لا يخرج سلوك إسرائيل مع الفلسطينيين عن إرهاب دولة منظم. ويعرف الإرهاب بأنه الاستخدام المتعمد للعنف أو التهديد باستخدامه، ضد الأبرياء، لإرهابهم وإجبارهم على اتباع قواعد أو أنظمة أو أفعال معينة. وتعرّف بينات الأمم المتحدة الإرهاب بأنه "تلك الأعمال الإجرامية التي يقصد بها أو يراد منها خلق حالة من الرعب بين مجموعة محددة من الاشخاص لأغراض سياسية". وهو ما ينطبق تماماً على أفعال إسرائيل سواء كان ذلك في الضفة الغربية أو في قطاع غزة، مع الوضع بعين الاعتبار أن إسرائيل هي القوة القائمة بالاحتلال، وتتحمل مسؤولية حماية الفلسطينيين، لا إبادتهم وسرقة أرضهم وطردهم من ديارهم. وعليه تعتبر إسرائيل دولة مارقة، بالتعريف الموضوعي للمصطلح، أي تخالف ممارساتها القانون الدولي. وتستخدم الولايات المتحدة هذا المصطلح بشكل مسيس وغير موضوعي لوصف أعدائها، بينما تدعم إسرائيل وإرهابها المنظم ضد الفلسطينيين. ولا يعد ذلك بالأمر الغريب على الولايات المتحدة، لأن ممارساتها أيضاً لا تلتزم بالقانون الدول وتتحداه، وكان ذلك جلياً من خلال اعتداءاتها العسكرية المدمرة على دول عديدة دون مسوغ قانوني، في انتهاك صريح لسيادة تلك الدول، وفرضها حصاراً جائراً على دول أخرى، لا يلتزم بالمعايير القانونية أو الدولية المتعارف عليها، وتدعم إسرائيل، الدولة القائمة بالاحتلال، وممارساتها الاجرامية بحق الفلسطينيين، على حساب أي قواعد للعدالة أو مبادئ للقانون، مستغلة مكانتها الدولية كقوة عظمى، والدعم الغربي المطلق لها من قبل حلفائها، في ظل منظومة دولية مهترئة.
احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة وأجزاء من أراضي عربية أخرى في العام ١٩٦٧. في نفس ذلك العام صدر القرار ٢٤٢ من مجلس الأمن، والذي أكد على عدم القبول بالاستيلاء على أرض بواسطة الحرب، ودعا إسرائيل لسحب قواتها من الأراضي التي احتلتها، وطالب بالعمل من أجل سلام دائم وعادل في المنطقة. لم تستجب إسرائيل لذلك القرار، ولعشرات القرارات التالية عليه منها القرار ٣٣٨، الذي أكد على القرار سابق الذكر، وتواصل احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة. دشنت إسرائيل بمجرد سيطرتها على الأراضي الفلسطينية المحتلة مشروعها الاستيطاني، فاستولت على أراضي الفلسطينيين، وبنت عليها المستوطنات، وبدأت بنقل الاسرائليين للعيش فيها. وبعد أن كانت الضفة الغربية وقطاع غزة تخلو تماماً من المستوطنات والمستوطنين عند احتلالها، بات هناك أكثر من ١٠٠ مستوطنة وبؤرة استيطانية تنتشر في الضفة وغزة والقدس، يسكن فيها أكثر من ٢٢٥ ألف مستوطن في العام ١٩٩٣. في ذلك العام، وقعت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو، الذي يقوم على أساس الوصول لتسوية نهائية خلال خمس سنوات، على أساس قراري مجلس الأمن ٢٤٢ و٣٣٨. بعد مرور ثلاثة عقود على ذلك الاتفاق، لم يتحقق استقلال الفلسطينيين، ويواصل الاحتلال سيطرته الفعلية على الأراضي الفلسطينية، كما يواصل سياسته الاستيطانية، المخالفة للقانون الدولي، والمدمرة لقيام دولة فلسطينية مستقلة، أو لحل الدولتين.
