يشهد قطاع غزة المحاصر أوضاع اقتصادية مزرية، والتي تفاقمت بسبب العدوان الإسرائيلي الأخير والذي دام لثلاثة ايام متواصلة، مخلفا دمار في المباني السكنية والمنشآت الاقتصادية مما أدى لخسارة العديد من سكان القطاع لمساكنهم وعملهم، بالإضافة إلى ارتفاع الاسعار وانهيار القدرة الشرائية، مما دفع العديد من الجهات الفلسطينية للمطالبة بفك الحصار عن القطاع واعادة بث الحياة فيه.
أزمة غذاء
بالرغم من انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، غير إن سلطات الاحتلال واصلت إغلاق المعابر التجارية للقطاع لأسبوعين متتاليين، مما إلى أدى وضع القطاع أمام أزمة غذاء، جراء نفاد مخزون بعض السلع الغذائية من الأسواق والمحال التجارية.
وعلى غرار نقص المواد الغذائية، ارتفعت أسعار السلع الأساسية، وتحديداً مشتقات الألبان والدواجن التي زادت أسعارها بنحو الضعف منذ بدء العدوان الإسرائيلي على القطاع، وذلك راجع لاعتماد القطاع على ما يتم المنتجات المستوردة من مصانع الجنيدي في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية.
وأدى استمرار سلطات الاحتلال بإغلاق معبر كرم أبو سالم، لفترة طويلة بعد وقف الحرب إلى زيادة تدهور الحالة الإنسانية والغذائية في غزة، فعدد الشاحنات المحتجزَة على الجانب الإسرائيلي من المعبر تجاوزت 2500 شاحنة، جزء كبير مما تحمله هذه الشاحنات من سلع غذائية أهمها، منتجات اللحوم ومشتقات الألبان والأجبان والمعلبات والمشروبات الغازية تعرضت للتلف وانتهت مدة صلاحياتها.
إنهيار القدرة الشرائية بعد العدوان
ومع تزامن التصعيد الأخير من اقتراب الدخول المدرسي لم يستطع أغلب الآباء توفير مستلزماتهم خاصة مع ارتفاع اسعار الأدوات والكتب المدرسية، حيث يؤكد بعض العاملين في بيع الملابس والحقائب المدرسية أن الزبائن تبحث عن البضائع الرخيصة، وأن ذلك اضطرهم إلى تخفيض نسبة الأرباح على بضائعهم من أجل استمرار البيع.
وزاد تردي الأوضاع في قطاع غزة منذ العدوان الإسرائيلي في العام الماضي، ولم يتغير الحال كثيراً بعد سماح الاحتلال بدخول عدد من الغزيين للعمل في أراضي الداخل المحتل عام 1948، إذ يرفض عشرات الآلاف العمل داخل الأراضي المحتلة، رغم أن بعضهم فقدوا أعمالهم، أو لا يجدون فرصة عمل، ويعتبر كثيرون أن الجو العام غير مهيأ لاستقبال السنة الدراسية، إذ استشهد 15 من أطفال المدارس خلال العدوان الأخير وحده، والظروف الاقتصادية والاجتماعية صعبة.
يقول تاجر من غزة "الكثير من المكتبات أغلقت لأن هذه المهنة لا تجدي نفعاً في مجتمع منهار، حتى الأدوات المدرسية كانت على دفتر الدين لأن الناس لا تستطيع دفع تكلفة كامل لوازم أطفالها مرة واحدة، وبعض العائلات تقوم بإعادة استخدام الدفاتر القديمة عبر محو المكتوب فيها لتوفير تكلفة شراء الجديدة، فأي بضاعة تدخل إلى قطاع غزة تكون غالية الثمن مقارنة مع الدول المجاورة، لأننا تحت الحصار".
دمار نفسي
العدوان المتواصل على قطاع غزة لم يخلف اوضاع اقتصادية مزرية فقط، بل أدى الى تردي الصحة النفسية لسكان غزة، والذين اصبحوا يعانون من الحزن والاكتئاب حيث قال الشاب شعث، الذي يبلغ من العمر 24 عامًا والعاطل عن العمل: "حياتي حروب. في أعوام 2008 و2012 و2014 و2021 و2022. أتمنى أن تتغير حياتنا في هذه المدينة"، وأضاف: "معظم المنازل هنا لها أسطح من التوتياء، لذلك كان هناك الكثير من الأضرار بشكل واضح. كل هذه الحروب أثرت علينا كثيرًا".
