مع احتدام التنافس خلال الحملات الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة بين المرشح الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطية كمالا هاريس، تتجه الأنظار نحو 7 ولايات متأرجحة، تحدد في النهاية نتائج الانتخابات، نظراً لأن ولايات الأخرى مقسمة تقليدياً بين الديمقراطيين والجمهوريين. وتظهر آخر استطلاعات الرأي تقدم ترامب في ولايات ميشيغان وونورث كارولاينا ونيفادا وأريزونا وجورجيا، بينما تقدمت هاريس في ولايتي بنسلفانيا وويسكنسون. ويبدو أن المرشحة الديمقراطية بدأت في تقليص الفجوات، فضاقت بين المتنافسين في ميشيغان، وبات ترامب يتقدم بنقطة مئوية واحدة فقط. وميشيغان على سبيل المثال من الولايات التي تحتضن جالية عربية مؤثرة، وكانت من بين الولايات التي حسمت نتائج الانتخابات الرئاسية في العام ٢٠٢٠ لصالح بايدن. ورجحت ولايات ميشيغان وجورجيا وأريزونا وبنسلفانيا وويسكونسن ونيفادا نتائج تلك الانتخابات لصالح بايدن.
منذ أن خرج الرئيس الحالي جو بايدن من سباق الانتخابات في 21 يوليو الماضي، تحسن وضع الحزب الديمقراطي الإنتخابي، وأصبحت المنافسة بين ترامب وهاريس تحمل توازناً معقولاً ومنافسة متوازنة. ورغم وجود اعتقاد لدى الناخبين بأن هاريس أكثر صدقاً من ترامب، وفي ظل تركيز رسائلها في دعايتها الانتخابية لكسب أصوات العرب وشريحة الشباب، والذين يحدثون فرقاً في تحسين أسهم الحزب الديمقراطي الانتخابية، هناك عدد من الملاحظات من المفيد توضيحها حوّل هاريس.
هاريس هي ابنة لأب أفريقي من جاميكا وأم هندية، ذات بشرة داكنة. تعتبر أول إمرأة ملونة تصل لمنصب نائب الرئيس الأميركي، وتنافس على كرسي الرئاسة، وأول امرأة سمراء تنتخب مدعية عامة في ولاية كاليفورنيا، وتتولى هذا المنصب، وأول سيناتور من أصل هندي يصل لمجلس الشيوخ. تحرص هاريس في حملتها الانتخابية الحالية على الإستعانة بمنظمي ومستشاري الحملة الانتخابية للرئيس السابق باراك أوباما، كما تستعير هاريس لغته في توصيل رسائلها للجمهور. وهاريس حصدت دعم قيادات الحزب الديمقراطي لترشيحها للمنافسة على الكرسي الرئاسي، على رأسهم الرئيس الحالي بايدن، والسابق كلنتون وزوجته، إلا أن أوباما تردد في البداية في دعم هاريس، إلى أن تم البت في ترشيحها من قبل الحزب.
في إطار حملة واسعة ومنظمة من قبل الديمقراطيين وجّهت لكسب الأصوات التي خسرها بايدن بسبب سياسته تجاه الاحتجاجات الطلابية التي عمت أنحاء البلاد، والدعم غير المشروط لإسرائيل خلال حرب الإبادة على غزة، اختارت هاريس تيم والز كنائب لها لخوض السباق الرئاسي بوعي، ورجحته عن المرشح السابق جورج شابيرو، رغم أنه حاكم في ولاية متأرجحة، إلا أن شابيرو عارض بعنف الاحتجاجات الطلابية، ولم يخف انحيازه لإسرائيل رغم جرائمها، وواجه انتقادات كبيرة من قبل الديمقراطيين لمواقفه، فكان ذلك سبباً كافياً لإستبعاده في ظل تلك الظروف. بينما دافع والز كما هاريس عن حق المحتجين في التعبير، دون تأييد مواقفهم. انتخب والز حاكم لولاية مينيسوتا في العام ٢٠١٩، وهي ولاية معروفة بتأييدها للديمقراطيين، تحتضن جالية مسلمة كبيرة نسبيا. عرف بهجومه القوى على ترامب وبمواقفه التقدمية في القضايا الداخلية المتعلقة بالإجهاض والضرائب ووجبات المدارس المجانية واجور العمال.