لم يغير توقيع اتفاق أوسلو من الواقع القانوني للأراضي الفلسطينية المحتلة وفق قواعد القانون الدولي، فبقيت أرضاً محتلة وفق تصنيف القانون. وتؤكد العديد من قرارات مجلس الأمن وتقارير الأمم المتحدة وقرارت المحاكم الدولية ذلك الوضع، فأكدت محكمة العدل الدولية ذلك على سبيل المثال في رأيها الاستشاري بخصوص الجدار العازل في العام ٢٠٠٤، كما فعلت المحكمة الجنائية الدولية في قرارها بتأكيد الولاية قضائية للمحكمة على تلك الأراضي المحتلة في العام ٢٠٢١. وتواصل سلطات الاحتلال، بعد توقيع اتفاق أوسلو، سيطرتها على الأراضي الفلسطينية بشكل عام، محكمة سيطرتها بالكامل على أكثر من ثلثي تلك الأراضي، وهي تلك التي أصرت في ذلك الاتفاق على إخضاعها لسيادتها الكاملة، الأمر الذي يشير لسوء نيتها عندما وقعت ذلك الاتفاق. وتوسعت إسرائيل خلال العقود الثلاثة الماضية في بناء المستوطنات، فأقامت عشرات المستوطنات الإضافية وآلاف الوحدات الاستيطانية وأسكنت فيها أكثر من ٧٥٠ ألف مستوطن في الضفة والقدس، مغيرة بذلك الواقع الجغرافي والديمغرافي للأراضي الفلسطينية. وتنص أنظمة "لاهاي" على منع الدولة المحتلة من إجراء تغيرات دائمة فى الاراضي التي تحتلها، باستثناء تلك الضرورية لحاجات عسكرية او لصالح السكان المحليين. كما يمنع القانون الدولي الانساني الدولة المحتلة من نقل مواطنيها الى المناطق التي تقوم باحتلالها. كما يخرق الاستيطان الاسرائيلي القانون الدولي حقوق الانسان أيضاً، اذ يمس بحقوق الفلسطينيين، ومن بينها الحق بتقرير المصير، وحق المساواة، وحق الملكية، والحق بمستوى لائق للحياة، وحق حرية التنقل، وهو ما جعل منظمات حقوقية ورجال قانون يتهمون إسرائيل بالتميز العنصري بالإضافة إلى كونها دولة احتلال. وتكشف ذلك طبيعة انتشار المستوطنات التي تتوزع في الضفة الغربية والقدس الشرقية، والطرق الالتفافية التي تربط تلك المستوطنات مع بعضها البعض ومع المدن الإسرائيلية داخل الخط الأخضر من ناحية، وتفصل من ناحية أخرى المدن والقرى الفلسطينية عن بعضها في الضفة الغربية وتمتع تواصلها وتجعل منها كانتونات منفصلة تقطعها تلك المستوطنات، بالإضافة إلى الفصل التام بين الضفة وغزة، كما تحجز تلك المستوطنات جميع تلك الأراضي الفلسطينية داخل حدود تسيطر عليها إسرائيل بشكل تام من ناحية ثالثة، لمنع قيام دولة فلسطينية متصلة الأركان ذات سيادة.
