لأول مرة أكتب عن كتاب لم أنتهِ من قراءته، وذلك لأستثمر الوقت بدعوة قرّاء مقالي لقراءة كتاب "فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة" متمنياً من المؤسسات الأكاديمية العربية والدولية الإستناد له في فتح مواجهات متنوعة في تعرية الآيديولوجية الصهيونية وما انبثق عنها من فكرة إسرائيل.
يتحدى الكاتب "إيلان بابيه" بصفته "مؤرخًا جديدًا" المراجع والمنشورات التقليدية للتاريخ الإسرائيلي. فيؤكد أن إنشاء إسرائيل على أنها احتلال استعماري وليس كحركة تحرر وطني سائدة. ما يجعله يغوص في الدور الذي لعبته الصهيونية في تشكيل الأيديولوجية السياسية المهيمنة في إسرائيل.
في هذا الكتاب يكشف بابي بشكل نقدي تطور السرديات الصهيونية من الكلاسيكية، وما بعد الصهيونية إلى الصهيونية الجديدة. لقد نجح في توضيح الأهمية التي لعبتها الصهيونية خلال نشأة إسرائيل من خلال تسليط الضوء على أمثلة مثل قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، والمحرقة ، ودورها في زيادة التوترات الثقافية بين السكان الإسرائيليين بعضهم ببعض، وبينهم وبين الفلسطينيين والعرب، والتواجد في وسائل الإعلام.
يفحص بابي في هذا الكتاب تطور الصهيونية المهيمنة من خلال تقديم التفسير الصهيوني الذي ترعاه الدولة للتاريخ والسياسة الإسرائيليين. في الجزء الثاني ، يشرح ظهور حركة ما بعد الصهيونية والتطور اللاحق للصهيونية الجديدة. كمؤرخ ، يولي بابيه أهمية كبيرة لدور المؤرخين في هذا التطور ، كما يدرس كيف اكتسبت هذه الحركات مكانة بارزة من خلال الحركات الثقافية وتأثيرها على الأوساط الأكاديمية وسياسة القوة.
قارئ الكتاب سيكتشف بسهولة كيف ان بابيه فكك الصهيونية من خلال أدوات علمية. في قراءته لم تكن حركة تحرير وطني بل مشروع استيطاني استيطاني فُرض على الفلسطينيين بالقوة بدعم من الغرب. من هذا المنطلق ، يترتب على ذلك أن دولة إسرائيل ليست شرعية حتى في حدودها الأصلية ، ناهيك عن كونها داخل حدود ما بعد عام 1967. لتصحيح الظلم ، يدعو بابيه إلى بديل سلمي وإنساني واشتراكي للفكرة الصهيونية في شكل دولة ثنائية القومية تتمتع بحقوق متساوية لجميع مواطنيها.
يتناول بابيه في هذا الكتاب التطورات الأخيرة في المجال التأريخي، وخاصة فيما يتعلق بأصول مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. لطالما كان السؤال الكبير هو: هل غادروا من تلقاء أنفسهم أم تم إجبارهم على الخروج؟ لطالما أنكرت الحكومات الإسرائيلية أنها طردت الفلسطينيين. ويقول بابيه إن الوثائق الجديدة تثبت أن طرد 800 ألف فلسطيني كان متعمدًا ومنهجيًا وواسع النطاق. باختصار، يبرهن أنه عندما أتاحت الحرب فرصة، تُرجمت الفكرة الصهيونية إلى تطهير عرقي لفلسطين.
ويتناول بابيه قضية حساسة في هذا الكتاب وهو دور الهولوكوست في تقوية النضال من أجل إقامة دولة يهودية هو موضوع حساس آخر في الجدل الدائر حول الماضي، يندد بابيه بأي تلاعب سياسي بالهولوكوست كوسيلة للابتزاز الأخلاقي المصمم لإسكات النقد المشروع للسياسات الإسرائيلية.
و وجه العديد من الرسائل الحادة للمسؤولين الإسرائيليين الذين أتقنوا مثل هذا التلاعب كأداة دبلوماسية في نضالهم ضد الفلسطينيين. ومع ذلك ، فإن قلقه الأعمق هو فهم تأثير وأهمية ذكرى المحرقة في بناء وتسويق فكرة إسرائيل. لقد كان لدى الإسرائيليين شعور مبالغ فيه بأنهم ضحايا، وهذه الصورة الذاتية، كما يقول، منعتهم من رؤية الفلسطينيين من منظور أكثر واقعية ، وأعاقت التوصل إلى حل سياسي معقول للصراع العربي الإسرائيلي. الحجة القائلة بأن ما حدث للفلسطينيين كان مجرد ظلم بسيط لتصحيح قدر أكبر من الظلم (تدمير يهود أوروبا) مرفوض بشيء من القوة. الأمل الوحيد الذي يراه بابي في صنع السلام مع العرب هو أن يحرر الإسرائيليون أنفسهم من عقلية المحرقة.
على أي حال لا يستطيع أحد أن يتحدث عن أهمية هذا الكتاب في زاوية بحجم خرم إبرة، وبطريقة غير مباشرة هذا الكتاب يبين ضعف معرفتنا نحن الفلسطينيين والعرب بأسئلة "الآخر"، وبصراحة بضعفنا بمخاطبة ومواجهة المجتمع الإسرائيلي، وعدم المقدرة على اللعب بوتر التناقضات الداخلية التي تعصف به، وإيجاد المساحات المشتركة مع القوى المناهضة للاستعمار الكولونيالي والمتعاطفة مع قضيتنا.
لو كنت صاحب قرار، لترجمة هذا الكتاب بكل لغات العالم وقمت بتوزيعه على كافة الدول، وطلبت من ايلان بابيه بأن يستعد لرحلة عالمية على مستوى 100 جامعة عالمية لإلقاء محاضرات بالتعاون مع الجاليات العربية والفلسطينية... فإذا إستخدمت إسرائيل السلطة من أجل خلق المعرفة، علينا إستخدام المعرفة من أجل تعرية سلطتها.