وفي الشأن الخارجي يدعم والز بقوة إبرام اتفاق مع إيران، إلا أنه مؤيد وداعم لإسرائيل، وطالما صوت لصالحها كعضو في مجلس النواب، ما بين عامي ٢٠٠٦ و٢٠١٩، بما في ذلك إدانته لقرار الأمم المتحدة في العام ٢٠١٧، الذي اعتبر أن مستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية غير قانونية، متطابقاً في ذلك مع موقف هاريس خلال عضويتها القصيرة في مجلس الشيوخ والتي لم تتجاوز الثلاث سنوات. ونجح في الحصول على تأييد منظمة "أيباك"، وقال أمام أحد مؤتمراتها إن "إسرائيل هي أصدق وأقرب حليف لنا في المنطقة"، ويؤكد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ويعتبر حقها في تقرير مصيرها راسخ. أدان والز هجوم حماس في 7 أكتوبر وأمر بتنكيس الأعلام في ولايته، ورفض التعاطي مع نشطاء مناهضين لإسرائيل دعوه لسحب استثمارات الولاية من إسرائيل. ورغم ذلك يدعم فكرة حل الدولتين، ويعتبر استمرار الاستيطان مضر بالسلام. ويبدي والز تعاطف مع المعاناة الإنسانية في غزة جراء حرب الإبادة، وأيد دخول المساعدات الإنسانية إليها. وأكد في تصريح له أن "الغالبية العظمى من الفلسطينيين ليسوا من حماس، التي لا تمثل الشعب الفلسطيني. ولا يمكننا أن نسمح للإرهابيين مثل حماس بالانتصار".
وتلتزم هاريس بمفاصل سياسة بايدن عموماً، خصوصاً الخارجية، على رأسها الحرب الأوكرانية وعلاقة بلادها بالناتو والتنافس مع الصين والملف الإيراني والعلاقة مع إسرائيل، إلا أنها تستخدم لهجة مختلفة عنه. ورغم ضعف أداء بايدن خلال ولايته وتردد مواقفه، لم يبرز بريق هاريس أو شخصيتها كنائب لرئيس ضعيف. كما أنها لم تقدم اختراقات ملفتة في القضايا التي كلفت بها كنائب للرئيس، على رأسها ملف الهجرة وحدود البلاد الجنوبية. وليس لهاريس خبرة كبيرة في السياسة الخارجية، على غير المألوف لمؤهلات نواب الرئيس في الولايات المتحدة، فاكتسبت خبرتها خلال السنوات الأربعة الأخيرة من ولايتها كنائب للرئيس بايدن. انحسرت خبرتها في مجال النيابة كمدعية عامة، ولم تكن معروفة قبل وصولها لمجلس الشيوخ، حيث عرفت عندما أصبحت كبيرة المحققين في مجلس الشيوخ في استجواب مسؤولي ادارة ترامب. بعد قرار بايدن تعيين إمرأة كنائب له في معركته الانتخابية الرئاسية، وتزامن ذلك مع أحداث مقتل جورج فلويد، ما أعقبه من احتجاجات عرقية، وضعت هاريس من بين المرشحات، وباتت أقواهم بسبب طبيعة المرحلة.
اتهمت هاريس خلال خدمتها كمدعية عامة بأنها لم تفعل ما يكفي للتصدي لوحشية الشرطة، بعد رفضها التحقيق في إطلاق الشرطة النار على مواطنين من أصحاب البشرة الغامقة ما بين عامي ٢٠١٤ و٢٠١٥، كما لم تدعم تشريع يكبح سلوك الشرطة. وليس من المستبعد أن تتراجع هاريس عن مواقفها، فقد فعلت ذلك بالفعل في قضايا تعلقت بالشأن الداخلي، فتراجعت على سبيل المثال لا الحصر عن تأيدها لحظر التكسير الهيدروليكي لإكتشاف واستخراج النفط الخام والغاز والطبيعي، وبدلت موقفها من نظام توفير الرعاية الصحية للجميع، وعدلت توجهها الداعي لتوسيع عدد أعضاء المحكمة العليا، وكذلك تراجعت عن دعمها لضمان الوظائف الفيدرالية.
وقد تعكس بعض تصريحاتها، خصوصا تلك الموجهة للعرب والشبابلهجة ناعمة مراوغة، لكنها لا تختلف في جوهرها عن تصريحات بايدن وادارته. أكدت هاريس على حق المتظاهرين بالتعبير، واحترامها للأصوات المنادية بوقف الحرب على غزة، التي جاءت خلال التظاهرات التي اجتاحت الولايات المتحدة، إلا أنها شددت على عدم اتفاقها بالضرورة مع كل ما تطرحه تلك الأصوات، مؤكدة أن هناك قضايا ترفضها تماماً من بين تلك التي يطرحها المتظاهرون. جاءت تلك التصريحات في وقت انخفضت فيه شعبية الرئيس بايدن لأدنى حدودها بين شريحة الشباب، وهي فئة حاسمة للديمقراطيين في الانتخابات. تعتبر هاريس من أكثر المسؤولين في إدارة بايدن التي ركزت على الضحايا المدنيين في حرب عزة، كما لم تحضر خطاب نتنياهو في الكونجرس، متحججة بعذر لا يحمل بعداً سياسياً، إلا أنها استقبلته بعد ذلك وفي ذات الزيارة، وأكدت على دعمها لاسرائيل، والتزامها الراسخ بأمنها، ودعم حقها في الدفاع عن النفس من الجماعات الإرهابية، ودعتكذلك نتنياهو لإنهاء الحرب.