ولا يبدو ذلك غريباً أو مفاجئاً بالعودة لتاريخ وأهداف الحركة الصهيونية، والتي تمكننا من فهم تطورات الاستيطان في الأراضي الفلسطينية بعد احتلالها عام ١٩٦٧، وبعد توقيع اتفاق أوسلو، وما نشهده اليوم، سواء من جرائم ابادة جماعية في غزة، أو توسع استيطاني وعنف للمستوطنين وقمع لقوات الاحتلال في الضفة الغربية. فقد اختار المشروع الصهيوني، الذي ظهر نهاية القرن التاسع عشر، الدين، ليوجه الاستيطان في فلسطين، رغم علمانية توجهات قيادات ذلك المشروع. واختار هؤلاء المؤسسون الدين، لتعميق فكرة المشروع وتشريعه بالنسبة لليهود اولاً، الشريحة التي ستستقدم لفلسطين لاستعمارها، ولدى قادة العالم المسيحي، التي تؤمن دينياً بفكرة عودة اليهود لفلسطين، بالتزامن مع التطورات السياسية في دول أوروبا التي كانت تعارض بقاء اليهود في بلدانهم، ناهيك عن اضطلاع تلك القيادات بالمؤامرات السياسية الغربية التي كانت تحاك لمنطقة الشرق الأوسط. بعد وعد بلفور وسيطرة بريطانيا على فلسطين من خلال الاحتلال والانتداب من بعده، عملت الحركة الصهيونية على التمدد والتوسع والسيطرة باتجاه السهل الساحلي لفلسطين، رغم أن الرواية الدينية اليهودية تركز على أراضي الضفة الغربية الداخلية والتي يطلقون عليها يهودا والسامرة، وهو ما يشير لنواياها المستقبلية بالاستيلاء على كامل فلسطين. في العام ١٩٣٧، اقترحت لجنة بيل، التي أرسلتها الحكومة البريطانية للتحقيق في أحداث الثورة العربية الكبرى التي اندلعت في العام السابق، تقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين، بناء على توصيات يهودية، فأعطت اللجنة أكثر من نصف مساحة فلسطين والمتمركزة في منطقة السهل الساحلي على طوله لليهود، باستثناء غزة، التي فشلت الحركة الصهيونية بالاستعمار فيها. وهو ذات المشروع الذي طرح في الجمعية العامة بعد عشر سنوات، وتم التصويت عليه. فصدر القرار ١٨١، بتقسيم فلسطين رغم أنه لا يحق للجمعية العامة البت بمثل تلك الأمور، كما أن قراراتها توصيات غير ملزمة. إن ذلك التوجه الصهيوني والإسرائيلي من بعده يفسر سلوكها باحتلال الضفة الغربية وغزة في العام ١٩٦٧، وعدم نيتها التخلي عنها رغم توقيعها لاتفاق أوسلو عام ١٩٩٣. فحافظت إسرائيل بعد قيامها في العام ١٩٤٨ على الطابع العلماني الديمقراطي في الأراضي التي سيطرت عليها. إلا أنه بعد احتلال عام ١٩٦٧، بدأت تسهل بروز المستوطنات الدينية في فلسطين المحتلة، وتشكل جماعات مسلحة لحماية المستوطنين، ليذكرنا ذلك ببدايات مرحلة الاحتلال البريطاني لفلسطين، والتي سهلت دخول اليهود وبناء المستوطنات فيها، وتشكيل فرق عسكرية للدفاع عنها. بعد عقد من احتلال الضفة الغربية وغزة، ظهور الليكود كحزب يميني ووصل للحكم مباشرة، وبدأت التوجهات لإبراز مكانه المتدينين في المجتمع الإسرائيلي، الأمر الذي يخدم مستقبل المشروع الاستيطاني في الأراضي المحتلة، وهو ما تطور تباعاً.
واليوم وفي ظل الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، والتي تعد الأشد تدميراً ودموية في العصر الذي نعيش، في ظل صمت قيادات العالم، عن ظلم تاريخي جديد بحق الفلسطينيين يضاف إلى سجل مشابه طويل بدأ منذ اصدار وعد بلفور وامتد بالجرائم التي ارتكبت قبل وأثناء وبعد حرب عام ١٩٤٨ وحرب عام ١٩٦٧ وحرب التمدد الاستيطاني وسرقة الأرض المستمرة دون توقف، وحرب غزة اليوم التي سقط خلالها ١٠٠ ألف ضحية ما بين قتيل ومفقود وجريح خلال ثلاثة أشهر فقط، يجعلنا نتساءل حول مصير الفلسطينيين، الذين يواجهون بصدورهم العارية في الضفة وغزة حرب البقاء، في ظل منظومة دولية غربية متواطئة ومهترئة تقودها الولايات المتحدة؟ وتبقى الإجابة مرهونة بقرار عربي أو إسلامي أو شرقي قادر على تحدي المنظومة الدولية القائمة العرجاء، واستبدالها بمنظومة عالمية أكثر عدلاً وأخلاقاً، فهل سيأتي هذا اليوم.