج عن الحروف لتخيل وتصور اللوحات والتحليق في فضاء الفكرة، ورغم أني قرأت الديوان منذ عدة أعوام حين أهدتني اياه الشاعرة ووصلني عبر البريد، إلا أني عدت إليه أكثر من مرة للقراءة وفي كل مرة أشعر أني اقرؤه لأول مرة، وكنت أشعر بهمسات غامضة تشدني من خلف الحروف، تشدني وتسألني أن أعبر عما قرأت، لكن ليس بتعليق عابر.
[gallery size="full" ids="596057,596056"]