وطالما صوتت هاريس لصالح إرسال بلادها لمليارات الدولارات كمساعدات لإسرائيل، وخلال حرب الإبادة الجارية في غزة. وبعد استهداف إسرائيل لفؤاد شكر في قلب الضاحية وسط العاصمة بيروت، أكدت هاريس على حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها من منظمة ارهابية، في إشارة مباشرة لحزب الله. وأثناء تواجدها في ولاية أريزونا، احدى الولايات المتأرجحة، اعتبرت أن "من مسؤولية إسرائيل تجنب وقوع قتلى من المدنيين"، تعليقاً على مجزرة مدرسة التابعين، دون أن تنسى المطالبة بضرورة الإفراج عن المحتجزين في غزة. ورغم تصريح زعماء حركة "غير ملتزمين"، وهي حركة تم تشكيلها من قبل شخصيات من قبل الحزب الديمقراطي تنتقد دعم إدارة بايدن غير المشروط لإسرائيل، بعد لقائهم مع هاريس في ولاية ميتشيغان، بانفتاح هاريس على مناقشة حظر إرسال الأسلحة لإسرائيل، خرج مستشارها لينفي ذلك ويؤكد أن موقف هاريس واضح بضمان قدرة إسرائيل للدفاع عن نفسها من إيران والجماعات الارهابية المدعومة منها.
هاريس متزوجة من دوغ إمهوف وهو محامي يهودي، وترتبط بلجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية المعروفة بالإيباك، وتلقت تبرعات من اللوبى اليهودى تزيد على الخمسة ملايين دولار. ورغم ارتباطها بالإيباك، إلا أن منظمة "جي ستريت" اليهودية الأقل تطرفاً من الأيباك أعلنتتأييدها لها أيضاً بمجرد الإعلان عن اختيارها للترشح لمنصب نائب الرئيس. وتنفق الإيباك ملايين الدولارات فى دعم الحملات الانتخابية، لدعم الموالين لإسرائيل أو لإسقاط معارضيها. ونجحت الايباك مؤخراً في هزيمة كوري بوش المؤيدة للفلسطينيين ومنعها من الوصول لمجلس النواب، الا أنه وفي ظل تطورات التوسع في دعم الفلسطينيين في الشارع الأميركي باتت الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي الأخيرةالأكثر تكلفة في تاريخ إنفاق الايباك.
يركز الايباك على الانتخابات الرئاسية والتشريعية بشكل خاص، لارتباط مخرجاتها مباشرة بصنع السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وتشترك المؤسسة الرئاسية والتشريعية في رسم السياسة الخارجية وتنفيذها. فالكونغرس يملك صلاحيات المصادقة على الاتفاقيات مع الدول الأخرى، وإعلان الحرب، والتحكُّم في الميزانية. وإذا اختلف حزب الرئيس عن الحزب المسيطر على الكونغرس يصبح من الصعب على الرئيس العمل بحرية لتنفيذ أجندته الخارجية. الا أن الرئيس يمتلك أداة مهمة تمكنه من تجاوُز الكونغرس في صنع قرار السياسة الخارجية ممثلة بالقرارات التنفيذية، ورغم امتلاك الكونغرس والمحكمة صلاحية النظر في مثل تلك القرارات وردّها، إلا أن ذلك يعد عملية معقدة. إن ذلك يفسر الاهتمام الكبير الذي يوليه الايباك للانتخابات الرئاسية والتشريعية. وانتقد السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز المعروف بافكاره التقدمية مدى تأثير الايباك في السياسة الأمريكية، معتبرا على أن مجرد تناول أي ناشط لحق الفلسطينيين أو انتقاده لإسرائيل يجعله هدف لمتابعة واستهداف الايباك. وحسب تقديرات فإن ٩٨ في المائة من المرشحين المدعومين من الايباك يفوزون.
ليس من المتوقع أن ينصف الفلسطينيون من قبل أي إدارة أميركية، على الأقل في المستقبل المنظور. ويتوافق الحزبان في الولايات المتحدة على دعم إسرائيل، وليس من المتوقع أن تؤدي الانتخابات القادمة لتغيير في السياسة الأمريكية تجاه هذا الملف. فحضر ترامب مؤتمراً لليهود الجمهوريين، وأعلن تأييده للحملة الإسرائيلية ضد غزة، وتعهد بوقف تأشيرات سفر النشطاء المؤيدين لفلسطين. ويتبنى ترامب ونائبه دعم إسرائيل غير المشروط أو المقيد في حربها على غزة، والسماح لها بمواصلة العمل حتى تحقيق كل أهدافها، وشكك ترامب في جدوى قيام دولة فلسطينية مستقلة، كما وعد بتعامل أكثر صرامة مع الاحتجاجات المناهضة للحرب في الجامعات الأميركية. وليس من المتوقع أن تحمل ولاية هاريس الرئاسية، إن فازت في الانتخابات، أي تغير يذكر عنسياسة بايدن، فشخصية هاريس لا تشبه على الإطلاق شخصية أوباما. في حين قد يستطيع ترامب وقف الحرب في أوكرانيا على سبيل المثال، في ظل الحاجة لامتلاك الرئيس لكاريزما ترسم شخصيته.