وهو نفس رأي محمود، وهو شاب آخر كان يساعد في إزالة الأنقاض، وقال: "حياتنا مليئة بالحروب.. حروب اقتصادية واجتماعية وسياسية.. دائمًا حروب.. حياتنا اليومية حرب"، وأضاف الشاب البالغ من العمر 22 عامًا: "أتمنى فقط أن أكون مثل الشباب الآخرين، وأن أعيش بأمان وأطعم أسرتي. الحياة الطبيعية. إنه حلم بسيط للغاية".
من جهتها قالت الطالبة آية ملاحي، وهي خريجة إعلام من غزة : "الوضع في غزة لا يوصف - هناك الكثير من الأزمات مثل الحرب (التي اندلعت) قبل أيام قليلة، وخسائر كثيرة جدًا. إنها تستنزف من جميع الجوانب"، وأضافت: "لا يوجد عمل. لا أحد يستطيع أن يصنع أو يبني مستقبلاً في غزة".
من جهة اخرى قال مدير برنامج غزة للصحة النفسية ياسر أبو جامع إن هناك شعورا سائدا لدى الناس بالإحباط وعدم القدرة على تغيير الوضع، بالإضافة إلى عدم الأمان لدى جميع الفئات العمرية، وخصوصاً الأطفال والشباب من الجنسين، وقال إن الحل الوحيد للتخلص من الأوضاع النفسية والاضطرابات النفسية في غزة يكمن في إنهاء الاحتلال والانقسام والعمل على زيادة قدرات الأسر للتكيف والتعامل مع الضغوط النفسية.
وكانت المديرة التنفيذية لجمعية عائشة لحماية المرأة والطفل ريم فرينة قد عرضت إحصائيات بعد العدوان الأخير على قطاع غزة خلال شهر أغسطس/آب الجاري والذي استمر 3 أيام، وأظهر أن 35 في المائة من النساء والأطفال يعانون من الاكتئاب، و25 في المائة من القلق، و12 في المائة حاولوا الانتحار، فضلًا عن زيادة الإدمان على الأدوية والمواد المخدرة، وارتفاع نسبة العنف ضد المرأة والأطفال.
تحذيرات من تفاقم الوضع
وفي أعقاب التصعيد الأخير حذر مركز الإنسان للديمقراطية والحقوق، والذي ينشط في قطاع غزة، من تفاقم الأوضاع الاقتصادية والإنسانية داخل القطاع المحاصر، عقب العدوان الأخير.
واشار المركز في تقرير له، إلى أن العدوان الاخير على قطاع غزة خلف خسائر في قطاع الإسكان تقدر بـ 3 مليون دولار، حيث تم تدمير الكثير من الوحدات السكنية بشكل كلي وبليغ، ونحو 2000 وحدة بشكل جزئي.
وأوضح التقرير أن هذه الخسائر فاقمت من ازمة السكن وعطلت عملية الإعمار، التي تسير بوتيرة بطيئة والتي تعهدت مصر وقطر بإتمامها، حيث أكد العمادي رئيس اللجنة القطرية لإعادة إعمار قطاع غزة أمس الاثنين خلال زيارته لقطاع غزة، أن قطر ستتكفل بإعادة إعمار المباني المهدمة خلال التصعيد الأخير، بالرغم من عدم اتمام اعمار الخراب الذي تسبب فيه العدوان الإسرائيلي سنة 2021.
من جهة اخرى أكد المركز أن العدوان الأخير الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، أثر بشكل واضح على القطاع الصحي المتدهور في غزة، حيث منعت قوات الاحتلال عقب العدوان توريد أجهزة طبية ضرورية للأقسام الحيوية في المستشفيات، من بينها 24 جهاز أشعة تشخيصية، إضافة إلى منع إدخال قطع الغيار اللازمة لصيانة أجهزة أخرى معطلة، والتي تعد ذات أهمية كبرى في تقديم التدخلات الطارئة للجرحى في أقسام الطوارئ.
فقد ادى التصعيد الأخير إلى تدمير اقتصاد قطاع غزّة، وتعطيل منشآته، وإيقاف حركة البناء فيه بالإضافة إلى مزارع فلسطينية كثيرة، وخصوصا الحمضيات، وأتلفت الأراضي الخصبة، كما إسرائيل على تضيّق المنطقة البحرية المسموح لأهل غزة صيد السمك فيها، وتحول بينهم وبين استثمار حوض الغاز في مياه غزّة الإقليمية، وتغلق المعابر بينها وبين غزّة.
ونتيجة هذا العدوان ارتفعت معدلات الفقر والبطالة، ما زالت ترتفع، فعندما تلوح فرصة لانتعاش القطاع وتحسن أوضاع سكانه، يسارع الاحتلال إلى اعتداء جديد يعيد القطاع إلى نقطة البداية، فالسياسة الاسرائيلية تعمل على إبقاء القطاع، موصولاً بجهاز التنفس الاصطناعي داخل غرفة الانعاش.